قد يبدو تصوُّر أن العلم عقلاني بطبعه بديهيًّا، بل ربما ستُلقي إليّ بـ«نعم» كبيرة و تتخطى عشر دقائق من القراءة في فلسفة مملة، لكن عقلانية العلم خضعت لتحديات كثيرة، وسوف نستعرض هنا واحدة من أهم تلك التحديات و أكثرها جدلًا، معركة نقص التحديد. لنبدأ كالعادة بمثال بسيط: افترض أن ميّ اشترت من بائع الخضار طماطم وخيار بـ 13 جنيه، سعر كيلوجرام الطماطم هو 3 جنيهات و كيلوجرام الخيار 5 جنيهات، ما هي الكميات التي اشترتها؟.


نقص التحديد Underdetermination

http://gty.im/497130603

هذه مسألة بسيطة لها حل واحد فقط: قامت ميّ بشراء 2 كيلوجرام خيار و كيلوجرام واحد من الطماطم. لا يمكن لنا أن نجد حلولًا أخرى يكون الناتج فيها 13، هنا يمكن القول أن المعلومات التي حصلنا عليها حددت لنا استنتاجًا واحدًا فقط. لكن، ماذا لو اشترت ميّ بـ 28 جنيه؟.

هنا تظهر الاحتمالات، حيث يمكن أن تكون الإجابة: (1 كيلوجرام طماطم و 5 خيار) أو (6 كيلوجرام طماطم و 2 خيار)، المعلومات التي حصلنا عليها تتسبب في «نقص قدرتنا على تحديد» استنتاج واحد. دعنا نضرب مثالًا أكثر صعوبة: إذا ظهرت علاقة بين السلوك العدائي للأطفال و إقبالهم على ألعاب الفيديو، ماذا يعني ذلك؟.

للوهلة الأولى نتصور أن ألعاب الفيديو تدفع الأطفال للعدائية، لكن معلوماتنا تعطينا استنتاجات أخرى ممكنة، قد يكون السلوك العدائي هو ما يدفع الأطفال لألعاب الفيديو أو ربما هناك سبب مشترك -كإهمال الوالدين- يدفع الأطفال للأمرين. يمكن تلخيص ما سبق في جملة شهيرة: «الارتباط لا يعني السببية Correlation does not imply causation». حصولنا على دلائل تجريبية تؤكد وجود علاقة بين السلوك العدائي و الألعاب لا يدفعنا للاتفاق على استنتاج واحد حول شكل سببية تلك العلاقة. دعنا نُلقي بالعلم في اللعبة، حينما نختبر فرضية «س» و تظهر النتيجة سلبًا بعد التجربة، هل يعني ذلك أن فرضيتنا خاطئة؟.

يضع مفهوم نقص التحديد مجموعة من التحديات الأبستمولوجية2 أمام المعرفة البشرية ككل، يظهر في الفلسفة بداية من شيطان ديكارت المخادع حتى أطروحة الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بيير دوهيم سنة 1905.

بدايةً قد نجيب بـ«نعم» سريعة، لكن ربما لم تكن المشكلة في الفرضية، بل في جهاز القياس نفسه الذي استخدمناه في التجربة، أو في ضبطه أو مناسبته من الأساس، أو في العيّنة نفسها، درجة حرارتها أو كثافتها أو كتلتها أو ظروف المعمل، بل إن فرضيتنا نفسها قد تكون صحيحة بينما النظرية «ص» التي استخدمتها الفرضية كقاعدة هي موضع الخطأ. لذلك، حين نختبر الفرضية «س» فنحن لا نختبر «س» فقط، بل نختبر أيضًا مجموعة من الفرضيات الإضافية auxiliary hypotheses. من الصعب إذن اختبار «س» بمعزل عن فرضيات أخرى، و من الصعب التعرف على موضع الخطأ مهما حاولنا تقصّي مصدره لأن المشكلة قد تكون في أي مكان؛ ذلك هو نقص التحديد.

من حيث نوع النتائج التجريبية يمكن أن نقسم1 نقص التحديد في النظرية العلمية لنوعين: نقص تحديد كلّي Holistic Underdetermination يظهر حينما تتركنا النتائج السلبية لتوقعاتنا عاجزين عن تحديد إجابة محددة لسؤالنا: أين حدثت المشكلة؟، ما الفرضية التي يجب تكذيبها؟، و نقص تحديد تقابلي contrastive Underdetermination يظهر حينما نؤكد توقعاتنا بالتجربة، هنا نحن لا نعرف أي فرضية منهم أكدت النتائج.

يضع مفهوم نقص التحديد مجموعة من التحديات الأبستمولوجية2 أمام المعرفة البشرية ككل، يظهر في الفلسفة بداية من شيطان ديكارت المخادع حتى أطروحة الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بيير دوهيم سنة 1905 في كتابه «غاية و بنية النظرية الفيزيائية».


أطروحة دوهيم

يؤكد دوهيم على استحالة وجود ما يمكن أن نسميه تجربة حاسمة crucial experiment في الفيزياء، فيقول: «لا يمكن مطلقًا لأية تجربة في مجال علم الفيزياء أن تحكم على فرض معزول؛ لكن يمكنها فقط أن تحكم على مجموعة نظرية من الفروض».

و يضيف: «وخلاصة الأمر أن عالم الفيزياء لا يستطيع مطلقًا أن يُخضع فرضًا معزولاً لاختبار تجريبي، لكنه يستطيع أن يُخضع مجموعة برمتها من الفروض، وحينما لا تتوافق التجربة مع تنبؤاته، فإن ما يتعلمه هو أن واحدًا على الأقل من الفروض المكونة لهذه المجموعة غير مقبول و ينبغي تعديله، لكن التجربة لا تحدد أيًّا من هذه الفروض هو الذي ينبغي إدخال تعديلات عليه».

يعطي دوهيم نموذجًا: لنختبر صحة قوانين نيوتن في دراسة مدار كوكب ما، عندنا قوانين نيوتن الثلاثة، أعطهم الرموز ن1 و ن2 و ن3، و كذلك قانون الجاذبية ن4، و بعض الفروض الإضافية، لنجمعها في الرمز أ، حينما نكذب نظرية نيوتن بالرصد فنحن لا نعرف بالضبط أي من المجموعة (ن1 و ن2 و ن3 و ن4 و أ) خطأ، حدث ذلك من قبل:

نعرف أن حركة النجوم في أطراف المجرات لا تتفق مع توقعاتنا، لذلك نضع فرضًا إضافيًّا: وجود «مادة مظلمة»، و نحدد خواصها من خلال هذا الفرض، لكنها قد لا تكون موجودة.

حينما توقع جون أدامز و أوربان لوفيرييه مدار كوكب أورانوس ظهرت مشكلة في تطابق التوقعات مع النتائج، فافترضا وجود كوكب أبعد من أورانوس و هو نبتون، الذي تأكد وجوده فيما بعد. لكن حينما حاول لوفيرييه حل مشكلة عدم اتفاق موقع حضيض4 كوكب عطارد مع التوقعات بنفس الطريقة السابقة افترض وجود كوكب «فلكانVulcan» و كتلته و شكل مداره.. إلخ. لكننا لم نجد كوكب فلكان أبدًا؛ لأن المشكلة لم تكن في فرضية إضافية هذه المرة «أ» بل كانت في قوانين نيوتن ذاتها «ن4»، هنا تدخلت النسبية العامة لإعطاء إجابة دقيقة. في كل الأحوال، نحن لم نعرف موضع الخطأ في المرّتين، في المرة الأولى نجح حدس صديقينا لكنه لم ينجح في الثانية.

نعرف أن حركة النجوم في أطراف المجرات لا تتفق مع توقعاتنا، لذلك نضع فرضًا إضافيًّا: وجود «مادة مظلمة»، و نحدد خواصها من خلال هذا الفرض، لكنها قد لا تكون موجودة، شأنها شأن «فلكان». قد تكون المشكلة في أي نظرية أخرى بُنيت عليها تلك الفرضية، بل ربما في العلم كله، ماذا؟!.


عقيدتان في التجريبية

في منتصف القرن العشرين ضرب مقال «عقيدتان في التجريبية Two dogmas of empiricism» للفيلسوف الأمريكي ويلارد فان أورمن كواين واحدة من قواعد الوضعية المنطقية الرئيسية، وهي الفصل بين القضايا التركيبية و التحليلية6 Analytic Synthetic Distinction، ليجادل كواين في أن القضايا التحليلية هي الأخرى يمكن أن تخضع للفحص ويعيد تعريف معنى القضية التحليلية ليقول أن جملة «كل العزّاب غير متزوجين» لا تكون صحيحة فقط بما نفهمه منها دون حاجة إلى تجربة، بل يضع معنى كلمة «عزّاب» و «كل» و «متزوجين» في الموضوع، في كوكب آخر قد تعني كلمة «عزّاب» شيئًا مختلفًا، حتى القضايا التركيبية كأن نقول «الماء أزرق» قد لا تصلح في عالم تعني فيه كلمة «أزرق» و كلمة «ماء» أشياءً أخرى. يضيف كواين أن القضايا التركيبية يمكن اختزالها لتحليلية و العكس بطريقة لها علاقة بالمعنى ومدى إدراكنا للمرادفات synonyms؛ بذلك تدخل فلسفة اللغة للعبة. لكن، ماذا يضيف كواين لأطروحة دوهيم؟.

يسمى مجموع أطروحتيهما: أطروحة دوهيم-كواين Duhem–Quine thesis، ويمكن أن نعتبر من كواين تعميمًا لدوهيم:

1. كواين يضع من مشكلة شبكة الفرضيات و القناعات غير الممكن اختبار أيّ منها بمعزل حاجزًا أمام المعرفة البشرية ككل و ليس الفيزياء فقط، و يضم لها قناعاتنا و تصوراتنا عما تعني الأشياء، بدءًا من خبرتنا بأكثر الموضوعات عرضية في الجغرافيا و التاريخ حتى أكثر القوانين عمقًا في الفيزياء الذرية أو حتى الرياضيات البحتة و المنطق، بحد تعبير كواين.

كواين لا يسأل فقط عن صحة الفرضيات «س» و «ص» بل تمتد أطروحته لتختبر صحة القضايا التحليلية المتعلقة بالفرضية وما تعنيه الكلمات، حينما نحاول اختبار فرضية «الماء أزرق» قد نضم تساؤلات كـ: ماذا نعني حينما نقول ماء؟ أو أزرق؟.

2. يضع دوهيم حدودًا لمجموعة الفروض التي يمكن بتجربة واحدة اختبارها، لكن كواين يلقي بحجر ثقيل قائلًا أن «وحدة الدلالة التجريبية هي العلم كله The unit of empirical significance is the whole science»، العلم كله شبكة مترابطة من الفرضيات و القضايا و المعاني، حين تكذيب أحدها لا يمكن أن نعرف أين حدث الخطأ، حينما نحاول اختبار فرضية واحدة فنحن بذلك نختبر العلم كله، هنا ظهر مبدأ الكلّية Holism.

حسنًا، الأمر معقد. لدينا مجموعة مترابطة من الفرضيات لاختبارها معًا كل مرة، ويعني ذلك أنه حينما لا تتفق – تُكذّب – النتائج مع توقعاتنا فأمامنا – كفيزيائيين مثلاً – مجموعة من الاختيارات، فقد نختار أن نصدق أن الفرضية «س» خطأ، أو أن النظرية «ص» التي قامت عليها «س» هي صاحبة الخطأ، أو «ع»، أو «ل».. إلخ، كيف يمكن أن نختار إذن؟.


تحدي العقلانية

من وجهة نظر دوهيم-كواين: لا يمكن أن نختار. هناك حالة من «نقص تحديد» قدرتنا على وضع استنتاج محدد. لا يوجد قانون عقلاني يحدد لنا كيف نختار؛ لذلك فنحن – حينما نقرر الاختيار – نفعل ذلك بحالة من اللاعقلانية؛ أي أننا نتبع بقصد أو بغير قصد أهواءنا أو ميولنا العميقة أو الظروف المحيطة أو معتقداتنا الخاصة. المشكلة إذن سيكولوجية تحددها أحوالنا في أثناء اختياراتنا للفرضيات المبنية على دلائل تجريبية أيها يمر و أيها يبقى. قد نتصور أننا نختار الأقرب للعقلانية لكن قد نكون واقعين في فخ اختيار الأسهل لنا!.

عند تلك النقطة تحديدًا دخلت سوسيولوجيا8 المعرفة العلمية sociology of scientific knowledge (SSK) للعبة. إذا كان الاختيار بين الفرضيات يتم بشكل غير عقلاني فكل شيء ممكن إذاً، سوف نلقي بالفرضية «س» جانبًا لأنها لا تناسبنا كمجتمع علماء غالبيته من الذكور مثلًا، قد تتدخل معايير وظيفية، سياسية، اقتصادية، جنسية في اختياراتنا طالما لا نملك طريقًا عقلانيًّا لنتبعه، السيكولوجيا تلعب دورًا.

عادة ما يتم التعامل مع نقص التحديد الكلي كتهديد جوهري لعقلانية المشروع العلمي. بناءً على نقص التحديد، اقترح كل من إمري لاكاتوش و باول فييرابند أن الفرق بين النظريات التجريبية الناجحة و غير الناجحة قد يرجع في الأساس لموهبة أو ذكاء أو مصادر المؤيد لها بغض النظر عن موضوعية العلم، ثم ظهر توماس كون ليصنع من مفهوم «الكلية» و فكرة «مجموعة الفرضيات المترابطة التي يستحيل اختبار أحدها بمعزل» في أطروحة دوهيم- كواين فلسفة كاملة للعلم تحول العملية العلمية لنماذج إرشادية Paradigms مرتبطة ربما باهتمامات سياسية و اقتصادية. لذلك لن يكون مفاجئًا لنا أن يقول كواين أن الأبستمولوجيا ككل تقع كفصل في كتاب علم النفس، أي أننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل بين الأبستمولوجيا الخاصة بمعرفة شيء ما و سيكولوجيا الحصول على تلك المعلومة. كانت تلك كارثة حقيقية9!.


الملاحظات:

1. لم يلتفت دوهيم أو كواين لذلك التمييز.

2. المعرفية، التي تخص معرفتنا بالأشياء و كيفية حصولنا على تلك المعرفة.

3. أطروحة: فكرة أو بحث أو رسالة علمية.

4. أقرب نقطة للشمس في مدار الكوكب، و عكسها الأوج.

5. عقيدتان في التجريبية: هو ربما أشهر و أهم مقال في القرن العشرين، لن يكفي الحديث هنا عنه. في مقال قادم سوف أعرض مدخلًا مبسّطًا لمقال كواين يمكنك بعده التعرف على عالمه.

6. تقسم مدرسة الوضعية المنطقية الفلسفية القضايا لنوعين؛ القضايا التحليلية: هي القضايا التي تكون صحيحة بمعزل عن التجربة؛ أي أنها صحيحة بما تعنيه، كأن نقول «كل العزّاب غير متزوجين» أو أن نقول «3 + 3 = 6». أما القضية التركيبية فهي التي تتطلب عمل تجربة للتأكد منها كأن تقول «الماء أزرق» أو «قلب العقرب نجم أحمر»، هنا يجب أن تخرج لترى إن كان أحمر أم لا. لكن بالنسبة لهم جملة كـ «الشعر حلو» أو «أشعر بالسعادة» غير ذات معنى، ليست تحليلية أو تركيبية.

7. بديهيات الهندسة الإقليدية تم اختبارها في النظرية النسبية و تأكدنا أننا نعيش في كون غير إقليدي، كذلك مبدأ الثالث المرفوع في المنطق الأرسطي الذي يقول أن الشيء يكون إما «أ» أو لا «أ»، حيًّا أو ميتًا. لكن ميكانيكا الكم تقدم تحديًا لهذا المبدأ بعرض حالة ثالثة وهي التراكب الكمومي، انطلق هيلاري بوتنام من كواين لكتابة مقاله الشهير «هل المنطق تجريبي؟».

8. علم اجتماع.

9. سوف نفرد للعقلانية في العلم مقالًا -قريبًا- خاصًّا بها، حيث حاول لاري لودان إيجاد حلول وسيطة لمشكلة نقص التحديد بينما وقف بوبر محاربًا في جيش العقلانية العلمية، كذلك أفكار كل من بشلار – العقلانية التطبيقية – و راشنباخ – العلم كمعقول.

المراجع
  1. موسوعة ستانفورد الفلسفية: Underdetermination of Scientific Theory
  2. فلسفة العلم في القرن العشرين – دونالد جيليز
  3. فلسفة العلم، مقدمة معاصرة – أليكس روزنبرج
  4. فلسفة كارل بوبر، يمنى طريف الخولي
  5. عقيدتان في النزعة التجريبية، المقال الثاني في كتاب "من وجهة نظر منطقية" – ويلارد فان أورمن كواين
  6. Hilary Putnam: “Two Dogmas” Revisited
  7. The Aim and Structure of Physical Theory – Pierre Duhem