لَيْسَتْ تَنْزِلُ بَأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دِينِ اللهِ نَازِلَةٌ إِلا وَفِي كِتَابِ الله الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الهُدَى فِيهَا
الإمام الشافعي في «الرسالة».

يصف الغربيون حضارة الإسلام بأنها حضارة “نصية” (textual civilization)، والأمةَ الإسلامية بأنها أمة “نصية” (textual community)، ويريدون بذلك أنها تدور في فلك “نص” خَلَعَتْ عليه من التقديس والتعظيم ما حملها على أن ترى فيه “معيارًا” تُعرض عليه الأفكار والأعمال، فيُقبلُ منها ما وافقه ويُردُّ ما خالفه.

والحق أن هذا الوصف في مجمله صحيح، بقطع النظر عن غرض الواصف. وفي هذا الصدد يقرر القرآن الكريم حقيقتين تخصانه وتوجبان أن يكون “قطبًا” يدور في فلكه كلُّ مؤمن به، وهما العصمة، والحَقِّيَّة المحضة.


القرآن: النصُّ المعصوم

قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لحَافِظُونَ» (الحِجر: ٩). ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أمرين: أحدهما: «إلهية» المصدر«إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ»، وهو أمر اعتضد بأوصاف للقرآن جاءت بها آياتٌ أخرى، منها قوله تعالى: «وإنَّه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ» (فصلت: ٤١). والعزة وصف مشترَكٌ بين الكتاب ومُنْزِل الكتاب سبحانه. ومعناها دائرٌ على الغَلَبَةِ وقوة الجانب. قال الراغب: «العزيز: الذي يَقهَر ولا يُقهَر (…)، و(كِتَابٌ عَزيزٌ) يصعب مناله ووجود مثله» (الراغب الأصفهاني، مفردات القرآن، مادة “عزيز”). والأمر الآخر: الحفظُ والصيانة «وَإنَّا لَهُ لحَافِظُونَ»، أخرج الطبري (ت.٣١٠هـ) بسنده عن قتادة (ت.١١٨هـ)، قال: «الباطلُ إبليس، لا يستطيع أن ينتقص منه حقًّا، ولا يَزيدَ فيه باطلا»، (الطبري، جامع البيان، ٢٠: ٤٤٤)، وهو قوله سبحانه في الآية الأخرى: «لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَديْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ» (فصلت: ٤٢). ولا يخفى أن جمع نصٍّ بين وصفي الإلهية والحفظ يكفل له ضربًا من «العصمة» في المبدأ والبقاء جميعًا؛ وذلك أن كون النص إلهيًّا فحسب لا يعني بالضرورة حفظه من التغيير، فالقرآن يحدثنا عما صنعه أهل الكتاب بكتبهم السماوية من تحريف وتبديل، جاوز المعاني إلى الألفاظ والمباني، فكان لا بد إذن من النص على أن القرآن «محفوظ» بالحفظ الإلهي حتى يجري معنى العصمة في بقائه، كما جرى في ابتدائه.

كان لا بد من حفظ المعاني كما حُفظت المباني (الألفاظ)، فامتدت بَرَكَةُ القرآن إلى السنة، فإنها تفسِّر، وتفصِّل، وتبين، وتخّصّص، وتقيد، وتوضح، فهي بيانه. ثم امتدت بركته إلى أهل العلم؛ لأن كلامهم من السنة بمنزلة الشرح من المتن.

ولا ينبغي أن يُظن أن هذا الحفظَ مقصورٌ على ألفاظ القرآن وعباراته فحسب؛ إذ لا يُتصوَّر حفظ الكلام لفظًا مهما كان نفيسًا مع ضياع معناه، فإن ذلك أشبه بكنز حيل بين صاحبه وبينه، فلا صاحبُه فقيرٌ فيَسْألَ الناس، ولا هو غنيٌّ فيعِفَّ عن سؤالهم، فكان لا بد من حفظ المعاني كما حُفظت المباني (الألفاظ)، فامتدت بَرَكَةُ القرآن إلى السنة، فإنها تفسِّر، وتفصِّل، وتبين، وتخّصّص، وتقيد، وتوضح، فهي بيانه. ثم امتدت بركته إلى أهل العلم؛ لأن كلامهم من السنة بمنزلة الشرح من المتن، فكان الحق في اجتماعهم إذا اجتمعوا، وفي قول بعضهم إذا اختلفوا؛ ولذلك قيل: لا يخلو زمان من قائم لله بحجة! قال الإمام الشافعي (ت.٢٠٤هـ) رحمه الله منبِّهًا على هذا المعنى: «جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا» (الزركشي في نقله للشافعي، البرهان في علوم القرآن، ١:٦)، فحفظُ معاني القرآن من التحريف منوطٌ بحفظ شرحه (السنة)، ومن ها هنا قال من قال: السنة حاكمة على الكتاب، ومراده أن كل تأويل للقرآن يخالف صحيح السنة مردودٌ على صاحبه.

وحفظ السنة رهن بحفظ فهوم من توفّر على شرحها من أهل العلم في مجموعهم. وإذا أنت ذهبتَ مذهب من قال: إن الله تعالى علم آدم الأسماء الإلهية (انظر القشيري، لطائف الإشارات، ١: ٧٦) تَحَصَّل لك بضمِّه إلى كلام الشافعي رضي الله عنه معنىً لطيف؛ حاصلها أن لآدم عليه السلام الأسماء، ولمحمد ﷺ معناها، كما قال صاحب الفتوحات المكية قُدِّس سره. ولما كانت الأسماء الإلهية لها الإحاطة بالأكوان إمدادًا وتصريفًا، كان لشرحها (القرآن) هذه الإحاطة أيضًا، إنْ بالعبارة وإنْ بالإشارة؛ ولذلك قال الله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء» (النحل: ٨٩)، قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيرها: «قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء» (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ٤: ٥٩٤).

فنقطة الدائرة ومركزها القرآن (النصّ)، وحوله دائرة السنة، يقوم فيها النبي ﷺ واسطةً بين الحق والخلق؛ إذ كان لا بد من أنموذج بشري تتجلى فيه معاني الكَلِمِ الإلهي، وإني لتُعجبني كلمة الشيخ محيي الدين بن عربي (ت.٦٣٨هـ) رحمه الله في هذا الصدد، حيث يقول: «كأن القرآن انتشأ صورةً جسدية، يقال لها: محمد بن عبد الله ﷺ» (الفتوحات المكية). وتقع مِن بعد ذلك دائرة العلماء في اجتهاداتهم. ويلوح لي أن هذه القسمة الثلاثية مشارٌ إليها في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعلَّهُم يَتَفكَّرُونَ» (النحل: ٤٤)، فقوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ»، يريد القرآن، وقوله: «لتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، يريد السنة (شرح القرآن الحاكِم)، وقوله: «وَلَعلَّهُم يَتَفكَّرُونَ» فهذا الاجتهاد (وهو شرح الشرح أو حاشيتُه).


القرآن: الحقُّ المحض

وقد انبثقت عن مسألة العصمة مسألةُ «الحَقِّيَّة»؛ لأن عدم تطرق الباطل إلى القرآن معناه أنه «حقٌّ محضٌ»، قال الله تعالى: «وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ»، ثم نبه على «حَقِّيَّة» السنة بقوله: «وَبِالحَقِّ نَزَلَ» على قول من يرى أن الحق هنا هو النبي ﷺ، قال القرطبيُّ (ت.٦٧١هـ) رحمه الله: «(وبالحق نزل) أي بمحمد ﷺ؛ أي: نزل عليه، كما تقول: نزلتُ بزيد» (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ١٣:١٨٦)، ومما يرشّح هذا التأويل قوله سبحانه في ختام الآية: «ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا» (الإسراء: ١٠٥)، والبِشارة والنِّذارة كلتاهما من نوع الخبر، وقد جاءتا وصفًا لرسالة النبي ﷺ على جهة الحصر (بالنفي والاستثناء)، وفي هذا من المعنى أنه ﷺ مخبرٌ عن الله تعالى حتى فيما يُظن باديَ الرأي أنه تشريعٌ نبويٌّ محض؛ أي في عين أمره ونهيه ﷺ.

وأصلُ الحق في اللسان المطابقةُ والموافقة، وفي «مفردات» الراغب أن له معاني مختلفة: أحدها: يقال لمن أوجد الشيء على مقتضَى الحكمة، ومن هنا قيل في الله تعالى هو الحق، وثانيها: يقال لما أوجد على مقتضَى الحكمة، ولهذا يوصف فعل الله بأنه حق، وثالثها: في الاعتقاد للشيء المطابِق لما عليه ذلك الشيءُ في نفسه، كقولهم: اعتقاد فلان في البعث حقٌّ، ورابعها: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب (راجع الراغب الأصفهاني، مادة “حق”، فقد فصّل فأجاد).

وفي هذه المعاني ما يَقِفُكَ على العلاقة بين الحق والحكمة، فقد قيل: «كل كلام وافق الحق فهو حكمة» (الجرجاني، التعريفات، مادة “الحكمة”)، ومِن هنا تعرف سرَّ الختام في قوله تعالى في صفة القرآن: «لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَديْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (فصلت: ٤٢)، فإنه لما أثبت للمُنَزَّل (القرآن) مطلقَ «الحقِّيَّة» بنفي الباطل عنه، ناسَبَ أن يأتيَ في وصف من أنزله (الله تعالى) بصفة الحكمة «حَكِيم»؛ لِمَا بين الحق والحكمة من اتصال، وهذه حال تستوجب الحمد ممن أُنزل عليهم عند معاينة ثمرة التنزيل في الدنيا، وهي الهداية، فيقولون: «الحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ» (الفاتحة: ٢)، وعند معاينة آثارها في الآخرة، كالذي ذكره القرآن من قول أهل الجنة، ورأوْا نعيمها: «الحَمْدُ لله الذِي هَدَانَا لهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله» (الأعراف: ٤٣)، فاستحضروا نعمة الهداية، فاستوجبت الحمد، فهذا قوله تعالى: «حَمِيدٍ» في آخر آية فُصِّلت؛ أي محمود من أهل الحق دنيا وآخرة، أو مستوجب للحمد استيجابًا ذاتيًّا، سواء حَمِدَ الناس أم لم يحمدوا.


الاجتهاد: دوران العقل في فلك النقل

ولم يُذكر الاجتهاد في آية سورة الإسراء: «وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ»؛ لأن المجتهد يُصيب الحقَّ ويخطئه، كما دلَّ عليه قوله ﷺ: «إذا حكمَ الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (متفق عليه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه)، فأرسلَ الأمان من العقوبة في نفس مَن اجتهد ممن حصَّل آلة الاجتهاد (علومه)، واستفرغ الوُسع فيه، بل وعدَه بالأجر مع الخطأ، فأطلقَ العقل حتى في باب التشريع، فقاسَ الفقهاءُ واستحسنوا واستصلحوا، ولم يخرجوا مع ذلك عن «النص»؛ لأنهم عن أمره ذهبوا هذه المذاهب، واتخذوا هذه المناهج في التأويل والتفسير.

وقد نبّه الأئمة الأولون رضي الله عنهم إلى هذا فيما نُقل عنهم من وجوب نبذ الرأي متى خالفَ السنة، مهما يكن لصاحب هذا الرأي من جلالة الشأن وطول الباع في العلم. ومن أشهر ما قيل في ذلك كلمة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وحُكي مثلها عن الأئمة الثلاثة أصحاب المذاهب المحفوظة أيضًا: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، وعمل على ذلك بعض الشافعية، كأبي يعقوب البويطي (ت.٢٣١هـ) صاحب الشافعي، وأبي القاسم الداركي (ت.٣٧٥هـ)، وهو الذي قطع به الكِيَا الطبري (ت.٥٠٤هـ) في كتابه في «أصول الفقه» (انظر ابن الصلاح، أدب المفتي والمستفتي، ص١١٨)، وصنَّف التقي السبكي (ت.٧٥٦هـ) رسالة لطيفة في شرح كلمة الإمام الشافعي، عنوانها “معنى قول الإمام المطَّلِبي إذا صح الحديث فهو مذهبي”، وهي مطبوعة منشورة.

فقد رأيتَ أن (النّص/النقل) لم يمنع العقل عملَه، بل حضّه عليه بحقه، حين وعد المجتهد بالأجر على كل حال، فإن الوعد بالمثوبة إغراءٌ بالعمل.

ولم يرَ الأصوليون في تنظيرهم مانعًا من القول بوحدة الحق في المسائل الظنية الخلافية، مع الحكم بأن جميع المختلفين من المجتهدين مأجورون، غير أن الحق مع واحد منهم لا بعينه؛ أي إن هذا المصيب غيرُ معلوم لنا في الدنيا، وإنما يُعرف في الآخرة بتمييزه بالأجرين، بينما ينال المخطئ أجرًا واحدًا. ثم إنهم بنوْا على هذا الأصل قاعدة تجمع الناس ولا تفرقهم، تقول: «لا يُنكَر المختلَف فيه، وإنما يُنكر المتَّفَق عليه»، ومرادُهم بذلك أنه لا ينبغي أن ينكِر أحدٌ عملَ آخر في المسائل التي اختلف في حكمها الفقهاء، وإنما يقع الإنكار إذا خالف هذا العملُ ما اتفقوا على حكمه؛ لأن وقوع الاتفاق أمارةٌ على قطعية الدليل ثبوتًا ودلالةً. ثم إنهم توسعوا فقالوا: إن حُكم الحاكم (قضاء القاضي) يرفع الخلاف، ويرجع المخالفُ عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه. قال القرافي (ت.٦٨٤هـ): «هذا هو مذهب الجمهور، وهو مذهب مالك» (القرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، ٢: ٥٤٠)، ثم أورد أمثلة أفتى فيها الإمام مالك بخلاف مذهبه موافقةً لحكم حاكم. (السابق، ٢: ٥٤٢).


قواعد المنهج الفكري في السياق الحضاري الإسلامي

رأيتَ أن (النّص/النقل) لم يمنع العقل عملَه، بل حضّه عليه بحقه، حين وعد المجتهد بالأجر على كل حال، فإن الوعد بالمثوبة إغراءٌ بالعمل.

وهذه القواعد إن تكن من حيث منشؤها أصوليةً فقهيةً، فهي قواعد فكرية عامة، تصلح مع غيرها مما لا سبيل إلى حصره الآن أصولا للمنهج الفكري العام في الحضارة الإسلامية، ومن هذا الوجه تعرف معنى قول المستشرق يوسف شاخت (Joseph Schacht): «كانت حياة المسلمين جميعُها، والأدب العربي، وسائر فروع المعرفة العربية والإسلامية مُشْرَبةً بالأفكار الفقهية، حتى غدا مُحالا أن تفهمَ الإسلام ما لم تكن على بصيرة بالفقه»، (1 .p ,An introduction to islamic Law)، فالعقلُ المسلم ينبغي أن يُلتمس في الفقه وأصوله.

على أن العقل الذي نعنيه في هذا السياق ليس ذلك الذي يذكرونه في مقابلة النقل، وإنما العقل من حيث وظيفته عقلان: قابلٌ ومفكر. فالعقل القابل يتلقى به المسلم الوحي بالسمع والطاعة، فإن كان ثمة مراجعة (كما وقع من نفر من الصحابة رضي الله عنهم مع النبي ﷺ في بعض المواقف) فلتأكيد المعنى، ثم سَرعان ما يقع التسليم. والعقل المفكر هو هذا الذي يُلحق الغائب بالحاضر، كما يتجلى ذلك في القياس؛ فإنه يتضمن أصلا يمثل «سلطة النقل/النص»، وفرعًا يُمَثِّلُ في إلحاقه بالأصل «عملَ العقل»، وعلةً هي «ضابط» هذه العمل، وحُكْمًا هو «ثمرة» هذا العقل الدائر في فلك النقل، وهذه هي سمة «أمة القرآن» و«حضارة القرآن».