في كل مرّةٍ أكتب عن أستاذٍ لي؛ أخط كلماتي بمداد قلبي ممزوجًا بدمع الحب والعرفان. ذلك أني أعدُهم آباءً لعقلي وشعوري وصحبة دربي الصالحة، ولو لم نلتق في هذه الدنيا قط. إنهم زاد الروح الذي تستدفيء به في برد الوحدة وطول الرحيل وثقل الطين وضعف الهمة. وما أظن معرفة الإنسان لمفكرٍ مخلصٍ أو كاتبٍ مُكابِدٍ أو عالمٍ عاملٍ، وألفة أفكاره ومعايشة أطوار حياته؛ يكون إلا لهذا الهدف: أن يستهدي به على الحقيقة لا على المجاز.

كانت مسيرة علي عزت بيغوفيتش مثالًا صادقًا على إخلاص المفكِّر لما يؤمن به، وتجسيده له في كل وقت بأقصى طاقته، وحتى الرمق الأخير

هذه العلاقة الشديدة الخصوصيّة، الشديدة العمق أيضًا؛ والتي تدفعُني لأقرن اسمي باسم بيغوفيتش في العنوان، وتجعلني مثلًا أشعر بألفةٍ فيما يكتُب بأكثر مما أشعر بألفةٍ فيما أكتب؛ هذا النوع الحميم من العلاقات أطوِّرُه مع كل أستاذ لي تشرَّبت كتاباته ودمجتها في أنساقي وطريقة تفكيري ومعيشتي، حتى صارت بمثابة النخاع الذي يتغذى عليه وجودي (راجع مقال لي سبق بعنوان: كيف أقرأ الكتب). إنها علاقةٌ لا يُمكن لها التطوّر بغير إلمامٍ عميق بسيرة حياة الكاتب وطريقة تطور أفكاره ومراحل ذلك التطوّر، وأخيرًا بمدى تحقُّقه شخصيًا بهذه الأفكار في حياته وإخلاصه لها. وقد كانت مسيرة علي عزت بيغوفيتش، رحمه الله؛ مثالًا صادقًا على إخلاص المفكِّر لما يؤمن به، وتجسيده له في كل وقت بأقصى طاقته، وحتى الرمق الأخير. لكن الأهم من الإلمام بتفاصيل وجزئيات حياة الكاتب وأفكاره؛ أن تلتقي حياتي مع حياة من أتتلمذ عليه في الكليّات والأسئلة الرئيسة وطبيعة المكابدات. أن تتشابه الرحلة إلى الله، أو على الأقل تتشابه القلوب. إنها طريقةٌ تجعلني أشهد من أقتفي أثره ماثلًا لعياني؛ يتحرك أمام ناظري، فأسمعه وأبصرُ حركته. إنها الطريقة التي علمنا بها القرآن احتذاء الأنبياء والأولياء من عباد الله الصالحين. وهي الطريقة الوحيدة التي تجعلُك تُحسِنُ استيعاب كاتبٍ أو عالم أو مفكر أو داعية، بل حتى النبي، صلى الله عليه وسلم؛ أن تسلُك طريق قلبه، وتعايشه كليًا. أما ما سوى ذلك فقراءات باردة سطحية سخيفة، قراءات للترف الثقافي والسفسطات النخبوية؛ قراءات لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

صحيحٌ أنني طوّرت مثل هذه العلاقة مع مفكرين آخرين، من المعاصرين ومن السلف؛ أفدت منهم كليًا وجزئيًا، من أبي حامد الغزالي إلى علي شريعتي مرورًا بجمال الدين الأفغاني؛ إلا أن علي عزت يحتل مع سيد قطب وعبدالوهاب المسيري مكانة خاصة في وجودي. فإذا كان قُطب هو من فتقت كلماته وجداني وعلمني كيف أشعر وأفكر، فقد تلقف علي عزت منه النبتة الخضراء ليُرسِلَ جذورها برفقٍ في أغوار الإنسان الرباني، ثم جاء المسيري ليُرسِّخ كل ذلك ويمنحه قوة الحياة وضجيجها.

لهذا؛ فعلاقتي بعلي عزت ليست مجرد علاقة قارئ بمفكِّر مر به إبّان نُضجه، بل هي في حقيقة الأمر: قصة نضجي. وهذا لا يعني أنني قد نضجت وانتهى الأمر؛ فالإنسان يستمر في نضجه باستمرار تقدَّمه في العمر وتزايُد خبراته، وحتى يبلُغ أشده أربعين سنة، وربّما بعد ذلك؛ وإنما أعني بالنضج هنا تبلور صورة مُعيَّنة للشخصية والأفكار، وإن ظلت يد الزمن والمدارسة والمكابدة تعمل عملها في صقلهم وزيادة عمقهم.


كان كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» يلزمه خلفيّة فلسفيّة وكلاميّة متينة، ومن قبل ومن بعد؛كان يلزمه مكابدة حقيقية للخلفية التي سأجتهد في تحصيلها لاحقًا

ابتعت الطبعة الثانية، التي أصدرتها مؤسسة بافاريا؛ لكتاب بيغوفيتش العمدة، «الإسلام بين الشرق والغرب»؛ عام1997 تقريبًا، وكنت حينها على مشارف المرحلة الجامعية. كانت معاناة البوسنة لا تزال غضّة طرية؛ فلم تمض بعد سنوات التبرُّع والدعم، ولا انقضت مشاهد المذابح والمآسي الإنسانية التي كانت تصلنا بعض تفاصيلها. وقد ابتعت الكتاب حينها إذ وجدت عليه اسم الرئيس البوسنوي الذي يواجه العدوان الصربي والتواطؤ الأوروبي وحيدًا. لم يكُن العنوان يُنبئ بشيء استثنائي، وإن أشارت نبذة الغلاف لذلك إشارات غامضة؛ وربّما ظننت حين شرعت في مطالعته للمرة الأولى أني سأجد خطابًا ناريًا بليغًا عن علاقة الإسلام بالغرب مثل كتب محمد الغزالي، أو حتى به قدرٌ من العمق في طرح الإشكالية مثل كتب محمد قطب، رحمهما الله؛ لكن كانت الصدمة أني لم أفد شيئًا تقريبًا، اللهم إلا بعض الأفكار والإشارات المتناثرة التي تركت أثرها في بشكلٍ غامض؛ كأنها تعدُني بالعودة للكتاب ثانية حين أستعد له معرفيًا ووجدانيًا. كان الكتاب يلزمه خلفيّة فلسفيّة وكلاميّة متينة، ومن قبل ومن بعد؛كان يلزمه مكابدة حقيقية للخلفية التي سأجتهد في تحصيلها لاحقًا، وهو ما عرفت قيمته وأهميته حين اطلعت على كتابه الثاني، الذي تُرجم في دار الفكر السورية ترجمة شنيعة؛ بعنوان «هروبي إلى الحرية».

سأعود لكتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» مرة أخرى بعد حوالي أربعة أعوام تقريبًا؛ كنت خلالها قد طالعت ترجمة الأستاذ محمد يوسف عدس الرائقة لكتاب «الإعلان الإسلامي»، وكذا الترجمة السورية ل«هروبي إلى الحرية»، التي دفعتني ردائتها للبحث عن الترجمة الإنكليزية؛ لعلها تكون أيسر في قراءتها وأكثر قُربًا من روح المؤلف. إذ أن صاحب الترجمة السورية طمس روح المؤلف الشعريّة وأفسد النص تمامًا؛ سواء بحرفية الترجمة في مواطن، أو بانحرافها عن مراد الكاتب في مواطنَ أخرى كثيرة. وبرغم ذلك؛ كان لتلك الترجمة يدٌ عليّ لا أُنكرها؛ إذ كسرت عندي رهبة المؤلف وجعلتني أصر على استكشافه.كانت سهولة «الإعلان الإسلامي»، بوصفه مانفستو سياسي ترجمه نفس مترجم «الإسلام بين الشرق والغرب»؛ دافعًا جديدًا لمحاولة سبر غور بيغوفيتش، خصوصًا وقد اكتملت عندي بعض الأدوات الفلسفية واستقرت بذور الخلفية الكلامية، واطلعت على الترجمة المتواضعة لسيرته الذاتية التي نشرت بالعربية في سوريا. لكن القراءة الثانية لكتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» لم تُثمر كل ما كنت أنتظره، وإن كانت قد مثَّلت طفرة حقيقية مقارنة بالقراءة الأولى.

كُنتُ قد صُدمت بسعر بيع الترجمة الإنكليزية لكتاب «هروبي إلى الحرية»؛ إذ تعدّى سعره على أمازون حينها، عام2002 تقريبًا؛ المئة دولار (الكتاب أقل من 250 صفحة)! وقد عرفت بعدها أن الناشر مُتخصص في الكتب الأكاديمية، التي تباع في أكثرها للجامعات الغربية؛ وأن هذا السعر متوسط «عادي» مقبول في ذلك السياق، وليس مبالغًا فيه! ثم قدَّر الله أن أتعرَّف بعدها بعامٍ أو أكثر قليلًا، في أحد المنتديات الإلكترونية؛ على صديقٍ هنديٍ، أستاذ جامعي وناشط وناشر؛ من المليبار، وحين تطرق بنا الكلام إلى بيغوفيتش وكتبه؛ وعدني بأن يُرسل لي بالبريد نسخة مصورة من الترجمة الإنكليزية التي يملكها، وقد فعل. كانت علاقتي بالدكتور أوصاف أحسن، وهو اسم صديقي الهندي الذي زرته بعدها في مدينته الساحلية وصار من أعز أصدقائي؛ فتحًا جديدًا ليس باطلاعي على نص بيغوفيتش في أبهى حُلله فحسب، بل بانتقالي من التحصيل المجرَّد إلى المكابدة.

صرت مُهيئًا تمامًا ليس لتشرُّب كتابات بيغوفيتش وتلمُّس روحها فحسب، بل جعلتني تلك المطارحات، على قلتها؛ مُستعدًا كليًا لاستقبال عبدالوهاب المسيري

لا أذكر أنه نصحني بشيءٍ أبدًا فيما يتعلق بطريقة قراءتي، ولكنني كنت مُعجبًا للغاية بنشاطه الاجتماعي-المعرفي وقراءاته لأكثر مفكري الإسلام المعاصرين، وبعض السلف، باللغة الإنكليزية؛ وقدرته على التعامل معهم جميعًا بروح من التجانُس والوحدة، برغم رفضه لبعض أفكارهم. روح ربما لم يُدركها هو نفسه، وربما استبطنها لأنه طالع كتاباتهم بلغةٍ أجنبيةٍ واحدة غير لغته المحلية؛ لا أعرف على وجه التحديد، لكن هذه الروح قد أثرت في بعُمق، وأعادت تشكيل منظوري لما أقرأ وكيفية قراءته. وبلورت لقاءاتي بأصدقائه الهنود، سواء الذين حضروا لمصر بعدها للسياحة أو الذين التقيتهم في بلده؛ ونقاشاتي معهم هذا التصور. إذ صرت ألمس تجانُسًا ونضجًا واضحين في تناولهم وطرحهم. وبرغم أنهم مثقفين «غير متخصصين»؛ فقد شهدتهم يقفزون قفزاتٍ سلسة مُبررة بين هذا المفكر وذاك، بإدراكٍ عميق للوحدة خلف التنوّع الظاهري في طروحات هؤلاء المفكرين، وبغير تقيؤ لمقتطفات نيئة (كما يصفها بيغوفيتش) من هذا أو ذاك؛ ليُزينوا بها أحاديثهم، على عادة المثقفين الحُفَّاظ أصحاب الأذهان الخاملة. لقد جعلني الاحتكاك بأصدقائي الهنود أدرك قصور التحصيل بغير مكابدة. صحيح أن كلنا يُكابِد بشكلٍ أو بآخر؛ لكن مكابدة ما نتعلمه يجب أن تبدأ بشكل واع في محاولة لتمثُّله، فلا شيء يُنضج المعرفة ويُعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها. وبمجرد أن طرحت التحصيل النظري المجرَّد جانبًا، وشرعت في المكابدة الواعية من خلال حركتي في الوجود، كإنسان مسلم؛ صرت مُهيئًا تمامًا ليس لتشرُّب كتابات بيغوفيتش وتلمُّس روحها فحسب، بل جعلتني تلك المطارحات، على قلتها؛ مُستعدًا كليًا لاستقبال عبدالوهاب المسيري، وأذكر أني صرخت في سعادة غير مسبوقة بعد قراءة أول ما حصلت عليه من كتبه، وكأني وجدت ضالتي. رحمه الله. لقد جعلتني الحركة بالمعرفة أرى ما لم أكن لأراه أبدًا بدونها.

أقبلت على المسيري بالروح التي أحسن جبران وصفها؛ إذ كانت عباراته وأفكاره تسكُن في أغوار نفسي كأنما عرفتها من قبل، وكنت أنتظر من يصوغها لي في أنساقٍ وعبارات. كانت الأدوات التي منحنيها المسيري تشرح طريقة بيغوفيتش في تشكيل رؤيته. الأدوات التي صارت قدرتي على التفكيك والتركيب بعد تحصيلها، وبعد المران الذي وفَّرته لي كتابات المسيري، رحمه الله؛ قدرة سلسة ممتعة، وجد مفيدة في فهم العالم والتعامُل معه. لقد أهداني المسيري، بشكل أو بآخر؛ طريقة رسم اللوحة التي أبدعها بيغوفيتش بألوان سيد قطب، رحمهم الله جميعًا. صحيح أن أيًا من المفكرين الثلاثة لم يلتق وجهًا لوجه باﻵخر، وأن المسيري مثلًا قرأ بيغوفيتش بعد اكتمال مشروعه، وأنه لا يوجد دليل صلب على قراءة بيغوفيتش لأعمال قطب؛ إلا أن هذه الوحدة قد تشكَّلت من عنصرين: أولهما وحدة المصدر والمنطلق، التي تشي بها الرؤية الكونية ولو اختلفت المعالجة ومنظورها؛ والثاني هو وحدة المتلقي الذي جسَّده العبد الفقير إلى ربّه، وتلاقي أسئلته مع بعض أسئلة المفكرين الثلاثة، وأخيرًا قُدرة هذا المتلقي على إدراك الوحدة الجامعة الكامنة خلف التنوّع. لقد جعلتني المكابدة (أو الحركة بالمعرفة/الإيمان في محاولة لتنزيلها) أُدرك ظلالًا وأبعادًا ومساحات لا يُمكن أن يُدركها القارئ القاعد أو الأكاديمي الذي أخلد بأفكاره إلى أوراقه. وبعد أن كنت أعجب من بعض ما وصل إليه هؤلاء المفكرون؛ صرت لا أعجب إلا من بلوغي نتائج متقاربة متشابهة، وإن اختلفت الحال وتغيَّر الزمان والمكان. لكني ربما نجحت في لحظات ما، علمها الله؛ أن أتقاطع بقلبي مع قلوب أساتذتي، فأدركت بعضًا مما أدركوا.