بالرغم من أن فكرته انطلقت كوسيلة لتواصل بعض الأصدقاء المقربين لـ مارك مؤسس الموقع أثناء تواجدهم في الجامعة في عام 2004، إلا أن الفكرة انطلقت في التوسع والتطور حتى أصبح الموقع من أكثر المواقع المستخدمة على الويب، كما أنه مثّل حركة تطور سياسية واجتماعية ليس في أوروبا فقط ولكن في جميع دول العالم. كما أن التطورات التي أدخلت على الموقع من خلال الخدمات المتطورة نجحت في تسهيل تبادل المعلومات المرئية والمقروءة والصوتية، وهو ما أسرع من عملية التثقيف والتغيير الاجتماعي داخل المجتمعات.التغيير الذي أحدثته مواقع مجموعة « الإعلام الاجتماعي» وعلى رأسهم فيسبوك كان لها الأثر الأكبر في إحداث تغييرات جذرية سياسية في مواطن كثيرة في العالم، سواء في معارضة الأنظمة السياسية بشكل عام مما أدى إلى إسقاطها كما ترويه ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، أو توفير منصة لمعارضة سياسات معينة. كما في بعض الأحيان مثّلت منبرًا لحملات الدعم والمناصرة السياسية والحقوقية، وأخيرًا استخدمت مواقع التواصل الاجتماعي كمؤتمرات للدعاية الانتخابية.تأتي البداية الأولى للدور السياسي للتكنولوجيا الحديثة في الأعوام العشر الأخيرة، فقد ذهبت مظاهرات بريطانيا في إبريل 2009 احتجاجًا على اجتماع رؤساء دول العشرين اعتراضًا على الأساليب القمعية للشرطة، وكذلك الاحتجاجات الإيرانية والحركة الخضراء في عام 2009 حيث ظهر دور موقع تويتر في تنظيم الاحتجاجات. وبالتالي يمكننا القول بأن زيادة تأثير الإنترنت في الحياة السياسية ارتبط بنشاط الحركات الاجتماعية في أوروبا الشرقية التي أعادت نشاطها الحركي في منتصف التسعينات، كذلك ظهر هذا التأثير في الوطن العربي والشرق الأوسط ارتباطًا بالحركات الاجتماعية الاحتجاجية، فكيف أفاد فيسبوك تلك الحركات في نجاح أهدافها؟، وإلى أين يمكن لـ فيسبوك توفير بديل للحركات الاجتماعية الاحتجاجية التقليدية؟.


هل يوجد في الوطن العربي حركات اجتماعية؟

من تتبع مفهوم الحركات الاجتماعية نجد أنها « الجهود المنظمة التي يبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع أو السياسيات أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقترابًا من القيم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة». ولكن بشكل عام يحمل مصطلح الحركات الاجتماعية شمولًا في مفهومه وتنوعًا من حيث أشكال تلك الحركات التي قد تكون راديكالية أو ثورية أو إصلاحية.

مفهوم الحركات الاجتماعية السابق يحمل في طياته أهم سمات تلك الحركات حيث أنها منظمة، لها أهداف واضحة، لديها سياسات واضحة، كما تمتلك هياكل تنسيقية، وكذلك لديها أدوات و وسائل للتعبئة والحشد والاستدامة، وأخيرًا تؤمن بمجموعة من القيم. كما أنها تتداخل بين مفاهيم المجتمع المدني وحملات الدعم ومفهوم الحركات الاجتماعية.

الحركات العربية الاحتجاجية

يذهب كتاب « الحركات الاجتماعية في المنطقة العربية بين السياسي والاجتماعي» المنشور على موقع البدائل العربي للدراسات بأن الحركات، التي شهدها الوطن العربي منذ منتصف التسعينات وتزايدت في منتصف العقد الأول من الألفية، هي حركات احتجاجية أكثر منها اجتماعية، ويرتبط ظهورها بمناهضة العولمة، والاحتجاج على السياسات الرأسمالية والنيبوليبرالية، وكذلك ارتبطت بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمد الديمقراطي الذي شهده العالم، وتوسع دور المجتمع المدني.واجهت تلك التحركات في فترة ما قبل الربيع العربي الكثير من الضغوط والأزمات الناتجة عن هشاشة الهياكل التنسيقية لها، وقلة إعداد أعضائها، الأمر الناتج عن فقدان ثقة كثير من أبناء الشعوب العربية لتلك التحركات، كذلك غياب قدرتها على التأثير نتيجة عدم قدرتها على التواصل الجماهيري، وقلة الموارد المادية التي تستخدم في الأساليب التقليدية للحشد والتعبئة، بالإضافة إلى سياسات التضييق الأمني التي اتخذتها الحكومات البوليسية. ولكن في الوقت الذي بدأت فيه المنطقة العربية استخدام وتوظيف وسائل التكنولوجيا الحديثة وخاصة التواصل الاجتماعي، استطاعت تلك الحركات الانتشار والتوسع ومعالجة حالات القصور بها، وهو ما أدى إلى تغيير سياسي واجتماعي في الوطن العربي منذ بداية العقد الثاني.

اللاحركات الاجتماعية عند آصف بيات

ظهرت بعد الربيع العربي حالة من الحراك الثوري المتصاعد لتحركات سياسية وقوى سياسية لا تنتنمي إلى حركات اجتماعية أو احتجاجية أو أحزاب سياسية وهي غير منظمة وليست لها قيادات واضحة، كما غاب عنها الإطار الفكري والأيديولوجي، وتتسم تحركاتهم بالعفوية ومن هنا طور آصف بيات مفهومًا جديدًا لتلك التحركات الفردية في الوطن العربي تحت مصطلح « اللاحركات الاجتماعية» وهي مجموعة الأنشطة الجماعية التي يقوم بها فاعلون غير جمعيين، فهي مجموعة من الممارسات التي يقوم بها أعداد كبيرة من البشر العاديين دون اتفاق مسبق بينهم، مما ينتج عنه تغيير اجتماعي معين.يأتي تعريف بيات لللاحركات الاجتماعية بعد أن تراجعت الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي بعد عاصفة الربيع العربي التي حققت كثيرًا من أهدافها. وبالرغم من ظهور الشكل الجديد لتلك الحركات والذي تحدث عنه بيات، إلا أن السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ نهاية عام 2013 تراجعت حتى تلك التحركات بشكل كبير، وذلك نتيجة نجاح قوى الثورة المضادة في الوصول إلى الحكم مرة أخرى، واستغلت تلك القوى تصاعد الأعمال الإرهابية من قبل الجماعات الجهادية. عملت الأنظمة السياسية العربية على التنكيل بكل القوى المعارضة لها، وصل هذا إلى التنكيل العلني وتوظيف الإعلام في محاربة القوى المعارضة. كذلك أدى صدور قوانين مثل قانون التظاهر في مصر، وقوانين الإرهاب في أكثر من دولة عربية إلى تراجع فعلي لتلك التحركات، بالإضافة إلى القمع الأمني والاختراقات الأمنية التي حدثت داخل الحركات الاجتماعية التقليدية بل والأحزاب المعارضة. كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى وأد تلك التحركات ولم يظل منها سوى التحركات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي.ويبقى أن الحركات الاحتجاجية واللاحركات الاجتماعية نجحت في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي كآلية للتعبير والتثقيف السياسي والحشد والتعبئة الجماهيرية السياسية في مليونياتها أو مظاهراتها الشعبية، مما يخلق من التأثير في المجال العام.

كيف ساعدت الأنظمة على رواج الحركات الاجتماعية على فيسبوك؟

أدت السياسات القمعية للأنظمة السياسية العربية إلى خنق مساحة الحرية التي استخدمتها القوى السياسية المختلفة للتعبير عن المطالب الشعبية أو لعب أي دور سياسي، فخنق المجال العام بقانون التظاهر عجّل من سرعة لجوء النشطاء السياسيين إلى العالم الافتراضي واعتباره منصة التعبير الوحيدة التي ما زال بإمكان النشطاء التعبير من خلالها.ويرجع أيضا اختزال النشطاء لنشاطهم على فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي إلى قدرتها في التأثير في قاعدة جماهيرية أكبر، ووجود جو ديمقراطي في نقاش العديد من القضايا وتوفير مناخ لتطوير الأفكار والأهداف، وبالتالي توحيد الأهداف والمطالب. كذلك يحقق العمل الإلكتروني شرعية في العمل حيث أنه يبعد عن اللحاق الأمني أو القتل أو الاعتقال الذي يشهده المجال العام. وبالرغم من محاولة الأنظمة العربية إغلاق هذا المجال والتنكيل بالنشطاء الذين يسعون إلى معارضتها من خلال العالم الافتراضي وهو ما نراه مؤخرًا مع رسام الكاريكاتير إسلام جاويش، ولكن ما زال هذا التنكيل محدودًا جدًا نتيجة غياب إطار قانون جنائي في استخدامه.تتسم التحركات الاحتجاجية الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، بمجموعة من السمات فهي حركات وأنشطة غير منظمة ولا يوجد لها هيكل إداري أو تنسيقي معين، هادفة إلى الدعم والمناصرة، ومنبر للاحتجاج على السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مجموعات مرنة ومتجددة من حيث الأهداف التي تسعى إليها فتظهر في معارضة سياسات معينة ثم تختفي ثم تعود بشكل آخر، تتسم بقاعدة جماهيرية افتراضية مناصرة كبيرة ومتغيرة مما لا يسمح بحدوث انشقاقات داخلية، كما أنها تتمتع بقدرتها على التوعية والتثقيف بشكل أكبر من الحركات التقليدية لما توفره من تداول للمعلومات بشكل سريع.

فيسبوك ومليونيات افتراضية

طور فيسبوك باعتباره أكثر مواقع التواصل الاجتماعي استخدامًا في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي أدواته المستخدمة في التواصل، الأمر الذي أتاح للنشطاء استخدام آليات مختلفة في التعبير عن آرائهم، فاستخدام الكاريكاتير ووسائل السخرية والهاشتاج وخدمة تداول وتشارك الفيديوهات والصور وإنشاء الصفحات الخاصة. ربما هي تطورات قديمة ولكن ساهمت في تداول أكبر للمعلومات في ظل مناخ عام يفتقد لتوافر قانون يحمي حرية تداول المعلومات.كما أن فيسبوك ووسائل التواصل وفرت وسيلة للتواصل المباشر بين المحتجين افتراضيًّا وصفحات الحكومات الرسمية، حيث سعت المؤسسات الحكومية العربية إلى أن يكون لها منابر افتراضية تحاول عليها نشر فاعليتها وأنشطتها وهو ما وفر إتاحة أكبر للمعلومات، مما يعجل بسرعة الاستجابة الحكومية لمطالب الحركات الافتراضية. وسائل التواصل الاجتماعي استطاعت إحراج الأنظمة السياسية بتوفير معلومات موثقة بالصوت أو الصورة أو الفيديوهات، مما أعطى لتلك التحركات قدرة أكبر على الحشد الافتراضي وهو ما نلاحظه من ثورة ومليونية الهاشتاجات، وانتفاضة الشير للفيديوهات والصور كوثائق إدانة للحكومات.يمكننا رصد عدد لا بأس به من مليونيات افتراضية سواء دعمًا ومناصرة للنشطاء والمعتقلين في مصر بعد 30 يونيه، وهو ما نجحت في الإفراج عن البعض مثل إسراء الطويل وإسلام جاويش. وهناك بعض الأمثلة التي ما زالت تحاول التأثير للإفراج عنهم مثل الباحث إسماعيل الإسكندراني وغيره الكثير. كما أن تلك الحركات قادت حملات معارضة واحتجاج لبعض السياسات والقوانين التي أقرتها حكومات ما بعد 30 يونيه، وكذلك الدعوات إلى إسقاط النظام السياسي في مصر في الذكرى الخامسة للثورة المصرية.
جوا

في نهاية المطاف نجح فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي في كسر حاجز احتكار الحكومات ورجال الأعمال لوسائل الإعلام التقليدية لصالح الفئات التي كتمت أفواهها في المجال العام، واعتقلت شبابها، وأغلقت نشاطاتها، واخترقت مؤسساتها، ومن ثم أصبح منصة لحرية التعبير وتداول المعلومات والتثقيف السياسي وكذلك الاحتجاج السياسي. ففي الوقت الذي لا يمكن فيه وصف فيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي كمؤسسات بأنها حركات اجتماعية أو احتجاجية، ولكن تشكلت من خلاله حركات احتجاجية كبرى أدت إلى تغييرات سياسية وجذرية في منطقة الشرق الأوسط، وحافظت على بقاء التحركات الشبابية والشعبية محل تأثير في السياسات العامة.إن محاولات السلطات العربية للسيطرة والتحكم في مواقع التواصل الاجتماعي أو محاولة تضييق حرية التعبير وتداول المعلومات من خلاله سيكون له رد فعلي عسكي، حيث سيسرع ذلك من عودة الحركات الاحتجاجية العنيفة إلى الميادين وهو ما يسرع بسقوط تلك الأنظمة.