من الممكن أن ننسب الفضل ولو قليلاً للبروفيسور وائل حلاق وجهوده في وجود حالة من الاهتمام الأكاديمي والثقافي الراهن بما يمكن وصفه بـ«علم اجتماع الفقه والشريعة»، وهو الأمر الذي يمثل مدخلًا للكثير من الدراسات الاستشراقية التي طالت الشريعة الإسلامية منذ عشرات السنين.

يهدف الكاتب من خلال هذا الكتاب إلى أن يزيل بضربة واحدة، إن جاز التعبير، الكتابات الاستشراقية النمطية في الموضوع على حد تعبيره، وكان الحامل على تأليف هذا الكتاب هو ما وصفه المؤلف بتخبط الخطاب الغربي المتعلق بالشريعة وانطوائه على تناقضات ومغالطات خطيرة، فرأى أن هذا الخطاب بحاجة إلى استبدال كامل. وهو تحد انبرى له المؤلف بجدارة ليجابه الموروث الاستشراقي السائد طوال قرن من الزمان فعمد المؤلف لإزالة هذا الأنموذج الاستشراقي القديم وإحلال أنموذج آخر مزدهر.

والكتاب يمثل استقصاءً شاملاً للشريعة الإسلامية وعلاقتها بالمجتمعات الإسلامية من ظهور الإسلام إلى عصرنا الحاضر معالجة شاملة لا يدانيها أي استقصاء آخر على حد وصف المترجم.

ولا يخفي المؤلف سعادته بترجمة هذا الكتاب لأنه يمثل خلاصة لكثير من العمل البحثي الذي اضطلع به طوال عقدين من الزمن ولما لاقاه من قبول واسع في قاعات الدرس في أوروبا وأمريكا بعد أن طبع في مطبعة جامعة كيمبرج في عام 2009، وقد ذكر المؤلف أن الانتقادات التي وجهت لكتابه هذا قد انتظمت في جهتين:

الأولى: من الباحثين الغربيين التقليديين والذي يعبر عنهم بالمستشرقين، وقد أرجع المؤلف انتقاداتهم إلى كون كتابه قد صور الشريعة من منظور إيجابي على عكس ما صورته الدراسات الاستشراقية السابقة المتعالية بنظرتها الحداثية.

أما الجهة الثانية: من الاعتراضات فقد كان مصدرها المشرقيون والذين أرجع المؤلف انتقاداتهم إلى أن هؤلاء لا يرغبون في إظهار الشريعة في توجهاتها في الحكم مخالفة للمناهج والتوجهات الغربية الحديثة، إذ إن ذلك يظهر الإسلام وشريعته على أنهما غير حديثين وهو ما علق عليه المؤلف بقوله إن هذا امتدادًا للمواقف الدفاعية الاعتذارية للحداثيين ابتداءً بمحمد عبده وانتهاءً بمحمد أركون.

والذي يرمي إليه وائل حلاق، وهو من كبار الباحثين في الفقه الإسلامي الممثلين لجيل ما بعد شاخت وكولسن (المبرزين في تناول الشريعة من منظور استشراقي)، هو أن يجد حلاً لمشكلة الاعتماد على مؤلفاتهما التي تمد البحث الغربي العام في الفقه الإسلامي على حد تعبير المترجم، حيث يرفض حلاق النظرة الإبستمولوجية العامة للبحث الحداثي من حيث هي نظرة تحكم على الماضي بمعايير الحاضر، حيث كان يُنظر إلى القرآن باعتباره نصًا أخلاقيًا لا نصًا قانونيًا، وكان ذلك يمثل عقيدة أساسية للاستشراق القانوني لأنه -القرآن- يفتقر إلى السلطات القهرية التي يتوفر عليها القانون بمعناه الحديث.

في صميم هذه العقيدة الاستشراقية يكمن الاعتقاد الأساس الذي مفاده أن الأخلاق والقانون منفصلان، وقد كتب الاستشراق مجمل تاريخ الشريعة بهذا النفَس نفسِه.

وقد جاء كتاب الشريعة بتصحيح كبير لدور الأخلاق في كتابة تأريخ الشريعة خصوصًا وتأريخ الإسلام عمومًا، مشددًا على أن الشخصية الفاعلة في الشريعة مختلفة عن الشخصية الفاعلة في القانون الحديث، فنظام الحكم في الدولة الحديثة يشكل مواطنين ولكن لا يشكل شخصيات فاعلة أخلاقية ممثلاً لذلك بمثال يتجلى في الشركات المتعددة الجنسيات والتي هي مسؤولة عن الاستعمار والإمبريالية في مقابل نظام الوقف الذي له شخصية اعتبارية تجريدية، ومبرزًا من خلال ذلك المثال مفهوم الضمان في الحداثة من خلال مغامرات إنجلترا الإمبريالية الاستعمارية بينما نجد أن نظام الوقف الإسلامي لا يسعى للربحية على حساب المبادئ الأخلاقية.

وقد ناقش حلاق تلك النظرة الاستعلائية الاستشراقية من خلال ما أسماه ثيويوجيا التقدم والذي ذهب إلى نفي مراعاة أي دراسة لائقة للشريعة لثيولوجيا التقدم تلك، ووصف من يواصلون إصرارهم على أن الماضي أدنى منزلة من الحاضر أنهم العباد المخلصون لهذه الثيولوجيا.


حلاق واصفًا لمسالك التعاطي مع الشريعة

يرى خلاق أن مشكلة الدراسات الإسلامية الشرعية التقليدية تكمن في فقرها النظري، ويتجلى ذلك في عدم إدراك الإشكالية في المفاهيم وما ينبني على هذا اللبس من سوء فهم شامل للشريعة وقد عالجها وفق التالي:

سجنا اللغة والحداثة

انتقد فيها استخدام مصطلح «Islamic law» للتعبير عن الشريعة الإسلامية وكيف أنه مصطلح قاصر يخلع مفاهيم الحداثة وتوجهاتها على مفاهيم الماضي فيحاكمه إلى الحداثة ويشوهه تبعًا لذلك، وهو ما حدا بالحداثيين إلى رمي الشريعة بالإخفاق في التفريق بين القانون والأخلاق، وهو ما نفاه المؤلف مدافعًا عن الشريعة، ومؤكدًا على أن عين ما نقموه على الشريعة وانتقصوها لأجله هو بالتحديد ما قد أمدها بمناهج ضبط فعالة ذات قاعدة جماهيرية مستكنة في المجتمع، جعلتها فائقة الفاعلية في ما تأمر به من طاعة إرادية ومن ثم كانت أقل إكراهًا من أي قانون إمبريالي عرفته أوروبا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. كما انتقد استعمالهم مصطلح Reform للتعبير عن الإصلاح في حين أنهم لا يعنون به سوى التحولات عن الشريعة إلى ما سنوا هم من قوانين وذلك يعد تشويهًا متعمدًا.

الوعي الذاتي

ربط حلاق هنا بين خطابات السلطة وبناها المعرفية المهيمنة على تصوراتها الذاتية، حتى وصف أن معرفتها بالشريعة الإسلامية وفق منظورها الحداثي ليس إلا محض اختراع أوروبي كان وليد مغامراتها الإمبريالية في القرن التاسع عشر وقد ولد من رحمها.

ثم ينتقد حلاق إغفال إدوارد سعيد هذا الملحظ الفوكوي أو عدم انتباهه إليه في كتابه الاستشراق بما له من عميق الأثر في تشكيل المعرفة الغربية لما هو شرقي. ثم ذهب إلى أن النظرة الغربية للشريعة الإسلامية إذ تولدت من رحم الاستعمار فإن من الممكن الذهاب إلى أنه لم يكن ثمة علم اجتماع للمعرفة في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية بوصفها قانونًا للآخر قبل ظهور المشروع الاستعماري.

يقول المؤلف:

ثم طرح المؤلف سؤالاً استشكل فيه كيفية التأريخ لشيء بأهمية الشريعة في هذا النطاق الزمكاني الواسع دون السقوط في هاوية التعميم، ثم قال إن الإجابة على هذا السؤال تقدم المسوغ لنطاق هذا الكتاب، كما قال إن هذا الكتاب من أجل أن يفهم فهمًا ملائمًا، فإن من الضروري التفريق بين المكونات المنظومية للشريعة وهي التي يحال عليها بوصفها نظامًا معرفيًا (إبستيما) وغيرها من السمات الطارئة التي تختلف باختلاف المكان والزمان، فالشريعة قبل ظهور الحداثة كانت تنطوي دائمًا على بنى للسلطة وممارسات خِطابية وثقافية لم تتغير عبر الزمان والمكان.

مثال ذلك: نظام الوقف المهم ووظيفتاه التعليمية والشرعية، حتى انتهى بها المطاف إلى الموت البنيوي (أي بتفكيك نظام الوقف وما كان يترتب عليه من استقلال التعليم الشرعي وما يعيد إنتاجه من العلماء الشرعيين والقضاة المستقلين).

ونوه المؤلف على أن هذا الكتاب يتعلق بالشريعة الإسلامية لا بالشريعة في الإسلام، فالشريعة بوصفها موضوع هذا الكتاب تمثل الحصيلة الكلية لتأريخها التزامني والتعاقبي؛ أي أن فهم الشريعة في زمان ومكان مخصوصين متعذر من غير مراعاة إرثها التراكمي.


إرث ما قبل العصر الحديث

بدأ حلاق فصل «مرحلة التشكل» بعرض موجز للعهد الذي ظهرت فيه الشريعة إلى الوجود والخلفية التي نمت في ضوئها وللمشكلات الاجتماعية الشرعية في القرون الأولى، ويؤكد على حجة أن مصادر تشكل الشريعة لم تكن تدخلات أجنبية كالتي تستمدها النظم القانونية الحديثة من نظم مهيمنة أخرى أو تجبر على استمدادها منها.

حين بدأت بنية الشريعة بالظهور كانت المصادر التي أمدتها بالمواد الأولية قد تغلغلت سلفًا في الممارسات على مدى قرون في الشرق الأدنى، ولم يكن ما أسهم في ذلك مصدرًا مشخصًا من مصادر القانون اليهودي أو الروماني (كما يذهب الخطاب الاستشراقي الذي روج له شاخت) بل كانت الممارسات التراكمية الموجودة سلفًا في المنطقة بتنوعاتها في العراق والشام وشبه الجزيرة وشمال أفريقيا.

كما أن الفقيه بوصفه فردًا مخصوصًا ومستقلاً سياسيًا ومسؤولاً اجتماعيًا يُعد اختراعًا إسلاميًا مميزًا حدد مسار التأريخ الشرعي على مدى القرون الإثني عشر اللاحقة، والذي أسهم في تشكيل نموذج الفقيه مفهوم جديد للمجتمع أظهره إلى الوجود الدين الجديد.

وخصص حلاق الفصل الثاني لأصول الفقه باعتباره نظرية فقهية ومنهجية تأويلية مكتملة التكوين، كما اهتم المؤلف بإبراز أصول الفقه عند كل من المذاهب السنية والمذهب الشيعي الإثني عشري أيضًا.

بينما طرح في الفصل الثالث التعليم الشرعي باعتباره الوسيلة التي كانت طبقة الفقهاء يُعاد إنتاجها بوساطتها، مع بيان موجز لما كان يدور في حلقات العلم ومدارس الفقه وما مثلته تلك المدارس من ممر حاولت من خلاله الطبقة الحاكمة أن توجد لها شرعية سياسية ودينية وأن تعززها، وما لذلك من أهمية جوهرية في فهم التطورات التي حدثت في القرنين التاسع عشر والعشرين اللذين أمكن فيهما استحواذ الدولة على الشريعة من خلال السيطرة الحكومية على التعليم الشرعي التقليدي.

وفي الفصل الرابع ناقش الكتاب جدلية كامنة في الأحكام الفقهية وتفاعل الشريعة والمجتمع ودعاماته الأخلاقية من خلال ممارستي الصلح والتحكيم العرفيتين وتقاطعهما مع الممارسة القضائية وتكاملهما معًا واعتبار مفاهيم كالشرف والكرامة في حيثية الشهادة في المجتمع واعتمادهما في مجلس القضاء على دور المفتي البالغ الأهمية ومركزيته في الفاعلية القضائية وقابلية الشريعة للتكيف من خلال التغير في الفتوى، مع مناقشة موجزة لمكانة النساء في النظام الشرعي.

ناقش المؤلف في الفصل الخامس ما سماه دائرة العدل التي يمكن إجمالها في منطق قد صاغه كالآتي:

من أجل أن تُحقق الحكومة الجيدة ما وجدت من أجله لابد من تَحقق العدالة، ومن أجل أن تتحقق العدالة لابد من وجود حكومة جيدة، وقد أدت هذه الدائرة مهمتها جيدًا لكل من النخبة الحاكمة والفقهاء. أما النخبة الحاكمة (ممثلة في الأسر الحاكمة التي انفردت بحكم المسلمين بعد سقوط الخلافة العباسية وانتهاءً بالعثمانيين والصفويين) فبسلطتها القانونية بوصفها مستخدمة لمواطني الشعب من المدنيين. وأما الفقهاء فبسلطتهم القانونية بوصفهم ممثلي الشعب والمدافعين عنه، وكان الفقهاء يرون أن تثبيت الحكم العادل هو الوسيلة المطلقة لتحقيق شريعة الله، أما النخبة الحاكمة فكانت ترى أن الشريعة وسيلة للوصول إلى غاية: مصلحة الحكم والحاكم، وهكذا كان واضحًا أن الشريعة والنخبة الحاكمة كانت بينهما علاقة نفع متبادل. وقد نجح هذا التوازن الشرعي بين الشريعة والسلطة التنفيذية من إيران إلى شمال أفريقيا عبر القرون من خلال تلك العلاقة التكافلية.

الشريعة: الملامح العامة

يقول حلاق: وأما الجزء الثاني من كتابنا هذا فلا نتجه إلا صوب تقديم ملامح عامة لموضوعات منتقاة في بيان موجز للجوانب المهمة في الفقه. ولا يمكن أن أزعم أني قد نجحت في استقصاء كافٍ لكل مذهب من المذاهب في كل نقطة فقهية أناقشها وفي معظم الحالات لم ألتفت إلا إلى القول المعتمد في المذهب، على أن استقصائي يحاول دراسة المذاهب السنية الأربعة والمذهب الشيعي الإثني عشري كذلك، فالذي حاولت فعله هو تقديم الآراء والمبادئ الجوهرية التي تكشف عن بنية الفقه وإطاره.

ولما كان الجزء الثاني يشمل مجالات الفقه التي تتضمن التزامات المسلمين الدينية الشرعية والمجالات الأساسية التي تتضمن العقود والملكية وأحكام الأسرة والميراث والجنايات قدم حلاق ملخصًا لكل ذلك، وهذا العرض يبدد تمامًا كل ما قد يراود القارئ من شكوك بشأن رقي الشريعة الإسلامية وفاعليتها بصيغتها وتطبيقها التقليديين على حد تعبير مارك ويلتون في مراجعته للكتاب.

وفي تناول حلاق الموضوعات المذكورة نجده يراعي بوضوح الخصائص والفروق المكانية والزمانية المتعلقة بتفسيرات المذاهب السنية الأربعة الرئيسة، ويولي المذهب الشيعي الإثني عشري اهتمامًا مخصوصًا على حد تعبير إس فان دن براندن في مراجعته للكتاب.

ويمكن القول إن هذا البيان المجمل للشريعة يختلف اختلافًا كبيرًا عن كثير من العروض المجملة للشريعة المتاحة أصلاً، وذلك بتبنيه منظورًا شرعيًا أخلاقيًا لا منظورًا رسميًا. فأركان الدين الخمسة يعاد إدماجها في الشريعة على نحو المصنفات الفقهية وما لهذا الأمر من أهمية كبيرة يراها حلاق بوصف العبادات أفعالاً أدائية كانت هي الطريقة التي من خلالها أصبح التسليم للشريعة أمرًا طوعيًا.

وقد شدد حلاق على أن دور الشريعة في ما يتعلق بالجنايات ليس هو المعاقبة بل استعادة الخسارة من خلال تعويض مالي أو قصاص من أجل استعادة التوازن الاجتماعي، بخلاف قانون الجرائم الحديث (كل شيء أو لا شيء). كما أن الحاكم لم يكن يستقل بالحكم فيه، فلِأَن الأخلاق الاجتماعية كانت مؤيدة بالله العليم بكل شيء، لم تكن ثمة حاجة إلى تدخل الدولة القاهرة والمعاقبة على حد تعبير يوسف رابوبورت في مراجعته للكتاب.


اجتياح الحداثة

من الواضح أن الكتاب يجوب آفاقًا شاسعة جغرافيًا وتأريخيًا في الوقت نفسه، وقد سعى الكتاب سعيًا متعمدًا لكسر القالب التقليدي الذي يبوئ الشرق الأوسط العربي منزلة مميزة، فحاول لمناطق أخرى أن تكون ممثلة تمثيلاً كبيرًا أو صغيرًا، كما لم يدّعِ أن جميع الثقافات الإسلامية المهمة زمانيًا ومكانيًا قد دُرست، فهذا المشروع المستوعب يفترض عقودًا من البحث والكتابة لم تكد تبدأ.

يعد هذا الجزء الثالث والأخير أكثر أجزاء الكتاب الثلاثة إثارة للجدل، والأطروحة الرئيسة فيه هي التنافر الأساسي بين الشريعة والدولة ويصدق هذا حتى على دول ما قبل العصر الحديث.

فهذا الجزء يُعنى بتحولات الشريعة بوصفها نظامًا قانونيًا من خلال مواجهتها للدولة القومية وما كان لهذه المواجهات من تأثير هائل في الشريعة، كما يناقش حلاق التحولات التي حلت في الهند قبل ما لا يقل عن نصف قرن من حلوله في الإمبراطورية العثمانية وشمال أفريقيا، ومن الموضوعات الرئيسية هنا إدماج النتائج التي تمخضت عنها المقدمة في المشهد القانوني الإسلامي لمشروع الدولة الحديث الذي قد يكون هو ورأس المال أقوى نظم الحداثة وسماتها.

يعالج الفصل الثالث عشر تشخيص الدولة البيروقراطية والمشتركة والتقانية بوصفها الفاعل الرئيس في الحداثة وآثارها المتشعبة في الشريعة ونظمها وإبستمولوجياتها وممارساتها الخطابية الأنموذجية، ويؤكد حلاق على تنافر النظام الشرعي والبنى الاستعمارية وما نجم عن ذلك من صراع آل الانتصار فيه إلى البنى الاستعمارية بوصفها النظام الأكثر تماسكاً الذي تسانده السلطة الاستعمارية والذي يولد أعلى مستوى من التجانس الاجتماعي الذي يسمح بالسيطرة على الحكم.

وأما الفصل الرابع عشر فيتناول نظرات مفصلة على الاستعمار القانوني للهند وجنوب شرق آسيا ويسوق سردًا تأريخيًا للاستعمار في الهند وإندونيسيا وماليزيا وهي ثلاثة أقاليم شهدت احتلالاً عسكريًا مباشرًا.

وفي الفصل الخامس عشر تناول هيمنة الحداثة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث يلتفت إلى الإمبراطورية العثمانية والتي لم يؤد غياب احتلال عسكرى عنها (كالذي حدث من بريطانيا للهند ومن هولندا لإندونيسيا وماليزيا) إلى تغير كبير في درجة التحولات القانونية أو في تفكيك الشريعة. كما تم تقديم بيانات مشابهة لمصر والجزائر والمغرب وإيران كأمثلة مختلفة يرسم من خلالها ملامح التغيرات المنظومية والبنيوية التي تعد تغيرات مركزية في التحول الحديث.

ويواصل الفصل السادس عشر تناول تحديث الشريعة في عصر الدول القومية (إندونيسيا وباكستان وإيران والإمبراطورية العثمانية ومصر والجزائر) كدراسات حالات مركزية توضح التنوعات في التحول أو الانهيار الذي طرأ على النظام المعرفي، ليشمل بذلك المدة التي تمتد من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى بداية القرن الحادي والعشرين، موجهًا اهتمامًا مخصوصًا إلى تحليل التطورات التي حدثت في تلك المدة في مصر وباكستان وإيران وإندونيسيا، موجهًا هذا الاهتمام أولاً إلى المناهج التي من خلالها أُحدثت التغييرات في الشريعة وتم اختزالها في ما لا يزيد كثيرًا عن أن تكون أحكامًا مغيرة تتعلق بقانون الأسرة وهو مجال تحدده كليًا إرادة القوة لدى الدولة.

مع ظهور الدول القمعية الحديثة وطروء إحساس عميق بالضياع الأخلاقي ظهرت الحركات الإسلامية التي أثرت في كثير مما يحدث اليوم في العالم الإسلامي، وقد تناول هذا الفصل معالجة العلاقة المعقدة بين الدولة والإسلاميين والعلماء في عدد من البلدان الأساسية لما لها من تأثير عميق في معظم الأصقاع الأخرى في العالم الإسلامي.

ثم يكتمل خط السير التأريخي بالفصل السابع عشر والذي عنوانه: البحث عن منهجية شرعية، ونجد أن بؤرة الاهتمام فيه مفهوم أصول فقه جديدة والحاجة إليها ومناقشة موجزة لمناهج تفكير بعض المصلحين من رشيد رضا إلى فضل الرحمن وكلهم مشارك في إعادة تأكيد التوازن القديم بين قواعد العقل والنقل، حيث أخضعت خطابات هؤلاء المفكرين للنقاش بغية إظهار كيفية إفصاح هذه الخطابات عن إدراك المسلمين الذاتي للموضع الذي يقفون فيه في العالم الحديث بأشكاله العلمانية المعقدة وبمضاداته الأخلاقية وبنزعته المادية القوية.

أما الفصل الثامن عشر الختامي فيقدم اعتمادًا على المادة المقدمة في الفصول السابقة بيانًا عامًا موجزًا جدًا لكنه واضح جدًا للانتقال من الشريعة بوصفها نظامًا قانونيًا إلى الشريعة بوصفها أداة تستعملها الدولة في سياسات الهوية الحديثة وهي سمة ستستمر مدة من الزمن في قابل الأيام كما قبس إس فان دن براندن عن حلاق في مراجعته للكتاب.

وقد أشار حلاق إلى أن النطاق الواسع لهذا الكتاب حتم عليه التعامل مع مسائل وأفكار كان قد كتب عنها سابقًا فأعاد تلخيص كثير منها هنا ومن تلك الموضوعات ما تناوله في كتبه الفقه الإسلامي وتطوره، وتاريخ النظريات الفقهية في الإسلام مع مزيد اختصار وتنقيح. وقد أشار المترجم في مقدمة ترجمته للكتاب إلى عدة انتقادات وجهت إلى أفكار رئيسية في الكتاب نسوق بعضها لتتم الفائدة فكان مما انتقده محمد فاضل ما يلي:

1. العرض المأساوي لما آلت إليه الشريعة في العصر الحديث من غير تقديم علاج واضح أو رؤية ناجعة لعلاج ممكن.

2. فهم حلاق لطبيعة الصلة المعرفية بين الشريعة والدولة ورفض حلاق للفقه الإسلامي الحديث ومعاداته لدولة ما بعد الاستعمار الحديثة ومؤسساتها القانونية وفهمه للفقه على أنه مشروع معرفي يؤدي وظيفة بديل للسياسة.

3. رفض حلاق جميع جهود الإصلاح الحديثة لا لشيء إلا لكونها سياسية حين تحاكم بمقتضى أنموذجه المثالي للشريعة الإسلامية (أصول الفقه).

4. إغفاله شخصيات مهمة كعبد الرزاق السنهوري وجهوده وجهود غيره ممن صنفوا المطولات من الفقهاء المصريين المسلمين الذين قدموا شروحًا وانتقادات نظامية لقانون نابوليون بُعيد تبنيه في مصر في حين ذكر شخصيات وصفها فاضل بأنها هامشية كمحمد شحرور ومحمد سعيد العشماوى.

5. كون حلاق قاسيًا جدًا على التشريع الإسلامي الحديث إذ يرفض كل التقانات الحديثة كالتخير مثلاً.