في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي بدأ فيروس كورونا في الانتشار في مدينة ووهان الصينية. بحسب آخر الأرقام الرسمية فإن الفيروس قد أصاب ما يقرب من 35 ألف من مواطني العالم بينهم 34.6 ألف في الصين وحدها يتركز أغلبهم في ووهان الصينية. أودى الفيروس بحياة ما يقرب من 725 شخصًا جميعهم تقريبًا من مواطني الصين. ورغم كل جهود الحكومة الصينية في احتواء هذا الوباء، إلا أن ذلك لم يمنع أن ينتشر فيما يقرب من 24 دولة أخرى حول العالم.

لا يزال فيروس كورونا في بداياته، وليس معلومًا إلى يومنا هذا هل سينتهي سريعًا أم سيتحول إلى جائحة عالمية مدمرة، لكن التأثيرات الاقتصادية المؤلمة لهذا الوباء على الاقتصاد الصيني والعالمي قد بدأت بالفعل.

للصين تاريخ طويل مع صدمات الأوبئة التي تؤثر على الاقتصاد ، ففي 2003 وبعد انتشار فيروس سارس الشهير خسرت الصين بسبب سارس ما يقارب من 1% من ناتجها المحلي بسبب انتشار سارس.

اليوم الصين أكثر اندماجًا في الاقتصاد العالمي، وفيروس كورونا تسبب في أضعاف أعداد الإصابات والوفيات التي تسبب بها سارس خلال وقت قصير للغاية، كل هذا يضع مخاوف كبيرة حول الأثر الذي سيخلفه هذا الفيروس ليس في اقتصاد الصين فحسب، بل اقتصاد العالم كله.

فيروس كورونا يشل الاقتصاد الصيني

أعلنت الصين في بداية فبراير/شباط تمديد العطلة السنوية للحد من انتشار فيروس كورونا. كانت الصين قد أعلنت عن غلق جزئي أو كلي للمصانع في 14 مقاطعة ومدينة صينية، تمثل تلك المقاطعات ثلثي الناتج المحلي الصيني، فضلاً عن مساهمتها في ما يقرب من 78% من صادرات الصين.

يؤثر انتشار كورونا بشكل كبير على سير العمل في الصين التي تعد “مصنع العالم الحديث”، حيث تستحوذ على ما يقرب من 17% من حركة السلع والخدمات في العالم. ذلك الارتباط الكبير بين الصين والعالم ليس فقط في جانب تصدير السلع الصينية لمختلف الدول، لكنه أيضًا في جانب الاستهلاك. 

مع انتشار الفيروس، يتوقع أن يتأثر الاستهلاك المحلي والعالمي بشكل كبير، فالصينيون بحكم الأمر الواقع هم أكبر قاعدة استهلاكية من حيث العدد في العالم، سيضر هذا بقطاعات كالزراعة والأغذية والصناعة والخدمات أيضًا.

 سنويًا يسافر ما يقرب من 150 مليون صيني للخارج من أجل السياحة والعمل والدراسة، يعتبر هؤلاء المستهلكين الأكبر للخدمات السياحية في العالم، حيث ينفق هؤلاء ما يقرب من 258 مليار دولار، وهو ضعف الرقم الذي ينفقه السياح الأمريكيون.

أيضًا تعتبر الصين الوجهة السياحية الرابعة على مستوى العالم، حيث تستقبل 141 مليون سائح وهو ما يعني أن توقف السفر قد يكلف الصين والاقتصاد العالمي الكثير في قطاع السياحة. 

يعتبر الاستهلاك المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي في الصين كما في الدول الأخرى ومن شأن تباطؤ هذا الاستهلاك، نتيجة لإجراءات الحجر الصحي وتعطيل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، أن يؤثر بشكل كبير على نمو الاقتصاد الصيني. في 2019 كان النمو في الاستهلاك المحلي في الصين مسؤولاً عن أكثر من نصف نمو الاقتصاد الصيني الذي تحقق في نفس العام وهو 6.1%.

تراجع النشاط الاقتصادي الصيني جراء الوباء سيؤثر في اقتصاد العالم أجمع. يتضح ذلك جليًا في أسعار النفط التي انخفضت لمستوى قياسي بعد انتشار كورونا، حيث انخفض خام برنت لأدنى مستوى له خلال عام ليسجل 54 دولارًا للبرميل. كان هذا الانخفاض مدفوعًا بتراجع الطلب الصيني على النفط نتيجة لإغلاق المصانع، حيث تعد الصين أكبر مستورد للنفط في العالم.

تسعل الصين فيصاب اقتصاد العالم بالزكام

حتى وإن بقي الكورونا معزولًا في الصين فإن آثاره المدمرة ستمتد خارجها، فسلاسل الإنتاج العالمية اليوم أصبحت أكثر ارتباطًا بالصين من أي وقت مضى. هواتف أبل وسامسونج وسيارات هيواندي، وكل سلعة يمكن أن تتخليها تقريبًا، تمر عبر أحد الموردين الصينيين.

على سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن 4 مليون جهاز أيفون سوف يتأخر شحنها في الربع الأول من 2020، يهدد ذلك بمشاكل في مخزون أبل، وبالتالي إذا استمر غلق المصانع فترة طويلة في الصين فإن تلك الهواتف سوف تزيد أسعارها.

دع عنك شركات الإلكترونيات الصينية الكبرى مثل هواوي وأوبو والتي يتوقع أن يتراجع إنتاجها بنسب تصل لـ 32% في الربع الأول من عام 2020. انعكست تلك المخاوف على أسعار الهواتف الذكية، إذ ارتفعت بحوالي 5% بسبب المخاوف من تأثير كورونا. 

أيضًا من المتوقع أن تتأثر صناعة السيارات بشكل كبير، فالصين اليوم تشارك بشكل واسع في صناعة مختلف السيارات حول العالم. الشركات الألمانية، على سبيل المثال، تمتلك 40 مصنعًا لتصنيع أجزاء من سيارتها في الصين، ومن المتوقع أن تتأثر بشدة جراء غلق تلك المصانع. كذلك هيونداي أعلنت هي الأخرى وقف الإنتاج في مصانعها داخل كوريا الجنوبية بسبب توقف توريد بعض الأجزاء من الصين، وهو ما يرجح أن ترتفع أسعار تلك السيارات إذا استمر إغلاق المصانع. 

بسبب هذا التداخل الاقتصادي بين الصين وكافة دول العالم، يتوقع معهد البحوث الاقتصادية في ميونخ أن كل تراجع بنسبة 1% في معدل النمو الصيني سيؤدي إلى تراجع معدلات النمو في ألمانيا بـ 0.6%. تتزايد احتمالية الضرر بقدر الارتباط مع الاقتصاد الصيني، وبقدر اعتماد الدولة على سلاسل التوريد الصينية، لذلك سنجد أن أكثر الدول تضررًا هي كوريا الجنوبية وأمريكا والتي تعتمد بشكل كبير على تصنيع أجزاء من منتجاتها في الصين.

ذلك الوضع يدفع الشركات الدولية للضغط على الحكومة الصينية لإعادة فتح المصانع، وهو ما كان مقررًا له في العاشر من فبراير الحالي، لكن يبدو أن وتيرة انتشار الفيروس قد جعلت من الصعب إعادة فتح المصانع في ذلك التاريخ.

هل يتجه العالم لأزمة اقتصادية جديدة؟

تطورت النظم الصحية في الصين بشكل كبير منذ وباء السارس في 2003. ظهر ذلك في قدرة الحكومة الصينية على فرض أكبر حجر صحي في التاريخ البشري، لما يقرب من 50 مليون مواطن صيني، وإنشاء مستشفى خاص بمرضى الكورونا في غضون عشرة أيام فقط.

لكن ما يقلق هو سرعة انتشار الفيروس حتى الآن، فالفيروس اليوم قد أصاب ما يقرب من 35 ألف مواطن في الصين في أقل من شهر واحد، وهو 3 أضعاف إصابات فيروس سارس التي بلغت 8 آلاف حالة في 2003. 

إمكانية الحكومة الصينية للحد من انتشار الوباء يرتبط بعوامل كثيرة منها قدرة منظمة الصحة العالمية وشركات الأدوية والصين وشركائها الدوليين على تطوير علاج للفيروس في أسرع وقت ممكن، وكلما قللت الحكومة الصينية تلك المدة فإن ذلك يعني أن قدرتها على التعافي من العواقب الاقتصادية للفيروس أكبر وأسرع.

تمر الصين أساسًا في العشر سنوات الأخيرة بتباطؤ في معدلات النمو، فلم تعد تحقق معدلات الـ10% التي كانت تحققها في بدايات الألفية الثانية وحتى الأزمة المالية العالمية في 2008. تحقق الصين معدلات تقترب في المتوسط من 6% في الخمس سنوات الأخيرة، مما يجعل تكلفة تعافي الصين بعد تلك الأزمة أكبر بكثير من تكلفة تعافيها من أزمات سابقة كفيروس السارس. 

لم تكد تهنأ الصين، وحركة التجارة الدولية، بالاتفاق الذي وقعته الصين مع الولايات المتحدة منتصف يناير/ كانون الثاني، بعد حرب تجارية دامت ما يقرب من 3 سنوات، ليجدوا أنفسهم أمام الأثر الاقتصادي المدمر للكورونا، ما حدا بالبعض إلى إطلاق نظريات المؤامرة.

لكن، وكما حدث مع أزمة عام 2008 الاقتصادية، التي بدأت في الولايات المتحدة، يكفي انهيار اقتصادي في أحد الاقتصادات الكبرى في جانب من العالم لجذب كافة الدول نحو هاوية من الركود والكساد، تكلف ملايين الناس في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية لقمة عيشهم واستقرار أسرهم.