استطاع العُلماء تخليد سيرتهم من خلال إنجازاتهم العلمية والعملية، وكذلك الكُتاب والفنانون؛ وغيرهم من المبدعين، حيث حملت أعمالهم صورة موجزة عن طبائع وثقافة وأفكار عصرهم، التي اعتنقوها وآمنوا بها، فمهدت لهم الطريق للإبقاء على أسمائهم على مر العصور.

أما الملوك فعرفوا منذ البداية أن سيرتهم وإنجازاتهم السياسية والاقتصادية سوف تتوه بين زحام الكتب، أو ربما تُسجل مخالفة للواقع، فيحذف منها أو يضاف لها ما لا يمت للواقع بصلة، لذلك تفننوا وتنافسوا في تشيد العمائر التي تحمل أسماءهم، حتى تظل أسماؤهم تتردد على ألسنة الناس، وتقديم صورة مبسطة لهوية الملك.

مدونات الفراعنة

الإيمان بالبعث والخلود، سمة في الحضارة الفرعونية، لذلك اهتم ملوك وملكات مصر القديمة ببناء المعابد والمقابر، التي حملت أسماءهم، ودونت على جدرانها معتقداتهم الدينية، وملامح الحياة اليومية، والأحوال السياسية والاقتصادية، للتعبير عن إسهاماتهم الحضارية، فنجد أهرامات الجيزة التي حملت أسماء ثلاثة ملوك لمصر القديمة؛ وهم: خوفو وخفرع ومنكاورع، حتى تكون مقابر لهم، والتي عبرت لما وصلوا إليه من مهارة وإبداع في فنون الهندسة والعمارة، بجانب إيمانهم بالبعث والثواب والعقاب.

وكذلك نرى روعة إبداعاتهم في المعابد التي شُيدت جنوب مصر، ومنها معبد حتشبسوت (أول امرأة حكمت مصر)، ومعبد رمسيس الثاني (الذي يشهد تعامد الشمس في العام مرتين)، ومعبد هابو لتخليد رمسيس الثالث، وغيرها من المعابد التي نقلت لنا الحضارة الفرعونية في مصر، اتفقت جميعها على فخامة وضخامة الأبنية، وروعة التصاميم، وجمال الزخارف والنقوش، والإبقاء على اسم صاحبها على مر العصور، رغم أنها طوت سيرتهم.

وهذا ما لفت انتباه ملوك وأمراء الدولة التي جاءت بعد الحضارة الفرعونية، وخاصة الدولة الإسلامية التي أسسها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة ثم اتسعت رقعتها الجغرافية، خلال فترة قصيرة من الزمن، وشهدت بعد وفاته عدة مراحل، بداية من الخلافة الراشدة، ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، هذا بخلاف قيام دول أخرى حملت اسم مؤسسيها.

عبد الملك بن مروان ومسجد قبة الصخرة

اتسمت فترة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه الراشدون بالبساطة في العيش، ولكن بعد أن انتقلت الخلافة إلى بني أمية، تغيرت نظرة الملوك إلى الحياة في كل شيء، وهذا ما نراه جليًا في الأبنية المعمارية.

ففي عهد عبد الملك بن مروان، خامس خلفاء بني أمية، شيد مسجد قبة الصخرة بفلسطين، في عام 72ه، الذي تميز بتصميم فريد لم يظهر من قبل في بناء المساجد، ويمتاز بالجمال والفخامة، فهو من الخارج للداخل، عبارة عن مبنى مثمن الأضلاع، ويقع بكل ضلع من أضلاعه الخارجية عقود مدببة تعلوها نوافذ، ويكسو الجزء الأسفل من الجدران الخارجية ألواح من الرخام، أما الجزء الأعلى فمغطى بطبقة من الفسيفساء استبدلت في العصر العثماني بالقيشاني، ثم تثمينة من الدعائم يكسوها الرخام وستة عشر عمودًا رخاميًا ذات تيجان مختلفة الطراز، وأخيرًا في المركز الصخرة المقدسة، التي عُرج منها الرسول (صلى الله عليه وسلم) للسماء، ويحيط بها دائرة من الدعائم والأعمدة، التي تحمل واجهة أسطوانية، مغطاة من الداخل بالفسيفساء ذات الزخارف النباتية، والنصوص الكتابية، ويعلوها القبة مزدوجة الكسوة من الداخل بالجص المذهب ومن الخارج ألواح من الرصاص.

أما عن سبب بناء المسجد بهذا الشكل، فيرجع لسببين؛ الأول: رغبة عبد الملك في بناء مساجد لا تقل في جمالها وفخامتها عن الكنائس البيزنطية، وتحمل الهوية الإسلامية في نمط العمارة والفنون الزخرفية.

أما السبب الثاني، فهو كما حكى ابن كثير في كتاب “البداية والنهاية”، أن عبد الملك أمر ببناء مسجد قبة الصخرة، حتى يشغل أهل الشام عن الذهاب إلى الحج حيث ما زالت مكة والمدينة تحت سيطرة عبد الله بن الزبير، منافسه على الخلافة، فكان الناس يذهبون في وقت الحج يطوفون حول الصخرة وينحرون يوم العيد، وظل هذا الأمر لمدة تسع سنوات، كما أنها تُعد تحفة فنية شاهدة على فترة صراع على خلافة المسلمين انتهت لصالح عبد الملك بن مروان.

ابن طولون ومسجده المُعلق

يعود جامع ابن طولون، القائم بالقاهرة في مصر، إلى صاحبه أحمد بن طولون، الذي ولد في بغداد، وتربى في بلاط الخلافة العباسية، وقد جاء إلى مصر سنة 254ه، واستقل بها لضعف الخلافة العباسية.

وحمل معه ملامح الفن العباسي في بناء مدينة القطائع، التي اندثرت بمرور الزمن ولم يبقَ منها سوى الجامع الذي حمل اسمه، وذلك للتأكيد على بداية عصر جديد في مصر، وأنها أصبحت دولة مستقلة لا يربطها بالخلافة العباسية سوى التبعية الدينية.

وشيّد ابن طولون جامعه فوق ربوة صخرية تُعرف بجبل يشكر، وظهر في تفاصيل العمارة والزخارف الفنية بالجامع طراز سامراء العباسي، فهو عبارة عن مساحة مستطيلة، وسطها صحن مربع مكشوف، يطل عليه أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وكانت مادة بنائه الطوب الآجر، وكذلك في بناء المئذنة الملوية، المكونة من قاعدة مربعة يعلوها جزء أسطواني، وقد كسيت جدرانه بالجص المزخرف، وهي من سمات الفن العباسي.

جامع الأقمر: دُرة العمارة الفاطمية

أرسل الخليفة الفاطمي بالمغرب العربي، المعز لدين الله، جيشًا بقيادة جوهر الصقلي، للقضاء على الأخشديين في مصر، وضمها للخلافة الفاطمية، سنة 358ه، وقبل قدوم الخليفة سنة 362ه، شيد مدينة القاهرة، والجامع الأزهر، وهو أول عمل فني معماري لنشر المذهب الشيعي.

حمل الفاطميون معهم سمات العمارة في مدينة المهدية عاصمة الخلافة الفاطمية، مثل الخط الكوفي والنقوش على الجدران والعقود المنكسرة، قبل أن ينتقل مقر الخلافة للقاهرة، فتحررت بذلك مصر من تبعيتها للخلافات الإسلامية، التي كان مركزها الجزيرة العربية ثم الشام ثم العراق.

ازدهرت مصر معماريًا وفنيًا خلال العهد الفاطمي، حيث تم تشييد العديد من القصور والجوامع والمنازل التي أُحيطت بسور شاهق من الحجر الأبيض المزود بأبراج وبوابات عظيمة، وهذا يدلُّ على تأثر الفن الفاطمي بالفن المغربي والأموي.

ومن أجمل العمائر الدينية الفاطمية، الجامع الأقمر، الذي أمر ببنائه الآمر بأحكام الله الفاطمي، سنة 519ه، وترجع أهميته إلى أن واجهته غنية بالزخارف المنحوتة، والنقوش الكتابية والنباتية المحفورة في الحجر، كما توجد زخارف من المقرنصات، وهي من العناصر المعمارية الحديثة، ويتكون من صحن مكشوف يحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة، والأروقة مغطاة بقباب ضحلة.

قبة الإمام الشافعي: نهاية للمذهب الشيعي

اغتنم صلاح الدين الأيوبي، ضعف الدولة الفاطمية ومرض آخر خلفائها العاضد لدين الله، وأمر بالدعاء للخليفة العباسي بدلًا من الفاطمي، وفي سنة 567ه، استقبل بحكم مصر، وأسس الدولة الأيوبية.

اهتمَّ الأيوبيون ببناء المدارس، حيث نقل صلاح الدين طراز المدارس السلجوقية، وذلك بهدف نشر المذهب السني والقضاء على المذهب الشيعي، وكذلك الأضرحة لأولياء الله، بهدف نشر الوعي الديني، وتحفيز الناس على الاستشهاد في سبيل الله والوطن.

ويتسم نمط المدارس الأيوبية، بأنه عبارة عن صحن مكشوف يحيط به أربعة إيوانات كبيرة، كل إيوان لتدريس مذهب من المذاهب الأربعة السنية؛ وهي: المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي.

أما الأضرحة فهي مبنى مربع مغطى بقبة، وتُعد قبة الإمام الشافعي من أشهر القباب الضريحية التي شيدت في العصر الأيوبي، حيث يفصل جدران المربع عن القبة دائرة أسطوانية تزخر بالمقرنصات في الأركان الأربعة، وكل ركن عبارة عن ثلاثة صفوف من المقرنصات، ومادة بنائها الخشب، ويميز القبة المركب العشاري؛ وهي عبارة عن مركب تعلو هلال القبة وتتدلى منها سلسلة حديدية، وقد خضعت القبة للتجديد أكثر من مرة عبر العصور.

المماليك: الرفاهية والإبداع في العمارة الإسلامية

ورث المماليك العرش من الأيوبيين، واستطاعوا أن يحكموا قبضتهم على مصر، في الفترة من 648ه إلى 923ه، رغم التنازع على الحكم فيما بينهم، وعُرف عنهم قدراتهم العسكرية العالية، وتحقيقهم العديد من الانتصارات في الحروب التي دخلوا فيها مع أعدائهم من الصليبيين والمغول.

ونتيجة لدمار مدينة بغداد، وضعف المدن الإسلامية الأخرى، شهدت القاهرة نهضة كبيرة في شتى المجالات، فازدهرت الحياة الدينية والثقافية والفنية والاقتصادية والعسكرية، وكان للعمارة والفن الإسلامي، حظ وافر من اهتمام وعناية السلاطين والأمراء المماليك، وقد أُدخلت عناصر من الفنون التركية والمغولية في الفن الإسلامي، لهذا يُعرف عصر المماليك بالعصر الذهبي للعمارة الإسلامية، وهذا لتنوع العمائر الدينية، والتي شهدت تطور جميع أنواع الطرز والأساليب الفنية القديمة في عهدهم.

المدارس

رغم أن بدايتها كانت في العصر الأيوبي، إلا أنها انتشرت في عصر المماليك، واهتم كل سلطان بأن يلحق بالمدرسة التي يشيدها ضريحًا له.

كما خصص المماليك في تصميمهم للمدارس غُرفًا (خلاوي) لمبيت طلاب العلم، وتوفير كل ما يلزمهم داخلها، وبذلك تصبح المدارس مسجدًا للصلاة وجامعة لتُعلم جميع العلوم الشرعية والدنيوية.

ومن أشهر المدارس المملوكية، مدرسة السلطان حسن (757-764هـ)، من أهم المدارس على الإطلاق، وذلك لجمعها بين دقة الصنعة مع جمال الفن، وقد أمر ببنائها السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون.

وتتكون المدرسة معماريًا من صحن مكشوف، وتتوسطه فسقية تحملها ثمانية أعمدة رخامية كتب بدائرتها آيات قرآنية، يتعامد عليها أربعة إيوانات، أكبرها إيوان القبلة ويقع فيه المحراب المكسو بالرخام وعلى يمينه المنبر المصنوع من الرخام الأبيض وله باب من الخشب المكسو بالنحاس المشغول، أيضًا يتوسط الإيوان ما يُعرف بدكة المُبلغ ويحملها 4 أعمدة رخامية، هذا إلى جانب الكتابات القرآنية والزخارف النباتية والهندسية.

أما عن المآذن فلا يوجد سوى اثنتين، تمتاز كل منهما بالارتفاع وتنوع الزخارف الهندسية.

الخانقاوات

بدأت في العهد الأيوبي، وتصميمها المعماري لا يختلف كثيرًا عن المدارس، وكلمة (خانقاه) هي لفظ فارسي، يُطلق على المكان المخصص لإقامة الصوفيين.

وتم تشييدها لسببين؛ الأول لمواجهة المذهب الشيعي، وذلك من خلال التعمق في العلوم الشرعية، والآخر دعوة الناس وتشجيعهم للدفاع عن الأرض ضد الخطر الصليبي، وذلك في صورة مواكب كانت تخرج من الخانقاه بعد صلاة الجمعة، وتطوف في الشوارع، وتلقي الأناشيد الصوفية الحماسية، وظلت تقوم بهذا الدور في عهد المماليك، بأن تخرج لتحفيز الناس ضد الأعداء.

ومن أشهرها، خانقاه بيبرس الجاشنكير (706-709هـ)، والتي أمر ببنائها الأمير بيبرس الجاشنكير قبل توليه حكم مصر، وهي عبارة عن صحن مستطيل مكشوف، تحيط به حوائط عالية الارتفاع، وعلى جانبين منه إيوانان متقابلان، أحدهما إيوان القبلة ويقع في الجانب الشرقي، أما الجانب القبلي والبحري فهما سكن للصوفيين.

أما المئذنة فهي تتكون من قاعدة مربعة وجذع أسطواني وقمة مضلعة يكسوها القشاني الأزرق.

المجمعات المعمارية

ظهر نوع جديد من العمارة الإسلامية في عهد المماليك عُرف بالمجمعات، وتتكون معماريًا من أكثر من وحدة، وهي المدرسة ذات التخطيط المتعامد، وملحق بها بيمارستان (مستشفى)، وسبيل يعلوه كُتاب، وقبة الدفن، وساقية وحوض للدواب.

ويرجع سبب ظهورها إلى رغبة السلاطين في التقرب من الرعية ولكسب محبة الناس والدعاء لهم، وتقديم خدمات مجانية للرعية على عكس الخانقوات، وهذا ما توضحه الوثيقة الوقفية أو النص التأسيسي للمنشأة.

ومن أشهر المجمعات المعمارية التي شيدت في مصر، هي مجموعة قلاوون، في شارع المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة، وتُعد درة العمارة الإسلامية، وذلك لتنوع عناصر العمارة الإسلامية فيها.

وتضم مجموعة السلطان المنصور قلاوون (683-684هـ)، أكثر من وحدة معمارية، وهي المدرسة، والبيمارستان (المستشفى)، والسبيل، والكُتاب، وقبة الدفن، والتي ما زالت تحتفظ بكامل عمارتها وجمالها.

فواجهة المجموعة تطل على شارع المعز، وجدرانها غائرة معقودة محمولة على أعمدة رخامية وبداخلها شبابيك مزخرفة بأشكال هندسية مفرغة، بالإضافة إلى الشبابيك النحاسية، كما تحتوي الواجهة على شريط كتابي محفور في الحجر بخط الثلث يتضمن اسم منشئ البناء وألقابه وتاريخ الإنشاء.

أما باب المجموعة الرخامي، فهو أول ما يلفت انتباه الزائر فهو ذو طراز قوطي، كان لإحدى الكنائس في عكا، ويفضي إلى مجاز طويل ينتهي إلى بابين يوصلان إلى قبة الدفن وقاعدتها الغنية بالزخارف الإسلامية، ويقابلهما بابان يؤديان إلى المدرسة، وهي عبارة عن صحن مكشوف يطل عليه أربعة إيوانات، وفي نهاية المجاز باب كان يؤدي إلى البيمارستان، والتي ما زالت تحتفظ بكامل روعتها المعمارية بالنسبة للإيوانين الشرقي والغربي.

وأعلى المدخل توجد مئذنة مكونة من ثلاث طبقات، الأولى مربعة مزينة بزخارف وكتابات جصية تنتهي بمقرنصات، أما الثانية فمثمنة تنتهي بمقرنصات، أما الثالثة فهي حديثة التصميم.

المراجع
  1. دكتورة نعمت إسماعيل علام، فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية
  2. حسن قاسم، المزارات الإسلامية والآثار العربية في مصر والقاهرة المعزية.
  3. الدكتورة سعاد ماهر محمد، مساجد مصر واولياؤها الصالحون.