لم تكن اللحظة التي سقطت فيها قنابل أمريكا النووية فوق هيروشيما وناجازاكي آخر الحكاية، بل كانت الخطوة الأولى في حكاية جديدة وصل صداها إلى أبعد من اليابان نفسها، حيث الشرق الأوسط بصراعاته الممتدة، وقد كانت قصة الجيش الأحمر الياباني هي الممثل الأكبر لهذه الحكاية…

لن تحكمنا أمريكا!

تروي الكاتبة الأمريكية ألين جاليجر في كتابها The Red Japanese Army أن البدايات التاريخية لما عُرف لاحقاً بحركة الجيش الأحمر الياباني كانت مقاومة السيطرة الأمريكية على اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإعلان الإمبراطور الياباني الاستسلام غير المشروط.

في الرابع عشر من أغسطس 1945 وصل الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك أرثر Douglas MacArthur إلى العاصمة اليابانية طوكيو لقيادة القوات الأمريكية المتمركزة في اليابان بعد إعلان الاستسلام، والذي عنى بطبيعة الحال وقتها توليه الحكم الفعلي في اليابان بعدما فقدت الحكومة المركزية قدرتها على تسيير الأمور في الشارع بعد الهزيمة وسيطرة القوات الأمريكية على مقاليد الأمور.

تشير ألين إلى أن الجنرال الأمريكي سعى لتحسين نظام التعليم في اليابان لا سيما الجامعي وذلك من أجل تطوير نظام ديمقراطي في اليابان، وعلى الرغم من الصيغة المتسمة بطابع البروباجندا الأمريكي فإن الوقائع تشير إلى انطلاق الحركة التحررية اليابانية من الجامعات وخاصة جامعة طوكيو في العاصمة.

تخبرنا الوقائع أن طلاب الجامعات اليابانية رفضوا حالة السيطرة التي أعلنتها الولايات المتحدة، وبدأوا في المطالبة بعودة السيطرة داخل اليابان لأهل البلد واستبعاد العنصر الأمريكي.

تزامنت تلك التحركات الطلابية المتفرقة مع حراك الحزب الشيوعي الياباني ورغبته في اكتساب ظهير شعبي يمكن من خلالها مواجهة الإمبريالية الأمريكية في اليابان، فاستقطب الحزب كافة العناصر الطلابية الرافضة للوجود الأمريكي في اليابان ونجحت بالفعل في نهايات العام 1948 في حشد ما يقارب 60% من الطلاب اليابانيين داخل حركة «زينجاكورين»، والتي استهدفت تكوين حركة حكم مستقلة بعيداً عن الحكومة اليابانية الخاضعة للسلطة الأمريكية.

قرر الجنرال ماكارثر ومع تصاعد قوة «زينجاكورين» في اليابان أن يبدأ حملة اعتقالات موسعة بحق أعضاء الحركة، بما في ذلك الطلاب والمعلمين وكذلك القيادات الحزبية وهو ما دفع الطلاب في العام 1950 إلى إطلاق حملة مقاطعة للامتحانات واستمرت التظاهرات بالفعل حتى يونيو من العام 1960، والتي وصلت إلى مقر إقامة رئيس الوزراء الياباني، حيث تجمع الطلاب وربطوا بوابات المقر بالحبال وجذبوها بقوة في محاولة لاقتحام المقر.

أشارت جاليجر إلى أن الجناح العسكري للحزب الشيوعي الياباني والذي تكون في نهاية العام 1960 متضمناً 400 من الطلاب المشتركين في الحركة، استهدف تكوين حركة مقاومة عالمية تواجه الإمبريالية الأمريكية في مختلف بلدان العالم.

على الجانب الآخر ينافح ستيورات داوسي في كتابه «Zengakuren: Japan Revolutionary Students» النظرية القائلة بأن «زينجاكورين» انطلقت كحركة عالمية تود فرض القوة الشيوعية في مواجهة الإمبريالية الأمريكية حول العالم، وأكد أنها استهدفت ثورة يابانية ضد الوجود الأمريكي في اليابان وحسب، وهو عكس ما تطرحه جاليجر في كتابها، فالتحول ما بين المحلية والعالمية كان له علاقة بحركة الجيش الأحمر التابعة كجناح عسكري للحزب الشيوعي وليس للحركة الطلابية المعارضة كنشاط ياباني.

يقودنا ذلك كله إلى نقطة الاشتعال التي بدأت منها القصة، وهي الغضب الياباني المستعر من السيطرة الأمريكية على مقاليد الأمور والشعور بالخزي من السياسة الخارجية لليابان في سنوات ما بعد الهزيمة والتي شكلت مفتاحاً لتشكل حركات قررت مواجهة الولايات المتحدة على طريقتها الخاصة وبعيداً عما وصفته بالتخاذل الحكومي.

عود الثقاب

صبيحة 31 مارس عام 1970 وعلى متن طائرة الخطوط اليابانية رقم 351 المنطلقة من مطار إينيدا في طوكيو باتجاه مدينة فوكوكا اليابانية وعلى متنها 122 راكباً وطاقم قيادة مكون من 7 أشخاص، تفاجأ الجميع وبعد 20 دقيقة فقط من الإقلاع بشاب صغير السن يحمل سلاحاً ويطالب زملاءه بإشهار مسدساتهم وسيوف الساموراي خاصتهم ليعلن التسعة أفراد الذين تراوحت أعمارهم ما بين 17 و27 عاماً اختطاف الطائرة اليابانية.

أعلن مختطفو الطائرة بشكل واضح مطلبهم بسفر الطائرة إلى واحدة من الدول الشيوعية التي يمكن أن توفر لهم التأمين، فكان اختيارهم الأول هو كوبا، لكن السلطات الكوبية رفضت المخاطرة بالدخول في أزمة دبلوماسية مع اليابان باعتبارها دولة تبادل تجاري مهمة، وبعد عدد من المفارقات والمحاولات انتهى بهم الأمر في كوريا الشمالية واختفوا عن العالم.

بإمكاننا القول إن هذه كانت واحدة من عدة عيدان ثقاب بدأت الحركة الشيوعية في اليابان في إشعالها ضمن حربها على الإمبريالية الأمريكية، عبر تهديد الحلفاء القريبين من الولايات المتحدة ووضعهم في محل خطر، لكن الخطوة التالية لتنظيم الجيش الأحمر كانت أكثر جرأة من غيرها، حيث توجهت بأنظارها نحو الحليف الأهم والطفل المدلل للولايات المتحدة وهو إسرائيل من أجل زعزعة كيانها وإحداث كسر في القلب منها.

مسار مختلف

على الجانب الآخر من الخريطة وبعيداً عن اليابان نفسها ظهرت عبر فوساكو شيجينوبو «Fusako Shigenobu» والتي أعلنت عن تأسيس مجموعة الجيش الأحمر الياباني لكن هذه المرة في لبنان وذلك بغرض مواجهة الإمبريالية الأمريكية في نقطة أخرى من العالم.

في العام 1971 أعلنت فوساكو انطلاق عمل الجيش الأحمر الياباني بالاتحاد مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان والكتائب الإيطالية الحمراء.

كانت فوساكا من أبرز ناشطي الحركة الشيوعية في اليابان، وحملت أفكاراً حركية قادتها لتحويل المواجهة بين الشيوعية والإمبريالية الأمريكية من مجرد سجال سياسي إلى مواجهة عسكرية شديدة القوة، وكانت فلسطين هي الوجهة التي اعتقدت فوساكو أنها ستكون ضربة حرجة للخاصرة الأمريكية وتهديداً لمشروعها داخل الشرق الأوسط.

تزوجت فوساكا من رجل لم تُكشف هويته أبداً على الرغم من كل تلك السنوات، وسافر لها في لبنان بضع من أعضاء الحركة من اليابان، تمهيدًا لواحدة من الحوادث الفارقة في تاريخ المواجهة مع إسرائيل.

في الثلاثين من مايو عام 1972 وصل كوزو أكوموتو إلى مطار اللد في الداخل الفلسطيني المحتل على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية قادمة من روما إلى تل أبيب، وبعد أكوموتو ورفاقه الاثنين إلى ساحة المطار أخرجوا أسلحتهم وبدأوا عملية إطلاق نيران عشوائي داخل المطار سقط على إثرها 26 شخصًا وأصيب 74 وقُتل اثنان من منفذي العملية اليابانيين.

أصدرت محكمة إسرائيلية حكمها بالسجن على كوزو أكوموتو لمدى الحياة، لكن وبعد 13 عاماً أفرج عنه في صفقة تبادل أسرى مع السلطة الفلسطينية، وانتقل بعدها إلى سجن في لبنان.

وقعت لبنان في أزمة في ذلك الوقت، قوامها الرئيسي طلب الحكومة اليابانية تسليم المسئولين عن العملية لمحاكمتهم في اليابان، لكن لبنان أعلنت أنها ستحاكمهم بتهمة حيازة جوازات سفر لبنانية مزورة وهو ما يقتضي بقاءهم في السجن اللبناني 3 سنوات.

تفاقمت الأزمة بشكل أكبر حينما انتهت مدة العقوبة المقررة بثلاث سنوات وأعلنت اليابان تعليق العديد من الأنشطة التجارية مع لبنان في حال استمرار رفضها تسليم المطلوبين، في الوقت نفسه كان طلب المجموعة البقاء في لبنان والحصول على حق اللجوء، لذا وقبل موعد خروجهم من السجن بثلاثة أيام فقط أعلن 3 منهم دخولهم الإسلام وغيروا أسماءهم وتزوج واحد منهم سيدة لبنانية مسيحية أما عن السيدة الوحيدة في المجموعة فقد سمت نفسها مريم.

وفي النهاية سلمت لبنان 4 من مسئولي العملية إلى اليابان فيما حصل كوزو أكوموتو على حق اللجوء داخل لبنان بعد سنوات تعرض فيها للتعذيب القاسي في السجون الإسرائيلية فقد على إثرها الذاكرة وأصبح ذهنه مشوشاً وغير واعٍ بما حوله.

أما عن فوساكا شيجينوبو فقد سافرت إلى عدة دول قبل أن تزوّر هوية وتدخل من خلالها إلى اليابان لكن السلطات تلقي القبض عليها في عام 2000 وحكم عليها بالسجن عشرين عاماً.

المناضل يوسف فونتانا

لم تكن اليابان وحدها من خرج منها من يسعون للقتال من أجل فلسطين،فكانت مجموعة الكتائب الإيطالية الحمراء Red Brigades ضمن المجموعات الشيوعية التي تحالفت مع الجيش الأحمر الياباني لتشكيل جبهة قتالية تستهدف بالأساس ضرب المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط متمثلاً في إسرائيل.

من أبرز أعضاء تلك الكتائب الإيطالية هو الإيطالي فرانكو فونتانا، الذي وصل لبنان في عام 1969 ليعلن انضمامه إلى جبهة التحرير الفلسطينية.

تحرك فونتانا إلى فلسطين للمشاركة في عمليات المقاومة وأظهر براعة في إطلاق قذائف الكاتيوشا ويقرر البقاء بين جنبات حركة المقاومة بعيداً عن حياة الرفاه التي اعتادها في إيطاليا، يتحدث مع من حوله بعربية ركيكة ويأكل الحمص والزيتون، وتشبع بالمجتمع حوله حتى قرر تغيير اسمه إلى يوسف إبراهيم واعتنق الإسلام.

سافر فرانكو أو يوسف إلى باليرمو الإيطالية في العام 1975 حينما توفي والده وذلك ليحصل على ميراثه وقد قرر العودة والتبرع به بالكامل لصالح المخيمات الفلسطينية، ثم يعود بعدها إلى جبهات القتال ويظل مشاركاً فيها حتى العام 1982 حينما تحاول القوات الصهيونية اقتحام لبنان ليشارك في عمليات القتال المقاومة على الحدود.

يصل مجموع السنوات التي قضاها فرانكو في جنبات المقاومة 22 عاماً، حتى يتقدم سنه وتصبح قدرته على القتال أقل فيعود إلى إيطاليا ويقضي هناك 30 عاماً، ليقرر بعدها العودة إلى لبنان مجدداً، يلتقي رفاق المقاومة القدامى ويتفاجأ بتغير بيروت، ثم يذهب إلى مخيم شاتيلا ويعانق الأطفال هناك ويقضي الوقت بينهم ثم يذهب بعدها إلى مقبرة شاتيلا ليقف هناك حداداً وتوديعاً للضحايا بداخلها، وبعدها بأيام قليلة تصيبه سكتة دماغية يتوفى على إثرها.

تتدخل السفارة الإيطالية في محاولة لنقله إلى إيطاليا ليدفن هناك لكن وصية كتبها ووضعها في أغراضه أوقفت ذلك، حيث أوصى فرانكو فونتانا أو يوسف إبراهيم أن يدفن في مخيم اليرموك أو عين الحلوة وتستجيب السفارة لرغبته بالفعل.

وبوفاته يغلق الباب على آخر قصة من قصص النضال الأجنبي في فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.