كثيرًا ما أتساءل عما إذا كنا لا يجب أن نعلق آمالنا كثيرًا على الدساتير، وعلى القوانين، وعلى المحاكم. هذه آمال خاطئة؛ صدقوني، هذه آمال زائفة. الحرية تكمن في قلوب الرجال والنساء. عندما تموت هناك، لا دستور، لا قانون، لا توجد محكمة يمكن أن تحييها من جديد.
القاضي الأمريكي ليرند هاند، خطاب في حديقة سنترال بارك، نيويورك، مايو/آيار 1944

في أحد فيديوهاته المنشورة على صفحته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، التي أثارت اهتماماً وجدلاً واسعاً في الفترة الأخيرة، تحدث الفنان والمقاول المصري محمد علي عن تصوره لبناء سياسي للدولة المصرية سياسي يقوم على تمثيل محلي للمحافظات، في طرح مقارب لرؤية مرشح رئاسة الجمهورية التونسية قيس سعيد.

فكرة سعيد تقوم على بناء السلطة التشريعية والسياسية من المحلي نحو المركزي، من خلال هرمية مؤسسية قاعدتها مجالس الحكم المحلي التي تتمتع بسلطات واسعة للتخطيط لمشاريع التنمية المحلية ومراقبة أداء السلطة التنفيذية داخل هذا التصور، ويتوسطها مجالس جهوية للولايات (المحافظات) التونسية، ويتصدرها في القمة برلمان لنواب الشعب.

 تقترب هاتان الفكرتان والأطروحات الشبيهة بهما في الوطن العربي بدرجات متفاوتة من القرب والبعد من مفهوم الديمقراطية المباشرة، فما الديمقراطية المباشرة،وما الإجراءات التي تكفل من خلالها الحكم المباشر لقواعد الشعب، وهل لا يزال لها وجود في وقتنا الحاضر؟

ما شكل الحكم في الديمقراطية المباشرة؟

في مقابل الديمقراطية النيابية أو غير المباشرة، تعتبر الديمقراطية المباشرة أعلى أشكال مشاركة المواطنين في صنع القرار السياسي، تعمل الديمقراطيات المباشرة في هذا السياق عن طريق الاستفتاءات والمبادرات التي يصوت فيها المواطنون على القضايا بدلاً من المرشحين أو الأحزاب. ويستخدم المصطلح أيضًا في بعض الأحيان لممارسة انتخاب الممثلين في تصويت مباشر وليس بطريقة غير مباشرة من خلال هيئة منتخبة وسيطة.

قد تُفهم الديمقراطية المباشرة على أنها نظام شامل لحكم الدولة، لكن في العصر الحديث تكون عادًة مجرد شكل من أشكال متعددة لصنع القرار السياسي داخل النظام السياسي الواحد، ضمن نظام أوسع للديمقراطية التمثيلية.

يستند البناء النظري للديمقراطية المباشرة بشكل أساسي على فكرة السيادة الشعبية وفكرة الحرية والمساواة السياسية. خلال القرن التاسع عشر، واجهت هذه المبادئ في أوروبا تحدياً متزايداً، أو فرغت من مضمونها خارج المؤسسات النيابية. على نحو طورت معه النخب السياسية مصالح قوية تدعم احتكار السلطة، ولهذا ولدت في تلك الأثناء أفكار راديكالية معادية للديمقراطية تسعى لتقويض البنية السياسية التمثيلية برمتها مثل الأناركية أو اللاسلطوية.

تجارب الديمقراطية المباشرة القديمة والحديثة  

أبرز مثال ونموذج تاريخي للديمقراطية المباشرة تجربة الحكم في دول المدن اليونانية القديمة ولا سيما آثينا. التي استبعد في ديمقراطيتها النساء والعبيد والأجانب من التصويت، واقتصر هذا الحق علي المواطنين الذكور الأحرار. تألفت الديمقراطية الأثينية في هذا السياق من ثلاث مؤسسات: الجمعية العامة التي تتألف من جميع المواطنين وهم حوالي 1000 مواطن من الذكور، 500 مواطن مسؤول عن إدارة المدينة، ومحاكم قانونية لها سلطة محاكمة جميع الجرائم. في ظل النظام الأثيني، كان المواطنون يشاركون بنشاط وبشكل مستمر في هذا الإطار في إدارة كل الحياة السياسية. وكذلك الحكم في كل قضية من قضايا المحكمة بتصويت الجمعية، ولعل هذا هو النموذج الملهم لفكرة لجان المحلفين في النظام القضائي الأنجلوساكسوني المعاصر في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

تم تطبيق الديمقراطية المباشرة أيضاً في بعض المستعمرات والولايات الأمريكية. كما بدأت الولايات المتحدة في وقت مبكر في استخدام الإجراءات التي تم فيها التصديق على الدساتير أو التعديلات الدستورية من خلال الاستفتاءات، والتي أصبحت فيما بعد شائعة في أمريكا وفي مختلف أنحاء العالم. هذا في مقابل فكرة السيادة الشعبية في الثورة الفرنسية التي كانت تجربة مشوهة خلال ما عرف بـ«عهد الإرهاب» وفترة حكم نابليون.

 أدرجت سويسرا والعديد من الولايات الأمريكية الديمقراطية المباشرة في دساتيرها خلال القرن التاسع عشر، بينما تبنت ألمانيا وعدد قليل من الدول بعض العناصر بعد الحرب العالمية الأولى. في زماننا المعاصر تطبق الديمقراطية المباشرة في العديد من الكانتونات والبلدات السويسرية.

بشكل عام يمكن أن نلمس وجود الديمقراطية المباشرة في وقتنا الحاضر، خلال بعض الحالات الخاصة من التطور السياسي، من أبرزها عمليات الاستقلال السياسي/الإقليمي لإضفاء الشرعية على وحدة الدولة الجديدة، وكذلك خلال عمليات التحول الديمقراطي من الحكم الاستبدادي وما تتضمنه من انتخابات واستفتاءات لوضع الدساتير الجديدة.

مزايا وعيوب الديمقراطية المباشرة

حتى نتأمل في إمكانية تطبيقها في عالمنا العربي في يوم من الأيام، علينا أولًا أن نفهم أن فكرة الديمقراطية المباشرة، كما أن لها إيجابيات، فإن لها سلبيات أيضًا، ولذلك لا يلجأ إليها كأسلوب للحكم السياسي عادًة إلا على نطاقات محلية صغيرة.

أبرز إيجابيات الديمقراطية المباشرة في هذا الإطار هي شفافية الحكومة الكاملة، فلا يوجد شكل آخر من أشكال الديمقراطية يضمن درجة أكبر من الانفتاح والشفافية بين الشعب وحكومته، حيث تعقد المناقشات والمناقشات حول القضايا الرئيسية في الأماكن العامة المفتوحة.

توفر الديمقراطية المباشرة أيضًا المزيد من الرقابة والمساءلة الحكومية، وتقضي إلى حد كبير على التدخل في العملية التشريعية من قبل مجموعات المصالح الخاصة، بالإضافة إلى أن مشاركة المواطن على هذا المستوى من المشاركة والتأثير الكبير، يؤدي من الناحية النظرية على الأقل، أن يمتثل الناس برضا للقوانين التي يشرعونها بأنفسهم. علاوة على ذلك، فإن الأشخاص الذين يعرفون أن آراءهم سوف تحدث فرقًا، يكونون أكثر شغفًا للمشاركة في العمل العام.

من جهة أخري تتمثل سلبيات الديمقراطية المباشرة، في أنها تمثل تحديًا لفاعلية مبدأ الديمقراطية ذاته، فأمام القضايا الواسعة المطروحة أمام الحكومة وجهات الحكم المحلي، سيكون على للمواطنين حرفيًا قضاء كل يوم في إجراء عمليات التصويت التي لا تتتهي.

في هذا السياق مشاركة الجمهور ستنخفض، نظرًا لزيادة الوقت اللازم للمناقشة والتصويت، علمًا بأن الديمقراطية المباشرة تخدم مصلحة الناس على أفضل وجه عندما يشارك فيها معظم الناس، ولهذا فإن الفائدة العامة والمشاركة في العملية ستنخفض بسرعة، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات لا تعكس حقًا إرادة الأغلبية. في النهاية ، ويمكن هنا لمجموعات صغيرة من الناس من أصحاب المصالح الخاصة أن يسيطروا على عمل الحكومة.

على غرار الديمقراطية الأثينية، تخلق الديمقراطية المباشرة نوعاً من الإقصاء الذاتي لمجموعات بعينها كالنساء ذوي الدخل المحدود وغير المتعلمين، على نحو يغيب معه التمثيل السياسي الملائم لمصالح تلك الفئات.

وأخيرًا في مجتمعات كبيرة ومتنوعة يؤدي التسييس المفرط مع الاختلاف السياسي المتوقع حدوثه في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، إلى تقسيم المجتمع بشكل مستمر إلى أغلبية وأقلية، مما سيرفع من مستوى التوتر الاجتماعي العام بما يهدد الاستقرار والسلم الأهلي والوحدة السياسية والاجتماعية لكثير من المجتمعات بنهاية المطاف، ولهذا فإن فكرة الديمقراطية المباشرة ليست فكرة مثالية بحد ذاتها إلى حد بعيد، ولكن لا شك أنه يمكن الاستفادة منها في عالمنا العربي في إطار نظام متعدد من مستويات صنع واتخاذ القرار السياسي والتشريعي.