نشرت جريدة «الإندبندنت» البريطانية في أغسطس/آب الماضي خبرًا بعنوان: «ديموقراطيون يسعون إلى تعيين فريق من الخبراء لمتابعة صحة ترامب العقلية». جاء المطلب من أفراد ينتمون لتيار الديموقراطيين الأمريكي ولكنهم فضّلوا عدم الكشف عن هويتهم، كرد على تعليق ترامب بأنه «أقوى رجل في العالم»، ما أثار شكوكهم في سلامته العقلية، ودفعهم للمطالبة بانتداب أطباء نفسيين من كلية Yale.

هذا الجدل المُثار حول الصحة العقلية للرؤساء ليس بجديد، ويطرح بشكل جاد علاقة السياسة بالطب النفسي. في هذا المقال، أحاول طرح بعض الإشكاليات المُتعلقة بخطاب الصحة العقلية للسياسيين وتأثيره على القرارات السياسية.


الصحة العقلية: بؤرة اهتمام جديدة؟

ليست تلك المرة الأولى ولن تكون الأخيرة في تصنيف أفعال بعض السياسيين بأنها «خلل عقلي» أو حتى إرجاع هذه الأفعال إلى اضطرابات الشخصية. في النصف الأخير من القرن العشرين، توجهت العديد من الدراسات نحو سلوكيات الساسة واعتبارها أفعالاً غير عادية وبالتالي تحتاج إلى دراسة لفهم دوافعها وكيفية التعامل مع تأثيراتها.

كان «هتلر» أشهر هؤلاء الذين ما زالوا محل دراسة وتباحُث عن كونه واحدًا من أكثر الشخصيات التاريخية عنفًا وسلطوية. إحدى هذه الدراسات نُشرت في عام 2011 بالجورنال الأكاديمي لجامعة أولستر الأيرلندية، والتي جمعت العديد من الدراسات حول دوافع هتلر النفسية، وكونه يُعاني من اضطراب الشخصية النرجسية، جنبًا إلى جنب مع السادية، وهي التلذذ بتعذيب الآخرين وإيلامهم.

أما عن حليفه الإيطالي، «بينيتو موسوليني»، فناله من الدراسات قدر لا بأس به عن كونه أحد أكثر القادة العسكريين سلطوية في العالم، كما جاء في كتاب: «هتلر، ستالين، وموسوليني: الشمولية في القرن العشرين»، الصادر عام 2014 للمؤرخ «بورس باويلي» بروفيسور التاريخ بجامعة «سنترال فلوريدا».

ويلحق بهم في العام 2016 الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» عن لغته الخطابية التي وصفها الكثيرون بأنها عنصرية وغريبة.


السلامة العقلية: وصمة الغرابة والخروج عن المألوف

لا شك أن وصف تصرفات وقرارات «ترامب» بأنها «غريبة» ثم المطالبة بالكشف عن سلامته العقلية يضر أكثر مما ينفع. فأغلب المُتعايشين مع الاضطرابات العقلية يواجهون الوصم المجتمعي بأنهم «غير عاديين»؛ بمعنى أنهم لا يفكرون كما يفكر الأغلبية، وهذا التفكير يُعد اضطرابًا بسبب تأثيره السلبي على المُتعايشين وبيئتهم المُحيطة، كما ذكرنا سلفًا عن اضطراب القلق المزمن. وفقًا لهذا النقاش، فإن «دونالد ترامب» وأي مُتعايش آخر مع الاضطرابات العلقية هو شخص «غير طبيعي»، وبناءً عليه هو غير قادر على القيام بمهام وظيفته.

هذا الأمر غير دقيق، فبعض المُتعايشين مع الاضطرابات العقلية قادرون على تأدية مهامهم الوظيفية، كما أن الاضطرابات العقلية لا تُفقد الإنسان أهليته القانونية ويظل مسئولًا عن أفعاله.

كذلك الحال مع وصف «ترامب» بأنه غير صالح للرئاسة لأنه يحتاج إلى فحص عقلي؛ لأننا نعود بذلك إلى وصم المُتعايشين مع الاضطرابات العقلية لكسب معركة سياسية أو للتقليل من قدر شخص ما أمام الرأي العام. هنا، يتم استخدام الصحة العقلية كمقياس لوصم الأفراد وصلاحهم للاندماج في المجتمع كأفراد.


العنصرية: من التوصيف إلى التصنيف

لعل من أبرز ما وُصف به الرئيس الأمريكي الحالي هو العنصرية تجاه الأقليات. ويرجع السبب في ذلك إلى قراراته وتصريحاته بخصوص ذوي البشرة الملونة والنساء والأقليات العرقية والمجموعات الإثنية داخل المجتمع الأمريكي، وهذا أيضًا ما استخدمه بعض مُعارضيه للشك في سلامته العقلية وعدم صلاحيته للرئاسة.

تُعرّف العنصرية وفقًا للجورنال البريطاني للطب النفسي بأنها نوع من التمييز المبني على الاعتقاد بأن شخصًا أو مجموعة يجب معاملتهم بشكل مختلف. ووفقًا لقاموس أوكسفورد بأنها الاعتقاد بأن كل عرق / أصل بشري مختلف عن غيره وهذا ما يحدد موقعه إما أعلى أو أدنى من أصول الأخرى. أما في المعجم الوسيط فتُعرّف بأنها تمييز بين أشخاص أو فئات لا على أساس سوى عرقهم أو جنسهم، كل مبدأ أو حركة سياسة تزعم تفوق جنس أو عرق على جنس أو عرق آخر.

تعددت المحاولات لربط العنصرية بالبيولوجيا وسط محاولات رفض من الأطباء النفسيين، حتى أن «رابطة الطب النفسي الأمريكية» لم تُدمجها أبدًا في «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية» في العام 2002، وبعد تعديله في 2012. كان هذا الإصرار خشية أن يتم تصنيف الأفراد العنصريين بأنهم فاقدو السيطرة على اعتقاداتهم وبالتالي يصعُب معها التعامل مع نتائج ممارساتهم العنصرية أو وقفها. وأيضًا، لأن تلك الاعتقادات ذات أبعاد سياسية / اجتماعية وثقافية / اجتماعية تجعل من تفكيك دوافع ممارسيها أمرًا ليس بالسهولة المُصوّرة.[1]

ووجب التنوية أن محاولات أنسنة العنصرية لا تنفي مسئولية مُمارسيها تجاه أفعالهم، أما إلصاقها بالاضطرابات العقلية فهو امتداد لوصم المُتعايشين مع هذه الاضطرابات.


العنصرية: المسئولية والأهلية القانونية

وبحسب ما جاء في تقرير الواشنطن بوست المنشور في يونيو/حزيران 2016 بعنوان: «كيف أصبحت العنصرية تُصنّف كمرض عقلي؟، ولماذا تُعد هذه أزمة؟»، فإن وصف العنصرية بأنها مرض أو اضطراب عقلي أمر إشكالي؛ لأنه ينفي مسئولية الشخص عن أفعاله، خاصة إن كانت مُرتكبة عن عمد وذات بُعد مؤسسي.

وفي هذا الصدد، يتم التعامل مع العنصرية على أنها حالات فردية لا تستوجب اتخاذ قرارات سياسية، وضرب التقرير مثالًا على ذلك باستهداف ضباط الشرطة الأمريكيين للأشخاص ذوي البشرة السوداء. وفي هذه الحال، يحل التحليل النفسي محل التدخل المؤسسي ويتم اعتبار العنصرية المُمارسة من الشرطة مجرد حالات فردية، مما يعيق هذا التدخل.

ويُمكننا لفت الأنظار أيضًا إلى اعتبار التحليل النفسي مخرجًا آمنًا لممارسة العنصرية إن كان المُنفذون من أصحاب البشرة البيضاء، والاستدلال عليه بأكثر من حادث كان أشهرهم واقعة قتل الطبيبة المصرية «مروة الشربيني» في ألمانيا بسبب الحجاب.

في النهاية، لا يمكننا مناقشة الصحة العقلية لأشخاص ذوي مناصب سياسية للتشكيك في قدرتهم على الإدارة السياسية؛ لأن ذلك يؤثر بشكل سلبي على المُتعايشين مع الاضطرابات العقلية من جانب. ومن جانب آخر، التشديد على هذا الخطاب يُعيق اتخاذ اجراءات لإيقاف المُمارسات الموصوفة بالعنصرية، بالأخص تلك المُتعلقة بمؤسسات الدولة أو صدرت من أشخاص ذوي صفة سياسية ودبلوماسية.

المراجع
  1. American Psychiatric Association. Diagnostic criteria for 297.1 delusional disorder. In: DSM-IV-TR: Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fourth Edition, Text Revision. Washington, DC: American Psychiatric Press; 2000.