في عدد يونيو 2002، نشرت مجلة ديسكفر Discover مقالاً لتيم فولجر تحت عنوان «هل يوجد الكون ما لم نكن ننظر؟»، وهو عبارة عن محاورة ممتدة مع جون وييلر، الفيزيائي المشهور الذي قال عنه فولجر: «العالم والحالم، زميل آينشتاين ونيلز بوور، أستاذ كثير من رواد الفيزياء المعاصرين، والرجل الذي صك مصطلح «الثقوب السوداء»، كما أنه أحد منارات الفيزياء الأخيرة في القرن العشرين، وأحد أفراد جيل فكك أسرار ميكانيكا الكم ورسم الخطوط العريضة لأبرز أبحاث الفضاء والزمن».

دارت تلك المحاورة الممتدة بين فولجر ووييلر حول فكرة شغلت وييلر في آخر سني حياته؛ ألا وهي محاولته للتوصل لأفكار، على المستوى النظري، تستطيع فتح الباب أمام مزيد من الأفكار، التي بدورها قد تمكننا من التوصل لجواب عن سؤال: «لماذا/كيف وُجِدَ الكون؟». فبالرغم من أن وييلر من أحد رواد العلم الحديث ،إلا أن هذا لم يجعله يخشى التساؤل حول الغايات والتضمينات التي قد تحملها المبادئ العلمية ويلجأ العلم الحديث غالبًا إلى تجاهلها.

وكانت الفكرة التي دارت حولها المحاورة تدور حول إيمان وييلر بأن سؤال «لماذا يوجد الكون؟» يتداخل مع أحد أغرب جوانب الفيزياء المعاصرة. فبحسب ميكانيكا الكم، فإن ملاحظتنا تؤثر في الكون على أكثر المستويات أصالة. فالحدود الفاصلة بين الواقع الموضوعي الخارجي وبين وعينا الذاتي، والتي كانت تبدو واضحةً في أوج اكتشافات الفيزياء في القرن العشرين، أصبحت مشوشة في ميكانيكا الكم. فحينما ينظر الفيزيائيون إلى المكونات الأساسية للكون – الذرات وأجزائها الداخلية أو جزيئات الضوء المسماة بالفوتونات- فما يرونه في معاملهم يعتمد على «كيفية» إعدادهم للتجارب. ويورد فولجر المثال التالي على ذلك فيقول:

تحدد عملية رصد الفيزيائي للذرة ما إذا كانت ستأخد شكل أمواج سائبة أم جسيمات صلبة، كما أن عملية الرصد تلك تحدد أي مسار سوف تسلكه الذرات. فوفقًا لميكانيكا الكم، يبدو الكون مكانًا متفاعلاً للغاية.

ويحاول وييلر أن يبني المزيد على هذه النظرة لميكانيكا الكم، فنجده يطرح فكرة أسماها «الخلق بالملاحظة».

ويقول فولجر عن ذلك: «لدى وييلر حدس يخبره بأن الكون مبني على شكل حلقة ضخمة من التغذية الارتجاعية، حلقة لا نقوم من خلالها بالمساهمة في عملية الخلق المستمر للحاضر والمستقبل فقط، بل وللماضي أيضًا. ولكي يوضح فكرته، قام وييلر بتجربته الخاصة المُسماة بـ «تجربة القرار- المتأخر» (Delayed-Choice Experiment)، والتي تضيف متغيرات مذهلة على نطاق كوني لأحد أعمدة ميكانيكا الكم؛ تجربة «شقيْ- يونج» (Double-Slit Experiment)».

ولكي تتضح رؤية وييلر علينا أولاً فهم تجربة «شقي-يونج»[2]؛ فهذه التجربة الرئيسة في ميكانيكا الكم تؤكد مبدأ غاية في الغرابة مفاده أن الضوء ذو طبيعة مزدوجة؛ فأحيانًا يتصرف كأنه جسيم، وأخرى يتصرف كأنه موجة منتشرة في الفضاء. وفي التجربة التقليدية، الضوء –وهو مسار من الفوتونات– ينطلق نحو شقين –فتحتين في لوح ما– ليرتطم بلوح أسود. ويمكن أن تنتنج التجربة نتيجتين: فمرة يُوضَع «راصد للفوتونات» لملاحظة حركة الفوتونات، ومرة أخرى يُبعَد هذا الراصد؛ مما يسمح للفوتونات أن تتحرك دون رصد. وتأتي النتيجة حين يُستخدم راصد الفوتونات غير مفاجِئة؛ فكل فوتون يُرصَد على أنه يتصرف كما الجسيمات، وهو الظن التقليدي السائد.

ولكن يحدث الشيء الغريب حين يُبعد راصد الفوتونات. فما يُتوقَع هو رؤية مجموعتين، على شكل عناقيد، من النقاط على اللوح الأسود بشكلٍ يُماثِل حركة خروج الفوتونات من الشقين. لكن نمطًا من الخطوط المُظلمة والمضيئة يظهر على اللوح بخلاف المُتَوقَع، ولا يمكن أن ينتج مثل هذا النمط إلا إذا تصرفت الفوتونات على أنها موجات. وبالتالي، تعتمد نتيجة هذه التجربة على ما يُحاول الفيزيائيون قياسه: فإذا وُضِع راصد بجوار الشقين، تتصرف الفوتونات على أنها جسيمات عادية تخرج من أحد الشقين؛ وهنا لا يظهر نمط الخطوط على اللوح. أما إذا أُبعِد الراصد، فإن كل فوتون يبدو وكأنه يخرج من كلا الشقين «في نفس الوقت»؛ مما يُظهر نمط الخطوط التي تعني أن ضوءًا تصرف كأنه موجات.

ويُكمل فوجلر:

قام وييلر باستحداث نسخة مشابهة لهذه التجربة لكن على نطاق كوني. وبينما تظهر التجربة التقليدية أن أي رصد للفوتون يغير من تصرفه في الحاضر، تُظهر نسخة وييلر أن عملية رصدنا للفوتون في الحاضر يمكنها أن تؤثر في كيفية تصرف الفوتون في الماضي.

وللتوضيح، يُطالب وييلر بتخيل كوازار (Quasar) بعيد جدًا وشعشاع. والآن لنتخيل مجرتين هائلتين بين الأرض والكوازار: تستطيع جاذبية الأجسام الهائلة، كالمجرات، ثني الضوء كما تفعل العدسة التقليدية. وتماثل هاتان المجرتان الشقين في تجربة يونج، ويماثل الكوازار الضوء، ويمكن للضوء سلوك طريقين كما في التجربة التقليدية. ولنفترض أن عالم فلك قرر رصد فوتونات الكوازار؛ فإذا وجه التيليسكوب تجاه إحدى المجرتين، فإنه سيرى الفوتونات وقد انعطفت بواسطة المجرتين نحو المجرة الأخرى، ويمكن له أيضًا أن يُكمل التجربة فيضع مرآتين تعكسان شكل الفوتونات على لوح أسود.

و يؤكد فوجلر النتيجة الغريبة لهذه التجربة الفكرية بقوله: «الآن الجزء الغريب: يمكن للكوازار أن يكون بعيدًا جدًا بحيث يخفت ضوؤه؛ مما يجعل الفوتونات ترتطم باللوح واحدة تلو الأخرى. نتيجة التجربة لن تتغير؛ فسيظهر نمط الخطوط؛ مما يعني أن الفوتون في حال غياب الرصد قد عبر من خلال المسارين تجاه الأرض حتى ولو كانت هذه المسارات متباعدة بعديد السنين الضوئية. هذا ليس كل شيء، فبحلول الوقت الذي يُحدد فيه الفلكي طريقة الرصد، قد يكون الفوتون قضى رحلة طويلة تمتد لما قبل ظهور الحياة على الأرض»؛ مما يعني أن طريقة الرصد التي حُددت «الآن» قد تُحدد «ماضي» الفوتون بالفعل. ففي إحدى الحالات، يقوم الفلكي بصنع مسار معين للفوتون من الكوازار للأرض، كما أن الفلكي يمكنه إرغام الفوتون على اتخاذ طريق مستقيم تجاه الراصد، حتى ولو كان الفوتون قد خرج بالفعل قبل تواجد أي راصد أصلاً.

سيكون من المغري رفض تلك التجربة الفكرية إلا أنها أُثبتت معمليًا بالفعل؛ إذ قام فريق فيزيائيين من جامعة ماريلاند، في عام 1984، بإجراء التجربة ووجدوا أن مسار الفوتون لا يتحدد إلا مع قيام الفيزيائي بتعيين طريقة الرصد [3].

ويستنتج وييلر أننا جزء من كون عبارة عن عمل لم يُنجز بعد، وأننا أجزاء صغيرة من كون يُلاحظ نفسه ويبنيها. فليس المستقبل وحده هو غير المحدد، بل والماضي أيضًا. ويرى وييلر أن المشاركة الواعية في هذه العملية مهمة، إلا أن أي تفاعل بين الإشعاعات والمادة يلعب الدور الأساسي في هذه العملية التخليقية. فيرى وييلر أن الكون عبارة عن مجموعة أحداث يمكن أن تصبح إحداها واقعًا قائمًا بالفعل. فيحرز وييلر أن الكون هو سحابة هائلة من اللاتعيينات بانتظار إما عملية رصد واعية أو مادة غير حية للتفاعل معها، فهو يرى الكون على أنه مساحة من حقول لم يتحدد في الماضي نفسه بعد.

كما يُبادر وييلر بالإقرار، كما يوضح فوجلر في مقاله، أن هذه الفكرة تُلهِم العقل للغاية. فعلى الرغم من أنها ليست نظرية (Theory)، إلا أنها تظل حدسًا، من قِبل أحد أشهر الفيزيائين، حول الشكل النهائي الذي قد تتخذه «نظرية كل شيء»، وأنها دليل على أن لغز الخلق يمكن أن يُحل من خلال الحاضر، لا الماضي السحيق. ويختم وييلر: «إن مثل هذه الرؤية تعطيني أملاً بأن سؤال (كيف يوجد الوجود؟) يُمكن الجواب عنه». وأضيف أن مثل تلك الفكرة تستطيع فتح مجال واسع لإعادة التفكر في التساؤل المطروح حول «الموضوعية»، ولكن هذه المرة بصدد العلوم التجريبية نفسها، لا العلوم الإنسانية فحسب كما يُشاع مرارًا.

المراجع
  1. Tim Folger, Does the universe exist if we are not looking?
  2. Dr Quantum – Double Slit Experiment
  3. Oleg Jakubowicz, a Delayed Random Choice Quantum Mechanics Experiment using Light Quanta, PhD Thesis (Maryland University; 1984)