«الرقص علنًا» و«الاحتضان في الشوارع»… كانت هذه أبرز المشاهد الغريبة التي شهدتها المملكة العربية السعودية على مدار الأيام القليلة الماضية. أثارت هذه المشاهد حالة من الجدل في الأوساط السعودية بين مؤيد ومعارض.

وبالرغم من أنها يمكن اعتبارها حالات فردية فإن الواضح أنها لم تظهر من فراغ. فقد جاءت هذه المشاهد كنتيجة لذلك المسار الانفتاحي التي بدأت المملكة تحذو أولى خطواته تحت إشراف ولي العهد «محمد بن سلمان».

فإلى أي مدى يمكن أن يصل هذا المسار؟ وماذا عن موقف السعوديين والتيارات الدينية منه؟


التغيرات المجتمعية بين القبول والرفض

تغيرات مجتمعية عديدة تلك التي يشهدها السعوديون حاليًا. فبعد طول انتظار سمح للمرأة بقيادة السيارات، تم إعطاؤها هامشًا أوسع أمام دخول الملاعب الرياضية في سابقة هي الأولى من نوعها بتاريخ المملكة! وبعد حظر استمر أكثر من 35 سنة، تم السماح بافتتاح قاعات السينما والمسارح.

كان منطقيًا أن تأتي البدايات والمبادرات التحررية تحت إشراف ولي عهد المملكة «بن سلمان». فالأمير الطامح في تغيير صورة السعودية في عيون العالم وتثبيت مكانته داخليًا وخارجيًا؛قد وعد بإسلام وسطي معتدل ومنفتح بعيدًا عن التطرف. وبدأ جهودًا مبكرة لإعادة هيكلة منظومة الثوابت المجتمعية والدينية والثقافية التي تتبناها المملكة بما يتواكب مع مستجدات العصر وذلك ضمن رؤيته للمملكة «2030».

بالفعل توالت القرارات المنظمة لتلك الهيكلة تباعًا. فبدأ التضييق على المؤسسات الدينية وعلى رأسها «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي تم تقليص صلاحياتها. وتم إنشاء «هيئة الترفيه» صاحبة الفضل الأكبر في السماح بتلك الحفلات الترفيهية وعروض الأفلام والسينما.

ووصل الأمر برئيسها «أحمد الخطيب» إلى التأكيد أن «المملكة تستهدف توفير ترفيه يشبه بنسبة 99% ما يحدث في لندن ونيويورك»، موجهًا رسالة إلى المعترضين على تلك الخطوات من المحافظين «بأنهم يمكنهم ببساطة التزام منازلهم إذا لم يهتموا بتلك الفعاليات»!

ودون الغوص في تلك القرارات، فالجانب الأبرز بها هو ما أثارته من جدل بالشارع السعودي. إذ تباينت ردود الأفعال بشأنها، فانقسم الرأي العام السعودي لتيارين رئيسيين؛ الأول ليبرالي يمثله الشباب وعدد كبير ممن درسوا في الخارج والغرب بصفة عامة. والثاني، محافظ يمثله السعوديون المحافظون والتيار السلفي، فضلًا عن بعض المؤسسات الدينية في مقدمتها «هيئة الأمر بالمعروف».

بالطبع تغذى هذا الانقسام على التوجهات الفكرية المتباينة بالمملكة. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الجدل بشأن معظم هذه القرارات. ظهرت بشكل واضح مع قرار إعادة افتتاح دور السينما حيث انتشر وسم «#السينما_في_السعودية» الذي ندد المعارضون من خلاله بتلك السياسات التي يرونها كسرًا للتقاليد الدينية وعادات المملكة بينما رآه المؤيدون خطوة انفتاحية وتحررًا ضروريًا للحاق بركب القرن الحادي والعشرين.

تكرر الأمر ذاته مع كل قرار أو بداية جديدة في طريق الانفتاح كما هو الحال في السماح للمرأة بدخول الملاعب الرياضية الذي رآه البعض قرارًا تاريخيًا يساعد في استضافة بطولات مهمة، فيما ندّد به البعض الآخر مؤكدًا أنه بداية لتغريب المجتمع وانتشر وسم «#هل_ترضى_تتزوج_بنتا_تدخل_الملاعب» في أوساط الرافضين.

بالرغم من هذا فإن حالات الغضب والرفض بالمملكة لم تتسع على نطاق كبير ولم يتم التعبير عنها بالشكل الكافي، ربما خوفًا من الاعتقال أو الحبس في حال التعبير عنه. هذا فضلًا عن أن المؤسسة الدينية التي تمثلها «هيئة كبار العلماء» لم تتخذ أي خطوات خلاف المعهود منها من المباركة والتبرير لفتوى ولي الأمر، مما يعني أنها لا تزال تنحني مع العاصفة.

وبخلاف «هيئة الأمر بالمعروف» التي أبدت مؤخرًا رفضًا لبعض السياسات الانفتاحية، كما هو الحال في رفضها المطالبات التي أطلقها عدد من النشطاء بالمملكة بعدم إغلاق المحال التجارية وقت الصلاة. فلم تكن هناك معارضة قوية لمثل تلك السياسة.


إيران قبل الثورة: تشابهات وتساؤلات

تشابهت ملامح وبدايات السياسة الانفتاحية التي يقودها «بن سلمان» إلى حد ما مع المشهد الإيراني قبل الثورة الإسلامية في 1979 وتحديدًا مع سياسة «التغريب» التي اتباعها الشاه «محمد رضا بهلوي» منذ بدايات الستينات لتحديث إيران على النمط الغربي.

فقد توسع الشاه في فرض النمط الغربي على مختلف الوسائل الإعلامية والاجتماعية، وأصبحت هناك قنوات مخصصة لعرض الأفلام الغربية، مما شكّل استفزازًا لمشاعر المجتمع الإيراني.كما توسع في إعطاء المرأة مزيدًا من الحقوق والحريات وذلك في إطار «الثورة البيضاء» عام 1963، أو «ثورة الشاه والشعب» كما كان يحب أن يسميها.

فسمح لها بالاختلاط بالرجال، والتصويت في الانتخابات، وكذلك توسيع فرصها التعليمية إلى حد كبير، بينما وصل الأمر إلى حظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. الأمر الذي أوجد حالة من الرفض لدى قطاع كبير من الإيرانيين المحافظين.

كانت هذه السياسة التحررية أحد العوامل الرئيسية في اندلاع الثورة الإيرانية 1979 التي أطاحت بالشاه ذاته. صحيح أنها لم تكن السبب الرئيسي إذ إن الثورات لا تقوم لأسباب اجتماعية فقط، ولكنها شكّلت أحد العوامل المهمة التي استغلها التيار الديني لإثارة مشاعر الغضب والاحتجاج ضد نظام الشاه.

حيث تزامنت هذه التغيرات الاجتماعية الحادة مع الفوضى الاقتصادية والسياسية التي أنتجها الشاه ذاته، بتغييراته الاقتصادية المبنية على النهج الرأسمالي، والتي أثرت سلبيًا على الفئات الاجتماعية المختلفة، إلى جانب قمعه للجماعات والحريات السياسية، وتبعيته الواضحة في سياساته الخارجية للغرب والولايات المتحدة.


هل يتكرر السيناريو الإيراني؟

إن حالات الغضب والرفض بالمملكة لم تتسع ولم يتم التعبير عنها بالشكل الكافي، ربما خوفًا من الاعتقال أو الحبس، ناهيك عن المواقف المهادنة لـ«هيئة كبار العلماء».

بالرغم من أن المسار السعودي حاليًا لم يصل إلى تلك الحالة من الانفتاح الإيراني فإن أوجه التشابه في المسارين، أثار عددًا من التساؤلات بشأن إمكانية أن يتكرر في المملكة السيناريو الإيراني أو ما شابهه على المدى الطويل.

بدايةً، لابد من الإشارة إلى تأكيدات الخبراء حول صعوبة تحقيق هذا السيناريو في المملكة على المدى المتوسط، فالثورات كما سبق الإشارة عادة ما تقوم على عوامل اقتصادية. فقد سقط الشاه نتيجة إخفاقه في تحسين الوضع الاقتصادي. حيث انتشرت السوق السوداء، وارتفع التضخم إلى حدٍّ لا يُطاق، بما أثقل كاهل المواطنين ودفعهم إلى الثورة خاصة بعد فشل برنامجه للإصلاح الذي أُطلق في عام 1974.

الاختلاف الجوهري بين الحالة الإيرانية سابقًا والسعودية حاليًا؛ أن «الشاه» اتخذ قرار التغيير الاجتماعي منفردًا، بينما في المملكة فقد لاقى هذا التغيير قبولًا إلى حد كبير.

أما الحالة السعودية حاليًا بالرغم من اتخاذها مسارًا تقشفيًا واتجاهها نحو تقليص الدعم المقدم لمواطنيها، فإنها ما زالت حريصة حتى الآن على ألا يتطور الأمر إلى الحد الذي يدفع بهم إلى الخروج ضدها.

وليس أدل على ذلك سوى تلك الأوامر الملكية التي صدرت مؤخرًا بمنح دعم نقدي وبدل غلاء للمواطنين، حينما سادت حالة من الغضب في أوساط الرأي العام السعودي عقب رفع أسعار الطاقة والخدمات.

وكذلك حصرها العمل في 12 مهنة على السعوديين فقط في محاولة منها لتوفير المزيد من فرص العمل ومواجهة البطالة الآخذة في التزايد مع زيادة نسبة الشباب.

ومع هذا، فالأمر يفرض عليها تحديات عديدة في ظل انخفاض أسعار النفط. ويُوجب عليها تقليص نفقاتها الخارجية تحسبًا لأي قرارات أو تداعيات اقتصادية من شأنها إشعال حالة الغضب لدى السعوديين.

الاختلاف الجوهري الآخر بين الحالة الإيرانية سابقًا والسعودية حاليًا؛ أن «الشاه» حينما اتخذ قرار التغيير الاجتماعي اتخذه وفرضه منفردًا، بينما في المملكة فقد لاقى هذا التغيير قبولًا إلى حد كبير.فبالرغم من انقسام الرأي العام السعودي فإن ذلك لم يتضح بالشكل الملفت للانتباه.

الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى ارتفاع أعداد الشباب بالمملكة ممن تقل أعمارهم عن 30 عامًا، حيث يُشكلون ما يقرب من ثلثي المجتمع. وبالرغم من أن المجتمع السعودي مجتمع محافظ، فإن الأغلبية منه من المعتدلين الذين يسافرون بالدول المجاورة ويذهبون للسينما وللحفلات الغنائية.

فقد توجه إلى البحرين – على سبيل المثال – في 2016 نحو 32% من السعوديين بنفقات تجاوزت 18 مليار ريـال، بينما توجه إلى الإمارات نحو 20% بنفقات بلغت 14 مليار ريـال، ووصل العدد بالكويت 12% بنفقات 8 مليارات ريـال.

ختامًا، يمكن القول إن التغييرات التي تشهدها المملكة ستظل متوازنة إلى حد كبير -ربما تفوق ما هو قائم في بعض دول الخليج اليوم- لكنها لن تتجاوز الخطوط الحمراء. وبصفة عامة فإن الحكم عليها سيرتبط بمدى توافقها مع إجراءات المملكة الاقتصادية، ومدى شعور المواطن بتحسن أوضاعه، أو على الأقل عدم تراجعها.

وإلى ذلك يبقى التساؤل، ماذا عن مستقبل العلاقة بين التيار الديني وولي العهد؟ ماذا لو تزايدت القرارات الملكية تجاه الانفتاح وضاقت خيارات هذا التيار ومؤسساته على المدى المتوسط والطويل؟ هل نشهد بداية لصدام بين الجانبين؟ وهل سيسمح له «بن سلمان» بأن يزداد قوة؟ أم نشهد حملة جديدة ضد الفساد تستهدف زعماء هذا التيار ومؤسساته؟ هذا ما تخبرنا به الأيام المقبلة.