علمتنا التجارب ونطقت مواضي الأحداث بأن المقلدين في كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس.
جمال الدين الأفغاني

هل ما طرأ على العالم الإسلامي في العصر الحديث بداية من القرن السادس عشر الميلادي وحتى الآن وما رافق فكره الإسلامي من تغيرات فكرية شاملة يمكن وصفه بالانحطاط والركود؟ وما هو المعامل الذي يمكن إعداده طرفا في المقارنة وتقوم عليه الدراسة المنهجية من ناحية الأصول وأدوات المنهج؟ وهل الفكر الغربي الحديث يمكن القول بأنه صورة إنتاجية لما تبناه من أساليب المنهج الإسلامي الخالص واستدلالاته وأساليب البحث والنظر؟ ولماذا لا يمكن وصف الحضارة الغربية الحديثة بما وصلت إليه من حداثة، وفى طريق لما بعد الحداثة وما حملته من رؤى اشتراكية وشيوعية وإلحادية علمانية مادية يُعاني داخل مصافها المفكر الغربي من تناقضات داخلية حادّة، حيث وصف د.عبد الوهاب المسيري ما بعد الحداثة بأنها فلسفة تنهي الفلسفة، يمكن إعداده انحطاطا دينيا في أقل التقادير مقارنة بالحضارة الإسلامية؟


كنّا وكانوا!

يدور الحديث حول هذا الموضوع بداية من تساؤل وضعه شكيب أرسلان عنوانا لكتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم»* وحتى نتفهم الأطر العامة المتعلقة بالموضوع ونظرة المفكر المسلم تجاه النهضة الغربية وروافدها الفكرية باعتبارها نتاجا حضاريا أفرزته الحضارة الغربية بعيدا عن طرق تصديره إلى مجتمعاتنا بالطرق العدوانية والأساليب الملتوية والتوفيق بين متطلبات المجتمع ومواجهة الدخيل الغربي وفق رؤية شاملة في البناء والإصلاح.

إن النهضة الغربية في العصر الحديث وما حققته من أنماط التصدّر والريادة في جوانب متعددة من العلوم والفنون وأُسس التفكير وانعكاسات ذلك كله على تشكيلات الحضارة الغربية بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك لا يتفهم منه بالطبع ركود وضعف للحضارة الإسلامية ونتاجها الفكري؛ فقد شكلت الحضارة الإسلامية في فتراتها الأولى ازدهارا فاق إشعاعه الضوء المنبثق من حضارة الغرب إن لم يكن للإسلام فضل في إعداده «فلقد كثر الإنتاج الإسلامي واتسع بالجوانب المتعلقة بالثقافة والمعارف والعلوم مستندة في ذلك على أسس وقواعد نشأت في ذلك الجو العلمي الذي أوجده الإسلام وعاشه مجتمعه المسلم، وتمثل الثقافة الإسلامية التي نمت عند المسلمين جانبا واسعا شمل كل الميادين»[1].

شكل ازدهار الفكر الإسلامي هزيمة للعقل الغربي في عصوره المظلمة وأسس بنية للتنوير بفلسفة حضارية أوضح الإسلام معالمها ونقلت الإنسانية من تخلفها إلى ركب الحضارة.

فقد شكل ازدهار الفكر الإسلامي في فترة من فتراته هزيمة للعقل الغربي في عصوره المظلمة وأسس بنية للتنوير بفلسفة حضارية أوضح الإسلام معالمها ونقلت الإنسانية من تخلفها إلى ركب الحضارة باتجاه المدنية، وهذا ما كان باديًا من خلال التقدم والمدنية التي وصلت إليها في عصورها الأولى، ومنتجها العمراني والمعرفي والفنوني، ونقلته الشعوب المختلفة من الفرس والروم والهند، ولا يغيب عنا دور علماء المسلمين الأوائل أمثال جابر بن حيان والخوارزمي وأبو بكر الرازي وآلاف غيرهم، وما نقلته الحضارة الغربية عنهم.

تلك المرحلة الأولى التي وصفها فهمي جدعان بأنها تلك المرحلة التي احتلت القرون الأربعة الهجرية الأولى فيها ظهر الإسلام، وتوسع جغرافيا، وركب حضارة احتلت فيها الآداب والفنون والعلوم الدينية والفقهية والكلامية والفلسفية والطبيعية مكانة مرموقة وصميمية»[2]. فعلى سبيل المثال لا الحصر «كثر اشتغال المسيحيين بالطب في ظل الدولة الإسلامية، ونبغ الأطباء بين نصارى المشرق في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تحرم صناعة الطب؛ لأن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه، وظل الطب محجورا عليه بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان، عند استهلال القرن الثاني عشر للميلاد، وهو إبان الحضارة الأندلسية»[3]

وهذا ما يمكن تعليله بالنظرة الموضوعية تجاه الفكر الإسلامي والفكر الغربي من ناحية التأخر والريادة اللصيقتين بالحضارة الإنسانية، بالجوانب المتعلقة بالتأثير والتأثر والفاعلية بين الحضارات المختلفة، فقد اكتمل للإسلام بناؤه، ورسم توجهه الديني نشاطه الفكري والسلوكي، وأضاءت نظرته الفكرية العالم، واتضح منهجه في إعداد الفرد طبقا لأهداف النصوص الدينية وتعاليم قائده الأول محمد صلى الله عليه وسلم فس سبيل إعداد المجتمع بما تمليه الشرائع السماوية وثقافة بناء الأمة وتحمل مسئولية القيادة والإصلاح ولما توضحه الآية القرآنية: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم» [الرعد: 11] وفق المنظور الإسلامي لمراد الله في إعمار الكون، وتحقيقا لطور الفاعلية الواجبة وحتمية التأثير والتأثر بين الحضارات المختلفة.

ولعل ذلك ظاهر في الفتوحات الإسلامية في آسيا وأفريقيا وبوجه الخصوص في الأندلس وبلدان القارة الأوربية، وفي النظرة الترحيبية للفاتحين المسلمين لما لمسوه فيهم من توظيف الجانب الديني في النصوص الدينية إلى واقعي سلوكي ومعاملات خاصة في السياسة الإسلامية والحكومة القائمة على الأصلين: العمل بما يمليه النص الديني وتطويع الفعل السياسي تبعا لأوامره، والمشاركة والمشورة المجتمعية في إدارة المجتمعات، وهذا ما كان غائبا بالأساس عن الغربيين في بلدانهم سواء في العصور القيصرية أو البابوية المتسلطة وحتى قيام الثورة الفرنسية 1789م، «على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن برغم الحروب التي تسببت بها مشاقة معاوية لعلي، والحروب التي وقعت بين بني أمية وابن الزبير قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين الكبار، وأذهلت نابليون أعظمهم»[4].

لقد كانت الفتوحات الإسلامية بشير خير على المجتمعات التي حل بها لتخليصها من نيران الطغيان والاضطهاد؛ «فقد كان البربر على استعداد للتخلص من هذا النير المرهق ومعاونة الفاتحين الجدد»[5] ولقد «أنشا العرب حكومة قرطبة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى بينما كانت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهل؛ فلم يكن سوى المسلمين من أقام بها منابر العلم والمدنية»[6].

قويت الصلات بين الشرق والغرب في عصر سيادة المسلمين على تلك المناطق، في طوال هذه الفترة من تاريخ الحضارة الإسلامية لم تكن تحمل مطلقا عدائية تجاه شعوب الغرب.

ولقد لعبت الصناعة دورها في ازدهار الحياة الاقتصادية بالمغرب الأقصى منذ أن تأسست على أرضه دولة المرابطين وحتى نهاية حكم الناصر، وازدهر كثير من الصناعات المختلفة في ظل حكام المغرب الأقصى؛ نتيجة استقرار الأوضاع في البلاد، وتوفير المواد الخام التي تقوم عليها الصناعة مع وجود الخبرة الصناعية المتمثلة في الأيدي العاملة، والتي دفعت حركة التصنيع في البلاد إلى الأمام»[7].

لقد ازدهرت كل من إسبانيا وصقلية وشمال أفريقيا، وقويت الصلات بين الشرق والغرب في عصر سيادة المسلمين على تلك المناطق، في طوال هذه الفترة من تاريخ الحضارة الإسلامية لم تكن تحمل مطلقا عدائية تجاه شعوب الغرب أو احتقارا تجاه التخلف والظلام الذي عاشوا فيه قرونا مما أرغمهم على نقل تراث الإسلام وتوظيفه في رسم ملامح مناهج التفكير الجديد، «إن للعرب فضلا كبيرا على الطب والتشريح والجراحة وقد أخذها الإيطاليون عنهم وأنشئوا مدرسة سالرنو التي كانت صلة الوصل بين علوم العرب والعلوم العصرية»[8].

لكن وبالعودة إلى تساؤل لماذا تأخر الإسلام وتقدم الغرب؟ وإن كان مثل ذلك الطرح فيه تجنٍ على صورة الحضارة الإسلامية ونشاطها، لكن لابد من تحليل منهجي لمواجهة النظرة السلبية في رد معاني تأخر الحضارة إلى مفاهيم مرتبطة بالتوقف والسقوط والانتهاء، لكن في الحقيقة يجب معرفة شيء مهم، وهو أن ذلك من سنن الله في الكون من أجل إعادة التحضير والبناء ومواجهة الضعف والتقصير، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون في نظرية تعاقب الحضارات وتغير الأحوال بقوله «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة. سُنة الله قد خلت في عباده»[9].

وذلك أن الدول كما الأشخاص لها أعمار طبيعية، وقد وصفَ مالك بن نبي تعاقب الحضارات بالدورة الخالدة «إن للتاريخ دورة وتسلسلا، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقى عليها دثاره، ليسلمها إلى نومها العميق، فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار، تحتّم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا في دورة التاريخ»[10].


الالتقاء الحضاري بين الغرب والشرق

بالعودة إلى النظرة الغربية تجاه المجتمع الإسلامي يُلاحظ الجانب العدائي ظاهرا في اختراق المجتمع الشرقي وهدم ثقافته، بداية من الحروب الصليبية بؤرة التشكيل الإمبريالي الغربي أو حتى في مدارس التبشير والتنصير وفق رؤية تغريبية لخلخلة مفهوم الهوية للفرد المسلم تجاه مجتمعه وقيمه الدينية والأخلاقية، والجانب الآخر في الاستشراق ومدارسه المختلفة والمنهج المتبنى في هدم صرح الإسلام عقائده وشرائعه وتاريخه. «فثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة وجميعهم يد واحدة وأهدافهم واحدة ووسائلهم واحدة التبشير والاستعمار والاستشراق»[11].

وإن «أوروبا عند استواء يقظتها أدركت إدراكا واضحا أن الذي بلغته قد ضمن لها التفوق الحاسم، وأنها مقبلة على زحف شامل يخترق قلب دار الإسلام، لا بوقع السلاح، بل بوسائل أخرى أمضى من وقع السلاح»[12] فبعد الثورة الفرنسية والتي شكلت نقطة الانتقال والتحرر من الاستبداد الكنسي إلى رؤية علمانية مطلقة في كيفية الفرد في مجتمعه، وشكلت تلك الرؤية اتجاهات التفكير الديني والسياسي والاجتماعي في نهضة حضارية شاملة؛ ذلك أن مفهوم التقدم كما وصفه د.فهمي جدعان بلزومه للجانب القيمي والأخلاقي قد ولد مفاهيم مختلفة للتقدم فكان هذا مساويا للحصول على قدر أكبر مطرد الزيادة من اللذة الدنيوية، وصار حينا مساويا لانتشار ديانة معينة وتحقيقها لإنجازات سريعة كبرى، مثل غزارة الإنتاج الاقتصادي والمادي، وهكذا أمكن لمفهوم التقدم أن يكون اجتماعيا أو أخلاقيا أو دينيا أو اقتصاديا أو طبيعيا [13].

فما هي اتجاهات التفكير الإسلامي المختلفة المتباينة تجاه الروافد الغربية الخارجية؟ وما هي التناقضات التي حملتها في التعامل مع النهضة الغربية الحديثة وخلل في مفاهيم التراث والتجديد والحداثة؟ وما رافقها من الإصلاح والعلمنة في ثلاثة تيارات مختلفة؟

الاتجاه السلفي الإصلاحي

كان دعاته ينادون بمحاربة البدع والخرافات، وإعمال الفكر والعقل، وفتح باب الاجتهاد، ومحاربة الروافد الخارجية التي تعني في نظرهم بوادر الاستعمار والتغلغل في المجتمعات الإسلامية؛ فالشيخ محمد بن عبد الوهاب 1703-1791م يرى أن قوة المسلمين في دينهم، وهو سبيل مجدهم وعظمتهم، لا سواه ولا يتم الإصلاح بغيره طالما جاءه من الخارج؛ «فهو لم ينظر إلى المدنية الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها فعنده العقيدة والروح هما الأساس، وهما القلب إن صلُحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء»[14].

أما جمال الدين الأفغاني فكان يعتقد «أن الدول الأوروبية لم تكن أقوى من الدول الإسلامية، وإن كانت الفكرة السائدة عن تفوق إنجلترا عن غيرها لم تكن سوى وهم، وهم خطير من شأنه ككل وهمٍ أن يجعل الناس جبناء يجري عليهم ما يخشون وقوعه»[15] لقد كان هدفه الأول أن «يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة، كما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس الأخوة الإسلامية التي تمزقت في صِفّين، وبددتها النظم الاستعمارية نهائيا، ومكافحا للمذهب الطبيعي والمادي»[16].

وسار محمد عبده على نفس خطى جمال الدين الأفغاني، وشعر بوجود الانحطاط في المجتمع الإسلامي، كما شعر به جمال الدين الأفغاني ورده إلى تخلي المسلمين عن دينهم، وتخليهم عن إعمال العقل، وانغماسهم في البدع وتقليد الغرب. ورأى عبد الله النديم في التعامل مع الغرب استعمارا خفيفا، قائلا: «إن دولة من دول أوروبا لم تدخل بلدا شرقيا باسم الاستيلاء، وإنما تدخل باسم الإصلاح، وحديث المدنية، وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرّض للدين، ولا للعوائد ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئا فشيئا»(17).

لقد كانت مبادئ ذلك التيار تدور حول إصلاح الفكر، والتي يجب أن يكون داخليا من منبعه الأول، وأي دعوى للتحديث يجب أن تُرد؛ لأنها خيانة للدين الإسلامي الذي أسس الحضارة والمدنية، وأن الروافد الغربية لا تحمل في طياتها سوى العلمنة والتغريب للمجتمعات الإسلامية فيجب دحضها وردها.

الاتجاه التقليدي العلماني

رأى هذا الفريق في نهل الثقافة الغربية سبل النهوض، ومحاولة لركب قطار الحضارة من جديد بعد فترة ركوده ونومه، وقد ضم هذا التيار في داخل رجالات اللبيرالية أمثال قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وشبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون، فيذهب قاسم أمين إلى أن إعجاب المسلمين الشديد بماضيهم سبب في ضعفهم وعجزهم، يقول: «هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له دواء، إلا أن نربي أولادنا على أن يغترفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها، وتيقننا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذ لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة»[18].

وكان جميل صدقي الزهاوي من دعاة «تحرير المرأة»، ونبذ الحجاب؛ فقد بعث إلى جريدة المؤيد المصرية مقالا بعنوان «دفاعا عن المرأة» في 1-7-1910، استعرض فيه دور المرأة، وطالب الزهاوي برفع الحجاب عن المرأة في مقالة ثانية بعنوان «مساوئ الحجاب»[19]. وسلامة موسى في كتابه «اليوم والغد» يذكر أنه يتوجب الخروج من آسيا (الشرق) وأن نلتحق بأوروبا (الغرب)، «فكلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأني منها»[20]. ويؤكد ذلك في موضع آخر: «أجل يجب أن نكون أوروبيين بل أوربيين صالحين نعمل لسلام العالم، نشترك في (عصبة الأمم)، ونعمل لتقدم العلوم، نخترع ونكتشف ونقدم مواهبنا لخدمة الإنسان ورقيه، ونعيش عيشة حرة بعيدة عن التعصب أو الجمود، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي سرا وجهرا، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب»[21].

تلك نبذة عن أشكال تعامل المفكرين المسلمين تجاه النهضة الغربية الحديثة، وهي لا شك جانب مهم، وقضية كبرى لا تزال مستمرة ومحل اهتمام الفكر الإسلامي. يقول الدكتور محمد عمارة عن جملة التيارات الفكرية وموقفها من الحضارة الغربية في التبني والرفض والتوفيق ما شكّل أزمة في الفكر الإسلامي: «إن الموقف الراهن في أزمة الفكر الإسلامي المعاصر يشهد قضية أخرى يدور حولها الجدل ويحتدم في المخرج منها الخلاف؛ تلك هي قضية الأنا الحضارية بالآخر الحضاري، وعلى وجه التحديد بالآخر الحضاري المهيمن عالميا، وهو الحضارة الغربية»[22].


سُبل المواجهة وطرق النهوض

1. إعادة تشكيل الوعي الإسلامي

وذلك بضرورة تشكيل الثقافة الإسلامية الواعية في مواجهة الهزيمة النفسية الداخلية والاتكالية المتقهقرة؛ فالجهل والعلم الناقص وفساد الأخلاق من أسباب تأخر المسلمين كما عدها شكيب أرسلان «فمن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص الذي هو أشد خطرا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدا عالما أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري»[23] وأصول الحضارة الإسلامية التي قامت عليها في عصورها الأولى ثابتة مقررة فمتى امتلك أدواتها، وبقيت حيّة ضمن النهوض والبناء، «والحضارة بوجه العموم لها عوامل في قيامها كما لها أسباب في السقوط، فمتى غابت الأصول والقواعد التي بُنيت عليها سقَطَت، وانتهى أمرها، وإنما يتحقق الازدهار في ظل الأمن والاستقرار؛ فتتحد عوامل إنسانية وظروف بيئية في بناء الحضارة وارتقائها»[24].

2. المواءمة بين التجديد والإصلاح؛ بين الموروث الديني والرافد الغربي

فإن أكثر المفكرين التنويريين كما وصفهم د.عبد الوهاب المسيري يتعاملون مع مصطلح العلمانية تعاملا معجميًا، وهو فصل الدين عن الدولة، ويجهلون أنه فصل كامل للإنسان عن إنسانيته، فيصير شبه الآلةِ خاوية من الإلزام الديني والخلقي، كسبي نفعي بلا إرادة، وهؤلاء الذين يطرحونه حلا للإصلاح يتناسون أنه المسئول عن مذابح النازية والسوفيتية الشيوعية المعقدة وتسخير العالم كله للغرب المادي وإمبرياليته الاستعمارية؛ فإن الإسلام لا يمنع مطلقا الاستفادة من الغرب بما لا يتعارض مع الأصول الدينية، أو الذوبان والتماهي في الآخر الغربي.

3. الفاعلية الحضارية وإعادة بناء المجتمع داخليا

في طريق العودة إلى بناء الحضارة فالفرد/الإنسان أولا في ثلاثية عناصر الحضارة عند مالك بن نبي يتبعه التراب والزمن؛ «إن علينا أن نكوّن حضارة؛ أي أن نبني، لا أن نكرس، فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكريس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة، إن علينا أن ندرك أن تكريس منتجات الحضارة الغربية لا يأتي بالحضارة، والاستحالة هنا اقتصادية واجتماعية»(25). وبذلك تتولد الأفكار وهي أغنى ما تملكه المجتمعات؛ «فلا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء) بل بمقدار ما فيه من أفكار»(26).

4. إصلاح الصدع الداخلي، ومواجهة انقساماته الحادة

سار محمد عبده على نفس خطى جمال الدين الأفغاني، وشعر بوجود الانحطاط في المجتمع الإسلامي، ورده إلى تخلي المسلمين عن دينهم، وتخليهم عن إعمال العقل.

الأمر الذي شكّل ثغرة في تشتت الفكر الإسلامي تبعا لتداعيات النظرة المختلفة للحضارة الغربية والمواقف المتباينة منها، وضرورة تبني منهج إسلامي شامل برؤية عامة للنهوض، وما تتطلبه الحضارة الإسلامية في المرحلة المستقبلية من إعداد المراكز البحثية والعلمية لمهماتها، وجمع التراث الإسلامي وتنقيحه وضبطه، ومعالجة المؤسسة التركيبية للمجتمع الإسلامي في العدالة والحريات، وتبني ثقافة النقد البناء، وإصلاح أخطاء العقود الماضية، وتفهّم أيضا بأن حضارة الإسلام لم تتأخر ويختف إشعاعها إلا بغياب العقل المسلم عن ميدانه الفكري؛ فإن كان الاستعمار يقع حين تكون هناك قابلية له وإِلف للحالة المتردية فيه؛ فإن الحضارة بوجه العموم لن تسقط إلا إذا كان للشعوب رغبة في السقوط!


*هذا الكتاب في الأصل رسالة للأمير شكيب أرسلان وإجابة لطلب من الشيخ محمد بسيوني على الأمير شكيب بإعداد كتاب في بيان أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وقوة الإفرنج واليابان، واقترح الشيخ محمد رشيد رضا نشره في مجلة المنار.[1] د.عبد الرحمن علي الحجي، جوانب من الحضارة الإسلامية، مكتبة الصحوة –بيروت 1399ه-1979م، ص42.[2] د.فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، دار الشروق للنشر ، الطبعة الثالثة، 1988م، ص15.[3[ عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ص35.[4] شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، مراجعة الشيخ حسن تميم، دار مكتبة الحياة، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية، ص41.[5] محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس مكتبة الخانجي – القاهرة، الطبعة الرابعة، 1997م، الجزء الأول، ص18.[6] المرجع السابق ص64.[7] د.حسن علي حسن، الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس عصر المرابطين والموحدين مكتبة الخانجي –القاهرة، الطبعة الأولى 1980م، ص257.[8] أسعد داغر ، حضارة العرب المقتطف – مصر الطبعة الثانية 1919م ص178.[9] ابن خلدون، المقدمة تحقيق د. علي عبد الواحد وافي 1957م ج الأول ص265.[10] مالك بن نبي، شروط النهضة ، ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر دمشق – سوريا 1968م، ص 47.[11] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 49.[12] المرجع السابق ص 56-57.[13] د.فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام ص20.[14] أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث دار الكتاب العربي بيروت-لبنان، ص16.[15] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول دار النهاري للنشر بيروت – لبنان 1986م، ص143.[16] مالك بن نبي، وجههة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر دمشق – سوريا الطبعة الأولى 1986م، ص50.[17] عبد الله بن النديم، مجلة الأستاذ العدد الثانى 17 يناير 1893م ص 514.[18] قاسم أمين، المرأة الجديدة ص100.[19] علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، الأهلية للنشر والتوزيع بيروت 1987م، ص 195-196.[20] سلامة موسى، اليوم والغد، سلامة موسى للطبع والنشر الطبعة الأولى 1928م ص5.[21] المرجع السابق ص7.[22] د.محمد عمارة، أزمة الفكر الإسلامي المعاصر دار الشرق الأوسط للنشر، ص38.[23] شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ص 75.[24] بحث لنا بعنوان “التمدن؛ آثاره الفكرية والعلمية”، وهو في الأصل رسالة ماجستير – جامعة المنيا كلية دار العلوم 2015م، ص 8.[25] مالك بن نبي، تأملات دار الفكر المعاصر بيروت – لبنان الطبعة الأولى 1423هـ/2002م، ص169.[26] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر دمشق – سوريا الطبعة الثالثة 1986م، ص37.