ترك الاحتلال الأجنبي بصماته على قلب الحضارة الإسلامية نهاية القرن الـ19، فدارت الرحايا على حماة الدين الإسلامي في مصر، وانقسموا لدعاة تجديد متشربين بالثقافة الغربية رأوا في الدين مسألة بين العبد وربه، ومفكرين أصوليين رفضوا إضفاء الطابع العلماني على الدولة التي كادت تفقد نكهتها.

فَقَدَ الفريقان القدرة على التمييز – بشكل كبير- بين ما يناسبهم وما لا يناسبهم، وتزايدت تجربة الاقتباس المتلهف عن الغرب خلال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الـ20، حتى اختلط الأمر على المصريين وكادوا يفقدون هويتهم وإسلامهم، وانتشرت البعثات التبشيرية وحوادث يُرغِم فيها مديرو المدارس والمعاهد الأجنبية الأطفال المسلمين – بالقوة- على الارتداد عن دينهم.

كتب المؤرخ الفرنسي «مارسيل كولومب» كتابه «تطور مصر: 1924-1950»، عن فترة كان فيها الإسلام على شفا حفرة، وذلك بعد أن قضى كولومب سنوات طوالاً في دراسة الشرق الحديث، حتى قدّم في كتابه صورة عن تطور مصر في فترة ما بين الحربين وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية.


معركة القدامى والمحدثين وحق المصري في التفكير

حاول المجددون تحطيم ذلك الإطار الضيق الذي ترك المجتمع الإسلامي نفسه حبيس أسواره، وظهرت مع هذه الأفكار مشكلة حرية التفكير لأول مرة في مصر، وهي لم تتخلص بعد من تقاليدها القديمة؛ ففي أبريل/نيسان 1925، أخذ علي عبد الرازق، خريج الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة، على عاتقه إثبات أن مبدأ فصل الدين عن الدولة يتطابق مع تعاليم القرآن والسنة، وذلك في كتابه «الإسلام وأصول الحكم». وفي ذلك الوقت كانت هذه المحاولة جرأة وتطاولاً على الدين وعلى الحاكم، لأن دعوته هذه تضفي الشرعية على مبدأ إلغاء الخلافة الذي اتخذه مصطفى كامل أتاتورك.

اشتهر كتاب عبد الرازق، ولم تتوقف دعوته عنده، فبعد عام وفي قلب جامعة فؤاد الأول، قام الأزهري، الدكتور طه حسين، بتطبيق منهج الشك الديكارتي العقلاني على دراسته للأدب العربي، وتشكّك دون خوف في أصالة الشعر الجاهلي وأثار الشك حول مسلمات دينية حظيت لأجيال بقبول السنة، وسجل ذلك في كتابه «في الشعر الجاهلي» ونشره عام 1926.

أثار هذان الكتابان خلفهما عشر سنوات من الجدل الذي وصل البرلمان، فرغم أنهما أظهرا فكرًا مصريًا مع استمرار كونه مسلمًا؛ ظهرت مطالبات بمساواة الرجل والمرأة وإلغاء المحاكم الشرعية والتنديد بتعدد الزوجات، حتى طالب بعض النواب بإلغاء الأوقاف ومنصب المفتي، وتناول الصحافيون والمفكرون نقد الحضارة الإسلامية واستعادة مصر الفرعونية، ودخلت اللغات الأجنبية مؤسسات التعليم وخلع الطلاب العمامة وارتدوا الطربوش والزي الأوروبي.

أُخذت الأزاهرة على غرة بهذه الأفكار الغربية، ولم يتنبؤوا بما تحمله من آثار على الشريعة أولًا وعلى دورهم كحماة لها وقادة لفكر الأمة ثانيًا؛ فالتشريع ذهب لسلطة دنيوية، ومفاهيم العصر صارت تتعارض مع روح الإسلام تمام المعارضة. لذا، كلما مضى الوقت تميزت ردود أفعال الشيوخ بالعنف، وأثارت محاولات إعادة صياغة قوانين الأحكام الشرعية في كل الأوساط الدينية موجة من السخط العميق، فكان الإصلاح المنشود يصطدم على الدوام بتعنت المشايخ، وما كان يمكن أن يتقبلوه.

انتقلت المعركة إلى منصة البرلمان وصفحات الصحف والمجلات، واستخدم الكثير سلاح الإلحاد لتحطيم من لا يروق لهم أمام الجماهير، وانقلب الأزهر على أبنائه؛ فأدان أفكار علي عبدالرازق وطرده من هيئة العلماء وعزله من منصبه في القضاء الشرعي، كما جاهد في إثارة الرأي العام والحكومة ضد طه حسين، حتى صُودرت كتبه، كما طالب بتنحيته عن منصبه كأستاذ بالجامعة حتى تحقق ذلك بالنهاية وانتقل طه حسين إلى وزارة المعارف العمومية، واقتسم البرلمان بالنهاية سلطته التشريعية مع الأزهر.


إحياء الخلافة الإسلامية بذراع رشيد وحده

لم يلحظ المراقبون الأوروبيون الجانب المأساوي والتراجيدي أحيانًا لرياح الثقافة الغربية التي هبت على الشرق الأوسط؛ فبعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، لم يعد الإسلام دينًا رسميًا للجمهورية التركية، يوم 10 أبريل/نيسان 1928.

وفي ذلك الوقت كان رشيد رضا يُشكِّل مذهبه في جو من الثورات والاضطرابات والتمرد. ولقد كان يفوق غيره في إدراك إمكانيات القوى التي كانت تعمل على تمزيق وحدة الإسلام، من جهل وعنصرية وتفكك وبغضاء، ولكم وجه النداء بالوحدة والوفاق بلا جدوى، حتى تناحرت القوميتان العربية والعثمانية وانهارت الأخيرة أثناء الحرب.

وعلى الرغم من أنه لا ينتمي أصلًا لمصر، فإنه أثّر في مجرى تطور الفكر المصري. ولما كان قد اضطر للهروب من سوريا، مسقط رأسه، تحت وطأة الطغيان الحميدي لجأ لمصر ليشهد الانهيار البطيء للإمبراطورية العثمانية على أيدي القوميات الوليدة.

لم يؤسس رشيد مذهبه ليخرج متماسكًا بل خرج على عجلة في مقالاته، كي ينير الطريق لفريق من المسلمين كانوا على وشك أن يفقدوا يقينهم، في دفاع يائس عن الإسلام ضد خصومه، دفاع واعتذار عاطفيين، فلم تكن مقالاته وكتبه تقنع بالمنطق قدر ما تؤجج العواطف.

أدرك رشيد أن دوره في إنقاذ الإسلام يبدأ بنقد جهل الأولين وجنون المتفرنجين، وأخذ على عاتقه مهمة إثبات أن الشريعة الإسلامية أوسع الشرائع وأكملها، وقادرة على التوافق مع ظروف الحياة، وأن مبادئ أئمة السنة الأربعة جميعها تتميز بالطابع الإنساني العام، وأي اجتهادات أخرى دخيلة على الدين تخص القائلين بها وحدهم.

كان رشيد رضا يدعو المسلمين للعودة للمصادر الأولى، وإلى تفسير جديد للنصوص، لكن مجهوداتهم تلك لا ينبغي أن تقودهم إلا إلى إحياء الخلافة وتقويتها، فهي الحكومة المثلى التي دونها لا يمكن أن يتحسن حال البشرية، وهي وسط بين الجمود وحضارة الإفرنج الفاسدة.

بالرغم من جهوده لم يتوصل رشيد إلى إقناع العالم الإسلامي بضرورة دعم الخلافة وإحيائها، رغم تصوراته شبه الكاملة لهيكلها؛ فلم تجرؤ الجامعة الأزهرية على أن تقوم بالمهمة التي تمناها رشيد، رغم أنها المهمة التي نذرت لها نفسها، وهي مهمة إعادة تفسير النصوص الإسلامية تفسيرًا جديدًا، فقد رفض علماؤها أن يزحزحوا حدود التقاليد لما بعد الأئمة الأربعة مؤسسي المذاهب السنية؛ أما المحدثون فقد وجدوا في منهج رشيد سببًا قويًا لتبرير نقلهم عن الغرب، حتى انغلق باب الاجتهاد وتناقص عدد أتباعه عاماً بعد الآخر. حتى أن وفاته عام 1935 مرت حدثًا عاديًا.


على هامش التجديد في الدين والأدب

كان مما فعلته الحركة الأدبية في هذه المرحلة الخطرة، أن تُصوِّر للجموع نفس المدينة الفاضلة الرومانسية، وتكون هذه المدينة إسلامية، ويجد المسلم العادي في كتب العقاد وطه حسين وهيكل برهاناً قاطعاً على سمو دينه وتفوقه.

لم تكن هذه النتيجة سهلة المنال، فقد كان لمقالات رشيد رضا أثر في نشأة العديد من الجمعيات الدينية في أوساط الطبقات المتوسطة، مثل: «جمعية الشبان المسلمين»، و«جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية»، و«جمعية الهداية الإسلامية»، و«جمعية الوعظ والدعوة الإسلامية»، و«جمعية إحياء السنة». ودومًا ما كانت تنفي هذه الجمعيات عن نفسها تدخلها في الحياة السياسية للبلاد، لكنها سرعان ما تحولت لجمعيات يتعايش فيها الدين والوطنية، حتى نشأت جمعيات أخرى لها طابع مزدوج (ديني/سياسي) مثل «جماعة الإخوان المسلمين» 1927، و«جمعية مصر الفتاة» 1933.

في مواجهة الغرب بدأت الجمعيتان الوليدتان في الدفاع عن الإسلام وحضارته، وثاروا ضد الحملات التبشيرية، والمستشرقين الذين قذفوا النبي إبراهيم والكعبة، حتى انضم الأزهر لهذه الثورة وتبعه الشعب بجامعاته ومدارسه مشكلين تيارًا قويًا ضد الأجانب، حتى أن المسيحيين الذين أيدوا علمانية الدولة يومًا أسهموا في الدفاع عن الإسلام، مثل سلامة موسى ومكرم عبيد باشا، الذي رصد مبالغ ضخمة لبناء مساجد جديدة.

في هذا الوقت حاول دعاة التجديد البرهنة على إخلاصهم لعقيدتهم، فظهر أدب يستلهم من الدين، بداية من ثلاثية طه حسين «على هامش السيرة»، وكتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد»، والسلسلة الطويلة التي بدأها عباس العقاد بـ«عبقرية محمد»، أما توفيق الحكيم، فقد قدّم أحداثًا من حياة النبي على شكل حوار، حتى تشكل تيار أدبي جديد قام على أحداث منتقاة من سيرة حياة النبي والخلفاء الراشدين، لأقلام اشتهرت بمناهجها وعقليتها الليبرالية الناقدة والثورية أحيانًا.

وعندما كان المؤمن يقرأها بنفسه كان يحوز ثقة مطلقة في أن شعبًا كهذا، بسط سيطرته في الماضي على رقعة تمتد من بلاد الهند حتى البرانس (شمال إسبانيا)، لا يمكن أن ينتظره إلا مستقبل مشرق.