على مقربة من فندق البارون الواقع في محيط مطار كابل، وقف عبد الرحمن اللوغري ينظر إلى أفراد مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) والمواطنين الأفغان الذين يسعون لمغادرة البلاد، قبل أن يُفجر سترته الناسفة وسط المحتشدين، مخلفًا 170 قتيلًا و200 جريح (إحصاء محلي)، وفي خضم الارتباك الذي سيطر على القوات الأمريكية في أفغانستان، ومن خلفها إدارة الرئيس جوزيف بايدن، أعلن تنظيم «ولاية خراسان» (فرع داعش المحلي) مسؤوليته عن الهجوم الإرهابي، مؤكدًا أنه سيستمر في قتال الولايات المتحدة وحلفائها حتى إشعار آخر.

قبل أسبوع واحد من الهجوم الدامي، نشرت أسبوعية النبأ الداعشية (عدد 300) مقالًا افتتاحيًا بعنوان: «أخيرًا رفعوا الملا برادلي»، قالت فيه إن أمريكا نجحت خلال عملية التفاوض مع حركة طالبان الأفغانية، في صناعة «ملالي» على طريقتها لضرب الحركة الجهادية المعولمة، مضيفةً أن «جنودها في خراسان» يتهيأون لمرحلة جديدة من القتال ضد طالبان وحلفائها لأنهم يرون أن التطورات الأخيرة في أفغانستان لا تعدو كونها استبدال طاغوت حليق (في إشارة للولايات المتحدة) بآخر ملتح (حركة طالبان).

عبد الرحمن اللوجري، منفذ الهجوم الانتحاري على مطار كابل، أغسطس/آب 2021

في هذه الأثناء، بدا تفجير مطار كابل بدايةً للمرحلة الجديدة التي أعلن عنها تنظيم داعش، بيد أنها كانت بدايةً صاخبةً بما يكفي لتصعد بالتنظيم إلى واجهة الأحداث الرئيسية في العالم، بعد أكثر من 6 سنوت على إعلان تأسيسه رسميًا.

هاتف الخلافة على ثرى خراسان

ففي يناير/كانون الثاني 2015، أعلن المتحدث الرسمي باسم تنظيم داعش، آنذاك، أبومحمد العدناني أن التنظيم تمدد إلى خراسان، وأنشأ ولايةً له هناك، بعد بيعة مجموعات محلية لخليفة التنظيم أبوبكر البغدادي، الذي قبل البيعة، وعيّن حافظ سعيد خان واليًا/أميرًا للتنظيم على ولاية خراسان، كما عين عبد الرؤوف خادم أبا طلحة (المعتقل السابق في جوانتانامو)، نائبًا له.

على أن تلك البيعة، كانت بمثابة اختراق لحديقة طالبان الخلفية وصعودًا لتيار الجهاد المعولم، بخاصة أن حافظ سعيد خان ورفاقه شغلوا مناصب قيادية بارزة داخل حركة طالبان باكستان (تحريك طالبان) – 9 من أصل 12 ظهروا في فيديو بيعة البغدادي كانوا من تحريك طالبان – وفي طالبان الأفغانية نفسها – 3 من أصل 12 قيادياً – كما فعل عبد الحسيب اللوغري (الوالي الأسبق لداعش، والخليفة الثاني لحافظ سعيد خان)، وسعد الإماراتي (قيادي طالباني بولاية لوغر سابقًا).

وداخل ولاية ننجرهار الأفغانية (شرقي البلاد على الحدود مع باكستان)، بدأ فرع داعش الجديد نشاطه العسكري والعملياتي، ونجح في استقطاب مجموعات مسلحة من جماعة عسكر طيبة (لشكر طيبة) الباكستانية، وجماعة الدعوة، والحركة الإسلامية في أوزبكستان، وشبكة حقاني (المكوّن الأكثر تشددًا في طالبان الأفغانية)، فضلًا عن بعض العناصر والقيادات الوسيطة الذين انشقوا عن طالبان بسبب الخلافات معها، والمجموعات القبلية التي ارتبطت سابقًا بالجماعات المسلحة النشطة في ولايات ننجرهار، وكنر، وقندوز، وغيرها من مناطق الحدود الأفغانية الباكستانية.

كما ألهمت الدعاية التي يبثها تنظيم داعش عبر الفضاء الإلكتروني أفرادًا ومجموعات سلفية جهادية محلية، للانضمام لـ«ولاية خراسان»، لاحقًا، كما تكشف عديد التقارير والتحليلات حول التنظيم في أفغانستان.

وفي المقابل، لجأت حركة طالبان الأفغانية لاتباع مقاربة استئصالية في التعامل مع «ولاية خراسان»، وخاض الطرفان معارك حامية الوطيس في ولايات ننجرهار وكنر، كما تعهدت الحركة بالاستمرار في مواجهة التنظيم وعدم السماح له بالوجود على الأراضي الأفغانية، وذلك تطبيقًا لاتفاقية السلام التي أبرمتها مع الولايات المتحدة في 2020.

أكثر من مجرد فرع محلي

إلى ذلك، سعت القيادة المركزية لتنظيم داعش لنقل أفكارها وإستراتيجياتها الخاصة إلى «ولاية خراسان»، وتعزيز سيطرته على الفرع التابع له، فقدمت دعمًا دعائيًا ماليًا ولوجيستيًا للولاية الناشئة، وحولت مئات الآلاف من الدولارات لقيادتها كي تتمكن من تمويل عملياتها الروتينية.

وبمرور الوقت تحولت «ولاية خراسان» إلى قيادة إقليمية داعشية تُشرف على عمليات التنظيم في مناطق جنوب آسيا وتشمل قطاعاتها العملياتية دول (أفغانستان، وباكستان، والهند، وبنجلاديش، وسيرالانكا وغيرها)، كما وثقت القيادة المركزية روابطها بمجموعات «خراسان» عبر إرسال قادة عراقيين (على رأسهم أبوقتيبة العراقي رئيس عمليات داعش في محافظة نينوى العراقية، سابقًا، وهو الذي سافر إلى خراسان في 2018 بحسب تقرير لمجلس الأمن الدولي)، ومندوبين عن خليفة التنظيم إلى أفغانستان، وتولى هؤلاء المندوبون الإشراف على القيادة المحلية ورفع تقارير شهرية لتقييم الأداء إلى خليفة التنظيم.

وبموجب هذه التقارير التقيمية، أجرت قيادة التنظيم المركزية تغيرات في داخل القيادة العليا للفرع الأفغاني. ففي عام 2019، عزل أبوبكر البغدادي والي التنظيم الأسبق على خراسان، مولوي ضياء الحق، بسبب تقارير مندوبيه عن الانتكاسات التي تعرض التنظيم لها هناك، وعين بدلًا منه أبو عمر الخراساني المعروف أيضًا بمولوي أسلم فاروقي/ عبد الله أوراكزي.

خلخلة قيادية وقدرة على الصمود

لكن هذا التغيير القيادي، لم يكن الوحيد على مستوى القيادة العليا في «داعش خراسان»، إذ تعرض التنظيم منذ نشأته إلى عملية خلخلة قيادية مركزة بواسطة القوات الأمريكية التي كانت موجودة في أفغانستان، سابقًا، وكذلك خسر عددًا من قادته وأفراده البارزين في المواجهات مع القوات الحكومية من جهة، ومع حركة طالبان من جهة أخرى.

وتمكنت القوات الأمريكية من اغتيال الملا عبد الرؤوف خادم، نائب حافظ سعيد خان، بغارة جوية، خلال أقل من شهر على إعلان ولاية خراسان (فبراير/شباط 2015)، وكذلك نجحت في تصفية حافظ سعيد خان بنفس الطريقة في (أغسطس/آب 2016).

وفي أبريل/ نيسان 2017، استطاعت القوات الأمريكية الوصول إلى عبد الحسيب اللوغري (الزعيم الثالث للتنظيم) واغتالته بغارة جوية. وبعد حوالي 3 أشهر فقط، نجحت في تحييد خلفه أبي سيد أوراكزاي المعروف أيضًا بـ«سعد أرحبي»، كما ألقت القوات الأفغانية الخاصة، في أبريل/نيسان 2020، القبض على عبد الله أوركزاي (أسلم فاروقي، الذي عينه أبوبكر البغدادي في 2019)، و2 من أبرز قادة التنظيم هما المسؤول العسكري، ومسؤول التجنيد بجانب 19 من قادة وعناصر التنظيم الفاعلين.

ورغم الخلخلة القيادية التي تعرض لها، أثبت التنظيم قدرته على التكيف والصمود في وجه الضربات التي تعرض لها، كما نجح في إعادة بناء شبكاته القتالية، بصورة استثنائية، وتمكن، خلال 4 أشهر فقط من العودة إلى شن هجمات منسقة، كان أبرزها اقتحام سجن جلال آباد المركزي (ولاية ننجرهار) وإطلاق سراح المئات من عناصره وقادته، في أغسطس/آب 2020، واستهداف القصر الرئاسي في كابل في أكثر من مناسبة بالصواريخ والقذائف كان آخرها خلال أداء صلاة عيد الأضحى في يوليو/تموز الماضي، بجانب تنفيذ اغتيالات لرجال استخبارات ومسؤولين حكوميين بارزين، ومدنيين، وإعلاميات محليات بدعوى عملهن في «إذاعات وتلفزيونات الطاغوت»، فضلًا عن محاولة اغتيال نائب الرئيس الأفغاني (السابق) أمر الله صالح في سبتمبر/أيلول 2020.

ومن الواضح أن حالة الصحوة العملياتية التي عاشها تنظيم «ولاية خراسان» ارتبطت، بشكل وثيق، بقدرة التنظيم على تعويض خسائره وتجنيد أفراد جدد (تُقدر تقارير دولية عدد مقاتليه، حاليا، بنحو 2200 مقاتل)، بجانب تولي أسد الله أوراكزي الشهير بـ«أسد الله المهاجر» إمارة التنظيم الإرهابي، لا سيما أن «الوالي الداعشي» الجديد هو أحد أبرز القادة العسكريين والأمنيين للتنظيم في أفغانستان وله باع طويل في حرب العصابات التي ألف فيها كتابًا بعنوان «حرب الكر والفر»، كما تولى، سابقًا، الإشراف على مركز الأمن الخاص بالتنظيم (الجهاز الاستخباري)، بحسب ما ذكرته الاستخبارات الأفغانية.

مرحلة جديدة من الصراع

وبينما كان التنظيم يواصل عملياته الروتينية في شرق وجنوب أفغانستان، منتصف أغسطس الجاري، دخلت حركة طالبان إلى العاصمة كابل وسُلطت الأضواء عليها، وسط حالة من الترقب والانتظار لما ستؤول إليه الأحداث في البلاد التي عاشت تحت وطأة الحروب منذ عقودٍ طويلة.

غير أن تنظيم «ولاية خراسان» نجح في كسب الزخم وسرقة الأضواء، بشكل لحظي، من الحركة الأفغانية بعد الهجوم الذي نفذه أحد مقاتليه قرب مطار كابل، مرسلًا بذلك رسالة ضمنية إلى جميع الأطراف، مفادها أن القتال مع حركة طالبان الوطنية (التي يصفها بالردة والكفر) دخل مرحلةً جديدة، وأن مقاتلي داعش لن يستسلموا  حتى تخضع الأرض كلها لهم، على حد قول التنظيم في افتتاحية «الملا برادلي» الشهيرة بصحيفة «النبأ» الأسبوعية.