كثير منا اضطر إلى وصف إحدى كذباته بالكذبة البيضاء، لكن أليست إشكالية أخلاقية/ فلسفية أن نصف الكذب بالبياض أو النقاء والطيبة؟

إن استمرار كذباتنا البيضاء وتطورها لتأخذ شكل «الأفضل» هو ما يؤكد إشكالية الأمر، لنتخيل مثلاً مديرك المباشر يسألك عن مستوى زميلك في العمل أو عن واقعة أنت تعرفها جيداً لكن الإجابة «بصدق» غالباً ما ستتسبب في أذى لزميلك فتقرر ألا تخبر المدير بحقيقة الأمر.

والآن لنأخذ الأمر أبعد من ذلك، ففي حال أنك أخبرت مديرك بما وقع فعلاً وتسبب هذا الأمر -أو بالأحرى تسببت أنت- في فصل زميلك المعيل لأسرته عن العمل.

السؤال هنا: هل يصير الكذب أبيض لدرجة إزاحته الصدق من حيز الأخلاق إلى «الرذيلة» ولو في موقف واحد؟

هكذا قالت الفلسفة

اختلف الفلاسفة -أو علماء الكلام- المسلمون في أفعال العباد التي تقع منهم؛ هل هي من خلقهم كما هو مشهور عن المعتزلة؟ أو هي من خلق الله وبالتالي نحن غير مسؤولين عن أفعالنا كما هو عند الجبرية؟

في الإجابة عن هذه التساؤلات قدم أبو الحسن الأشعري -فيلسوف ومتكلم خلال القرن الثالث والرابع الميلاديين- نظرية «الكسب» في تحليل مسؤوليتنا عن أفعالنا، التي تعني أن «الفعل من الله إيجاد ومن العبد كسب»، فبحسب الأشاعرة فإن أخص وصفٍ لله هو القدرة، وبالتالي يؤكدون أنه «لا مؤثر في الوجود إلا الله» لذلك فإن ذات الفعل من الله، سبحانه وتعالى، خلقاً وتأثيراً.

واختلف تلامذة الأشعري والمنتسبون لمذهبه حول تفسير الكسب، وواحد من أهم التفاسير لنظرية الكسب ومن أقدمها تاريخياً لأبي بكر الباقلاني[1] معتمداً في تفسيره على مفهوم «التصرف» وهو تأثير الشخص في صفة فعله، لكن إذا كان الفعل من الله إيجاداً أو خلقاً فماذا يعني تصرف الإنسان؟

الأمر محسوم عند الجبرية كما يوحي اسمهم، فنحن مجبورون على أفعالنا وليس للإنسان تصرف في فعله، أما عند المعتزلة فالسؤال غير وارد لأننا «نخلق» أفعالنا.

أما عند الأشاعرة -مذهب أبي الحسن الأشعري- ففي الإجابة على سؤال كيف يمكن الجمع بين تصرف العبد وخلق الفعل يستخدم الباقلاني ثنائية ذات الفعل وصِفة الفعل، وهنا تحديداً نصل إلى العلاقة بين فهم نظرية «الكسب» حسب تفسير الباقلاني ونظرية «موت المؤلف» عند رولان بارت.[2]

الزمان الوجودي للمؤلف

تعني نظرية موت المؤلف أنه لفهم النص يجب الفصل بين المؤلف وسياقه من جهة، والنص المقروء من جهة أخرى، وهو ما يعني أن النص نسق مستقل بذاته وبنية منفصلة عن السياق التاريخي أو الاجتماعي للمؤلف، ولمزيد من التوضيح، تجب الإشارة إلى ما قرره ملا صدرا الشيرازي -فيلسوف إيراني القرن العاشر الهجري- أن وجود أي موجود يخضع لأربعة أمور منها الزمان.

 يربط السيد كمال الحيدري -مرجع شيعي معاصر- بين الزمان الوجودي عند ملا صدرا وموت المؤلف عند رولان بارت فيفسر رفض بارت لوجود المؤلف في أزمنة مختلفة بعد كتابة النص بأن هذا الرفض بناءً على أن المؤلف لا يستطيع الخروج من زمانه إلى زماننا حتى لو تم استدعاؤه.

يمثل الحيدري الأمر بالأعداد، فالعدد أربعة مثلاً وجوده بين الثلاثة والخمسة، وإذا اختلف وجوده بين هذين العددين لم يصبح أربعة كما كان هكذا المؤلف لا يستطيع أن يترك زمانه إلى زماننا لأن حقيقة وجوده مبنية على زمان معين.

لكن هذا التفسير إذا صح فهو لا يحل إشكالية المعنى؛ أولاً لأنه يربط ربطاً وجودياً بين المعنى والمؤلف وفي الحقيقة فإن فعل المؤلف هو ما يمكن أن يصدق عليه وصف التاريخية الوجودية بما أنه فعل وقع في «زمان» معين بخلاف «أثر الفعل» فهو ممتد.

تصرف المؤلف بالألفاظ وانتخاب معنى معين عملية فوق زمانية أو تحديداً المعنى نفسه فوق تاريخي أو زماني، فالمعاني ثابتة وقد يطرأ عليها الوجود كما لو انتخبها مؤلف أو يعرض عليها العدم إذا لم تكن مُرادة أو ملغاة.

تختلف نظرية الكسب بشكل حاسم مع نظرية موت المؤلف في ثبوت المعنى أو الصفة للأفعال ففي حين يقول بارت، إن المعنى للنص الواحد يختلف باختلاف القراءات، فنجد علماء الكلام أشاعرة ومعتزلة يؤكدون أن حقائق الأشياء ثابتة في نفسها وبالتالي كل من الحسن والقبح ثابت بحيث إن الصفة لا تتغير.

إذا طبّقنا هذه الأقاويل على الأمثلة السابقة، فإن صفة الكذب لم تتغير مثلاً وصارت من قبيحة إلى حسنة، لكن الفعل لم يأخذ صفة القبح لأن صاحبه قصد منه حماية زميله، هنا الكذب لم يكن مقصوداً ولا في حسبان القائل، فنحن إذاً لا نغير من صفة الشيء/ الكذب وإنما نختار/ نريد من بين الأوصاف صفة معينة للفعل فيكون كذباً أو صدقاً.

وعلى هذا فإن عبارة «القبح من الصفات التابعة للحدوث»[3] ليس معناها أن القبيح يصير قبيحاً عند الحدوث لكنّ معناها أن القبح أو الحسن منصب على الفعل عند حدوثه، فالفعل عند حدوثه فقط تكون له صفة حسن أو قبح بحسب قصد الفاعل وما يكون قبل حدوث الفعل مجرد نُطق بالكلام أو حركة الجسم مجردة عن أي صفة، هذا الثبوت لحقائق/ماهيات الأشياء يجعل مسألة الحساب مسألة معقولة ومنصفة من حيث إنك تعرف حقيقة صفة الصدق ومختلف الأخلاق أو الرذائل.

أما إذا سلمنا بموت المؤلف، فالسؤال ما زال قائماً؛ ما الذي مات بموت المؤلف؟! لنا هنا أن نقول إن ما انقطع هو «فعل المؤلف» وهو التعبير عن معنى ما، لكن ليس شرطاً أن ينتهي المعنى «المُعبر عنه» أو ينعدم بانتهاء فعل التعبير؛ لذلك يكون المعنى رهيناً/محبوساً في النص إلى الأبد، واختيار المجاز دون الحقيقة هو تأكيد أن ثمة معنى مبثوثاً في النص علينا أن نعيره اهتماماً، القرينة هنا التي صرفنا بها اللفظ عن ظاهره موجودة داخل النص ولا تقحم من خارجه، هذه القرينة هي ما يؤكد سطوة المؤلف على نصه عن طريق «انتخاب» معنى معين اختار المؤلف التعبير عنه بتعبير مجازي غير حقيقي.

ما هو المؤلف/ ما هو النجم؟

نعود مرة أخرى للباقلاني، الذي حاول حل الإشكال بين خلق الأفعال ومسؤولية الفرد تجاه أفعاله عبر ثنائية ذات الفعل وصفة الفعل؛ فوجود ذات الفعل ليس داخلاً في نطاق مسؤولية الإنسان أو قدرته لكن صفة الفعل هي الداخلة في مسؤولية الفرد، إجابتك عن سؤال المدير بخصوص زميلك هي فعل -تحدث أو نطق بكلام- غير موصوف بالحسن أو القبح «قصدك» أنت من الفعل هو ما يضفي عليه صفة جيدة أو لا أخلاقية كما إذا رأيت أن هذه فرصة للوشي بزميلك.

لذلك يقرر علماء الكلام -الفلاسفة المسلمون- باختلاف فرقهم أشاعرة ومعتزلة أن الأفعال من حيث هي أفعال لا فرق بينها، أي أن الفرق بين الكذب والصدق ليس في الفعل في حد ذاته فكلاهما عملية نطق بكلام فكلاهما فعل لا ضد له ويقررون أن الاختلاف يرجع إلى صفات هذه الأفعال[4] ، ويعني هذا الكلام أن الكذب يضاد الصدق من حيث صفة كل واحد، لكنهما متفقان من حيث الفعل فكل منهما نطقٌ بألفاظ وعبارات لا تختلف عن بعضها في الحالتين إلا من حيث الصفة.

«والذي يؤكد ما قلناه أن العدل والظلم كل واحد منهما ينطوي على أجناس مختلفة، والتضاد يرجع إلى الصفة الخاصة»[5] فما نتصوره عدلاً قد يكون في أحد صوره هو الظلم بعينه عقوبة السجن مثلاً تقع على مستحقها فيكون عدلاً أو تقع على خصم سياسي فتكون ظلماً.

ولعل هذا التوضيح يحل لنا إشكالية الفأس أو صاحب الفأس التي عرضها كانط، فهنا نحن أمام خيارين أحدهما يبدو أنه أخلاقي «وهو الصدق وإخبار صاحب الفأس بمكان بيت الجار» والآخر يبدو أنه غير أخلاقي «وهو الكذب وادعاء الجهل بمكان بيت الجار»، الإشكالية أن تداعيات الصدق هنا غير أخلاقية وسينتج عنها جريمة «قتل الجار على يد حامل الفأس» وإرادة الكذب هنا من شأنها أن تمنع هذه الجريمة، فهل يوصف الكذب هنا أنه أخلاقي؟!

قدم الباقلاني حلاً عبر ثنائية ذات الفعل وصفته لم يهمل الواسطة بينهما وهو الفاعل نفسه، وذلك ما لم يلحظه بارت الذي استخدم ثنائية ملغاة وهي ثنائية المؤلف -الملغي أو الميت- والنص وجعل الواسطة بينهما هي المعنى أو الصفة؛ ومن ناحية أخرى وحَّد بين «وجود» المؤلف ووجود المعنى.

أخيراً فإن صفة الفعل عند الباقلاني هي «المعنى» من الناحية النقدية في النص لأن الصفة لا بد لها من مُتَعَلَّق أو ذات تتصف بهذه الصفة كما المعاني بالضبط تحتاج إلى ألفاظ تتعلق بها.

وهو ما جعل عدي الحربش -أديب وناقد سعودي- يقول «إنني حين أكتب نقداً أحاول فيه أن أستبطن كيف انعكست فيه حياة المؤلف ومعاناته على النص، نقدي سوف يكون أكثر النقودات متعة وأنا أراهن على هذا الشيء».

بناءً على كل هذا الطرح الطويل فإن الباقلاني وبارت لو حملق كلٌّ منهما إلى نجم مضيء ميت من آلاف السنين وما نراه هو الضوء المنبعث من الانفجار، سيجادل الباقلاني بأن الضوء الذي نراه هو أثر النجم، بينما يرد بارت بأن ما نراه ليس له علاقة بالنجم وهذا ما أُسميه «موت النجم».. هنا سكت الباقلاني وأنهيتُ المقالة!

المراجع
  1. التقريب والإرشاد الصغير للقاضي أبو بكر الباقلاني.
  2. هسهسة اللغة رولان بارت.
  3. الكامل اختصار الشامل 2/2 ص736 لابن الأمير
  4. الغنية في الكلام لأبي القاسم النيسابوري ص622 دار السلام للنشر والتوزيع.
  5. المرجع السابق.