في أسوأ كوابيس إسرائيل لم تتخيل أن تتحد فلسطين التاريخيَّة معًا في مواجهة قوات الدفاع الإسرائيلية والمستوطنين في آنٍ، الالتحام الفلسطيني غير المسبوق في وجه الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة خلق حالةً من الفوضى في البيت الإسرائيلي لم تكن في الحسبان. لقد صنعت إسرائيل، دون أن تقصد، كرةً من النار وتركتها تتدحرج من مدينة لأخرى، ومن مواجهة لأخرى، حتى باتت كرة النار خارج السيطرة، وبات بإمكانها أن تحرق إسرائيل، أو على الأقل أن تَخمش الأفق، كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

الحرب الدائرة، والتي تنشب كل حين، بين إسرائيل ومختلف المدن الفلسطينية لها فاتورة يدفعها الطرفان، لا تبخل علينا وسائل الإعلام الفلسطينية والعبرية بشرح الفاتورة التي تتكبدها فلسطين، سواء من الأرواح أو الأموال أو البنى التحتية، لكن فاتورة إسرائيل تبدو ضبابيةً دائمًا، قد يصل الأمر أحيانًا إلى تخيُّل أن الجانب الإسرائيلي لا يخسر أي شيء، أو يفقد مستوطنًا أو اثنين فحسب، دون أي خسائر جانبية مباشرة أو غير مباشرة.

لكن الواقع عكس ذلك،وفي الحرب الأخيرة الدائرة منذ أوائل مايو/ آيار 2021 تأكيدٌ أن الجانب الإسرائيلي هو أيضًا يخسر. جدعون ليفي، المحلل والكاتب الإسرائيلي، يُنسب إليه تصريح بهذا الشأن يقول فيه إن إسرائيل تكلفت في الأيام الماضية ما قيمته 921 مليون دولار، هذا الرقم قابل للزيادة مع كل يوم إضافي في المواجهات. تلك الفاتورة الباهظة أتت، حسب التصريح المنسوب إليه، من أن صاروخًا قيمته 50 ألف دولار ينطلق لمواجهة صاروخ المقاومة بقيمة 300 دولار.

الرقم الذي أعلنه الكنيست كفاتورة ومصاريف الحرب مع فلسطين لا يشمل فقط صواريخ القبة الحديدية المنوط بها التصدي لصواريخ المقاومة. بل يشمل جميع مصاريف النقل والبترول والتحضيرات العسكرية السابقة للضربات الجوية والخسائر المدنيَّة في البنية التحتية. وإذا افترضنا أن الرقم المُعلن، 921 مليون دولار، هو الرقم الحقيقي، بلا مبالغة أو تهوين، فسيكون من البديهي، وهو رأي العديد من المحللين الإسرائيليين، استنتاج أن إسرائيل لا تستطيع أن تصبر لفترة طويلة في حرب كهذه تخسر فيها مليار دولار كل يومين.

مستقبل إسرائيل الائتماني ينهار

لذا نجد وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية قد أعلنت بوضوح، للمرة الأولى، أن استمرار المواجهات سيكون له أثر سلبي على التصنيف السيادي لإسرائيل. رغم أن الوكالة قد صنَّفت إسرائيل في يناير/ كانون الثاني 2020 بأنها في أعلى درجات التصنيفات A+، لكن الوكالة أعلنت أن المشاكل السياسية والأمنية طويلة الأمد سيكون لها تأثير خطير، وقد تكون دافعًا لتحرك إسرائيل نحو تقييم سلبي.

محللو الوكالة قالوا إن أعمال العنف، على حد وصفهم، قد تهدد النظرة المستقبلية. يمكن فهم تلك التصريحات بإضافة تصريح آخر لاتحاد المُصنعين بأن الاقتصاد الإسرائيلي تضرر في ثلاثة أيام فقط، مدة التصعيد مع غزة، بمقدار 540 مليون شيكل، 196 مليون دولار أمريكي.

التصنيفات الائتمانية لا تقوم بالأساس على الخسائر الحادة المؤقتة لكن على المستقبل، والتفاؤل بمستقبل الدولة. لذا يُعتبر تصريح الوكالة خسارة مهولة للجانب الإسرائيلي وانتصارًا غير هين للمقاومة الفلسطينية، لأن إسرائيل تعرض نفسها ليهود العالم، وللعالم، بوصفها دولة المستقبل، ومالكة الأمل. الأمل بأنها دولة قوية، سوف تصمد للأبد وتستمر رغم أي صعوبات تواجهها؛ لذا فإن أي صدع في هذه السردية سوف يهزم إسرائيل.

وشعور يهود إسرائيل بالخطر وبالحياة المهددة سوف يكون له تأثيرات طويلة الأمد على قرار المستوطنين بالبقاء في إسرائيل، وبالطبع سيكون له تأثير على قرار اليهود الذين يحلمون بالحياة في إسرائيل باعتبارها جنَّة الأمن والرفاهية. وإذا سافر عدد من المقيمين، أو على الأقل لم يأتِ عدد كبير كما تريد إسرائيل، فإن متوسط الأجور سوف يرتفع، لأن الأيدي العاملة ستكون عملة نادرة. وبما أن إسرائيل دولة عسكرية في المقام الأول، فسوف توجِّه عمَّالها للجهات العسكرية جهات الإنقاذ والإغاثة، ما يعني خللًا في باقي المجالات والمرافق.

لأول مرة: البنية التحتية مهددة

كذلك قد ينخفض التصنيف الائتماني لأن التكنولوجيا العسكرية وتصديرها أمر مهم في الاقتصاد الإسرائيلي، وبانشغال الجيش بالدفاع عن نفسه وحراسة حدوده فسوف يؤثر على تصدير إسرائيل لأسلحتها. ما يعني أن المستثمر الأجنبي لن يجد دافعًا للاستثمار في سوق متوتر يحتفظ بإنتاجه لنفسه. أما مدى صواريخ المقاومة فبدأ يزداد، ما يعني أن شبكات الغاز والمياه والكهرباء باتت مهددة بالقصف والتعطل في أي لحظة، ما يعني توقف الإنتاج وارتفاع كلفة تأمين تلك المرافق.

هذا المستقبل المُقلق الذي تخاف منه وكالات التصنيف إذا استمر القتال يمكن رؤية بوادره بقوة، ويمكن كذلك إدراك جانب آخر من خسائر إسرائيل جراء مقاومة الفلسطينين غير القتلى المباشرين. فقد أعلنت شركة شيفرون الأمريكية أنها أغلقت منصة تمار الإسرائيلية للغاز الطبيعي الموجودة في شرق المتوسط، بناءً على تعليمات الجانب الإسرائيلي خوفًا من استهدافها. شيفرون هي أكبر مستثمر في سوق الطاقة الإسرائيلي، 11.8 مليار دولار سنويًّا، خروجها في أي وقت من السوق الإسرائيلي يعني طعنة قوية للاقتصاد الإسرائيلي.

 إغلاق تلك المنصة وحدها يكلف الجانب الإسرائيلي 5 ملايين دولار يوميًّا، أي ما يعني 1.8 مليار دولار سنويًّا هي قيمة الدخل الذي كانت المنصة تمنحه إسرائيل بفضل استخراج 8.2 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. هذا الإجراء يأتي وسط أزمة موجودة بالفعل حيث يعاني من الاقتصاد الإسرائيلي جراء جائحة وباء كورونا، إذ تراجع الاقتصاد بنسبة 5.5% عام 2020، وهذه هى المرة الأولى في سجل الاقتصاد الإسرائيلي التي يعاني فيها من تراجع ضخم كهذا.

كما ألغت شركات طيران أمريكية وفرنسية الرحلات إلى إسرائيل بسبب الأوضاع فيها. كما أعلنت إسرائيل تعليق الدراسة في تل أبيب ومحيطها، وعلَّقت الرحلات الجوية في مطار بن جوريون، وتحويل الرحلات كافةً لقبرص واليونان. وفعلت إسرائيل كذك حالة الطوارئ في مدينة اللد، وأعلنت عن نيران أشعلها العرب في متاجر و3 معابد يهودية. وأعلنت عن مقتل اثنين في اللد بصاروخ قادم من غزة أصاب سيارتهما.

القبة ليست فولاذية حقًّا

لكن بجانب الخسائر المباشرة المادية فإسرائيل خسرت، وتخسر، أشياء أخرى في حروبها مع فلسطين، مثل صورتها. فالمواجهات الأخيرة احتوت على عدد من المفاجآت كافية لتضع أُطرًا جديدة للصراع، وسيكون لها أثر عميق في العقل الإسرائيلي عند التخطيط مرة أخرى لحرب على الداخل الفلسطيني.

فمثلًا كان الجانب الإسرائيلي يردد أن المقاومة الفلسطينية تعيش حالة من رد الفعل، الردع، فحسب. وأن المقاومة بعيدة للغاية عن أن تمتلك زمام المبادرة يومًا، أو حتى أن تقوم برد فعل يؤلم إسرائيل. لهذا نجد الجانب الإسرائيلي لم يبادر بإخلاء المستوطنين رغم تهديدات كتائب القسام، ربما ظنًّا منه أن الأمر لن يتعدى إطلاق بضعة صواريخ على عدد من المستوطنات غير الحيويَّة في غلاف غزة. لكن تفاجأ الجميع أن الكتائب نفذت وعدها في الموعد المحدد وبالكيفيَّة المعلنة، استهداف محيط القدس.

لهذا تُظهر الكاميرات فرار المستوطنين مذعورين مع أول رشقة صاروخية، وانهيار شعورهم بالأمان النابع من اعتقادهم بأنهم أبعد ما يكون عن يد الصواريخ الفلسطينية. كذلك ترى في العيون الهاربة حيرةً حول كيف وصلت إليهم الرشقات الصاروخية، فشعور المواطن الإسرائيلي بالأمان لا يأتي من ظنِّه ضعف قدرات المقاومة فحسب، بل من تصديقه أن قدرة إسرائيل على الردع أسطورية، وأن القبة الحديدية لا تترك صاروخًا يمر، أو ذبابةً حتى كما يتناقل الإعلام العبري أحيانًا.

رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينامين نتنياهو، اضطر للاعتراف بأن نجاح القبة الحديدية في التصدي للصواريخ بلغ 20% فقط، انتكاسة مهولة في الرقم بعد أن كان نتنياهو شخصيًّا يجادل أمام ناخبيه ومستوطنيه بأن قدرتها 100%. كما عكست الرشقات الصاروخية تطورًا في الكم والكيف، عدد كبير من الصواريخ وصل إلى 1000 صاروخ في 24 ساعة فقط، 1600 صاروخ في 3 أيام، ما يعني أن تقديرات الجانب الإسرائيلي لقدرات المقاومة غير دقيقة، كما أن القدرة التصويبيَّة تحسنت، فنسبة الأخطاء في صواريخ المقاومة قلت بنسبة كبيرة عما سبق.

أسطورتها تنهار أمام شعبها

من الأساطير التي انهارت في الأيام الماضية أيضًا أسطورة أن الجيش الإسرائيلي قادر على القتال على جبهات متعددة في توقيت واحد. فمع الصواريخ التي أصابت عسقلان وتل أبيب اضطر العدو لتأجيل المناورة الأهم، مركبات النار، لمدة 24 ساعة ثم أسبوع. بالرغم من أن حدوث المناورة بالتزامن مع المواجهات في غزة كان يمكن أن يمثل دعاية جيدة لإسرائيل، لكن تأجيلها المتتابع أرسل رسائل محبطة للداخل الإسرائيلي جعلته يشكك في جهوزية جيش الدفاع المزعومة.

كما أن إنجازات الجانب الإسرائيلي في قصف غزة التي ينقلها أفيخاي أردعاي، المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، ربما لم يجد الإسرائيليون وقتًا لمتابعتها بسبب وجودهم معظم الوقت في الملاجئ الآمنة ضد القنابل. لكن في مقابل تلك الإنجازات، كما يصفها أفيخاي، فإن وكالات الأنباء العالمية نقلت أنه منذ عام 2014 لم تشهد إسرائيل دمارًا كالذي شهدت في الأيام الماضية، منازل مهدمة، سيارات محترقة، وإصابة منشأة نفطية.

انكشاف الدمار داخل إسرائيل هو في ذاته خسارة مدوية لها، وانتصار يُحسب لإعلام المقاومة. فقد اعترف مراقب الدولة في إسرائيل، أعلى سلطة رقابية داخل إسرائيل، أن بلاده خسرت في شرح نفسها للمتلقي العربي، وأن الإعلام العبري الناطق بالعربية فشل في الحفاظ على صورة إسرائيل وتركها مكشوفةً أمام الإعلام العربي ينقل عنها ما يشاء. رغم أنه طوال عقود كان الإعلام الإسرائيلي قادرًا على قلب الحقائق ونقل واقع مغاير للمتلقي الأوروبي، والتأثير بدرجة ما في الوعي العربي.

الجانب الإسرائيلي قد هُزم في المعركة الأخيرة، وفشل على مستويات عدة لكن بالطبع لا يمكن لإسرائيل أن تُنهي حربها الآن وهى في موضع المأزوم كي لا تخرج من المعركة والصورة المترسبة في أذهان شعبها أنهم ضعفاء معرضون للقصف في أي وقت وبلا أدوات ردع كافية؛ لذا فالأغلب أنها سوف تستمر في هجماتها آملةً أن ما لم يتحقق بالقوة سوف يتحقق بالقوة الغاشمة، لكنها حتى في ذلك السيناريو لا تفعل إلا أنها تؤجل اعترافها بهزيمتها.