اقرئي لجلال أمين…

تلك كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم المفكر الكبير «جلال أمين»، فمنذ حوالي 17 عامًا قررت أن أدرس علم الاقتصاد، حينها جاء ترشيح أسرتي له «اقرئي لجلال أمين»، وعلى مدار 17 عامًا لم أكف عن قراءة أحرفه، ومشاهدة لقاءاته، وانتظار تعقيباته.

يغلبني شعور بالفخر عند سماع أو قراءة جملة «الاقتصادي د.جلال أمين» وكأنه من عصبتي الصميمة، فأنا أيضًا أُدعى اقتصادية، بالطبع ليس كمثله ولكن من عصبته. غير أن المتمرس في القراءات الاقتصادية سوف يدرك بأقل مجهود أن جلال أمين يختلف كثيرًا في تناوله للموضوعات الاقتصادية عن أغلب الاقتصاديين العرب، ينفرد جلال أمين بمسار مختلف عن الاقتصاديين منذ أن أمسك بالقلم.


الباحث المتفرد

ينفرد الإنتاج الفكري والإبداعي لدكتور جلال أمين بسمات لم يشهدها مجال البحث الاقتصادي العربي إلا من خلاله؛ أولها هو الربط العميق بين الاقتصاد وغيره من العلوم الإنسانية. إن القارئ لكتب ومقالات جلال أمين سوف يجد أنه يبحث داخل كل ما هو غير اقتصادي عن الاقتصاد، وداخل كل ما هو اقتصادي عن الإنسان.

على سبيل المثال، عند تتبعه للتغير الثقافي الذي تعرضت له الطبقات الثلاثة في مصر، والتغييرات التي شابت اللغة، بحث ذلك وربطه بالاقتصاد الكلي للدولة، وبتوزيع الدخول، وأنماط العمل، واقتصاديات التعليم عبر فترة البحث. كذلك عند تناوله لتحول السياسة الاقتصادية لمصر عبر القرن العشرين، قام بقياس أثر السياسات الاقتصادية المختلفة على التغييرات التي شهدها المجتمع المصري.

وقد أبرز ذلك الربط العميق بين الاقتصاد والاجتماع والتاريخ واللغة والثقافة والفن والسياسة لمصر من خلال سلسلة كتب، يمكن اعتبارها منفصلة –متصلة، ففي حين يشرح كل كتاب حقبة زمنية، تبدو الكتب متصلة في سلسلة واحدة، وهي «ماذا حدث للمصريين» و«عصر الجماهير الغفيرة» و«مصر والمصريون في عهد مبارك»، ويشرح فيه كيف وصلت مصر إلى حالة «الدولة الرخوة»، حتى أنه ربط بين الاقتصاد والإملاءات السياسية الأمريكية وبين اتجاه مصر لتوظيف نمط بعينه من الإداريين في الوظائف السياسية، وتناول بعمق الظاهرة التي كانت مرصودة بشدة حينها وهي تزاوج المال بالسلطة.

ويمكننا بالطبع إضافة كتابه «ماذا حدث للثورة المصرية»، والذي جعل من ثورة يناير/كانون الثاني 2011 ختامًا حسنًا لتأويله لمائة عام تقريبًا من حياة المصريين بكل نواحيها، واختتمه بفصل «دواعي الأمل»، الذي لا يدعو فقط للتفاؤل بالمستقبل، بل يعكس غبطة الكاتب بالثورة وجيلها.


الثائر على موروثات الاقتصاد

في تناوله للموضوعات الاقتصادية طبقًا للتصنيف الأكاديمي، تميز جلال أمين بتخلصه تمامًا من الجفاف الأكاديمي في التناول، ومن الغوص في أرقام ومؤشرات في ذاتها، بل يذهب إلى ما وراءها، وإلى معادلة تكوينها. لم يأخذ جلال أمين بمسلمات خلقتها مؤسسات اقتصادية دولية بعينها، ولا نظريات كلاسيكية مفروضة ومورثة.

على سبيل المثال، كان يرى جلال أمين أن مؤشر متوسط دخل الفرد مؤشر مُضلل لا يمكن القياس عليه، فعلى حد وصفه ما فائدة قسمة الدخل الإجمالي على عدد السكان، لنخرج بالرقم المتوسط لشخص لا وجود له، في حين أن عدالة توزيع الدخول غائبة.

هاجم جلال أمين الاتجاه النظري الذي دأب على جعل علم الاقتصاد علمًا رياضيًأ كالعلوم الطبيعية، ودفع بأنه علم إنساني، حيث تخضع التفاعلات الاقتصادية لعوامل إنسانية عدة.

وقد بلور جهوده في نقد، بل وهدم موروثات علم الاقتصاد، في كتابه «فلسفة علم الاقتصاد» والذي قدم فيه انتقاداته لنظريات الإنتاج والاستهلاك والأثمان والسكان والملكية الخاصة والناتج القومي والعمالة وتوزيع الدخل والتنمية الاقتصادية.

يبرز جلال أمين في هذا الكتاب انتقادات عدة لأسس في النظريات الاقتصادية، ويبدأ بناءه من وقوفه على «التحيزات داخل علم الاقتصاد» إذ يشير إلى أن نشأة علم الاقتصاد، وصياغة النظرية الكلاسيكية وما تلاها قد أتى ملونًا بتحيز الاقتصاديين للطبقة المتملكة لرأس المال، وللثورة الصناعية، وقد انتهت تلك النظريات إلى تقديم الفواعل الاقتصاديين في صور انتهازية حيث يسعى كل فاعل إلى تعظيم منفعته الخاصة حتى إن كانت على حساب المصلحة العامة، كما صورت التفاعلات الاقتصادية ثابتة النتائج وكأنها مواد كيميائية، أو أنها تتحرك بصورة ميكانيكية ثابتة، فعزلتها عن المؤثرات الاجتماعية والسياسية والتي حتمًا تؤثر على القرارات والمنافع في علم الاقتصاد.

بحث أمين في كنف علم الاقتصاد عن الإنسان، والقيم الملتصقة به، فكان كتابه «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية»، والذي يضطلع فيه بكشف التحيزات الأيديولوجية لمروجي نظريات التنمية والتخلف خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تؤسس لتوزيع الثروات في العالم طبقًا لتوزيع توازنات القوى في النظام السياسي الدولي، ويشير فيه إلى تحيز المنظمات الدولية المروجة لتلك النظريات. في هذا الكتاب هو يرى من زاوية مواطن من العالم الثالث.

ربما تكون التنمية الاقتصادية هي أكبر الموضوعات التي اهتم المفكر الكبير بالكتابة عنها خلال الأعوام الأخيرة، فظل شغوفًا بتحليلها والتعرض لإشكالياتها والبحث دائمًا عن منفعة الإنسان لا تطور الأرقام. ويقول في مقال له بعنوان «مستقبل التنمية في مصر» بجريدة الشروق عام 2014، خلاصة رؤيته للوصل إلى التنمية، حيث كتب:


كاتب «جيل الثورة»

الحلول الصحيحة لمشاكل التنمية ليست مجهولة، ولا هي صعبة التنفيذ من الناحية الفنية. العقبة الأساسية أمام التنمية الاقتصادية تكمن في خارج ميدان الاقتصاد، وهي أن أصحاب المصلحة الحقيقية في تحقيق التنمية ليس بيدهم السلطة، وأن الذين بيدهم السلطة ليست لديهم مصلحة في تحقيق التنمية.

سمات أخرى هي الأبرز، وربما كانت صاحبة اليد العليا في انتشار كتابات جلال أمين ألا وهي «السهولة» و«الإتاحة». فكان أمين قادرًا على تقديم أفكار وتحليلات سهلة وعميقة ومختصرة، في أقل عدد من الصفحات، وكذلك متاحة في مكتبات عدة بأسعار زهيدة، رغم ارتفاع أسعار الكتب والترجمات في الآونة الأخيرة في دور النشر الكبرى. علاوة على توفر مقالاته بشكل دوري على المواقع الإلكترونية، مقترنة بتعقيبه وتحليله لعدة أحداث.

اتسم إنتاج جلال أمين، واهتمامه البحثي بالنطاق الواسع، فمع تناوله المفصل والدقيق لمصر كدولة ومجتمع وحراك اجتماعي، اتجه إلى تحليل أوسع لما يدور في إقليمها العربي وكيف يؤثر عليها، وكيف يتأثر بالعالم، وبدا في كتاباته بشدة انتماؤه للهوية العربية، ففي كل ما كتبه كان يبحث عن مصلحة العربية وحلول قضاياها. ومن كتب في هذا الصدد «عولمة القهر» و«خرافة التقدم والتخلف» و«عصر التشهير بالعرب والمسلمين» و«المثقفون العرب وإسرائيل» و«العرب ونكبة الكويت».

وبشكل أشمل يبدو من كتاباته مدى شغفه بالمطالعة والقراءة وبالثقافة، فأفرد كتابًا لاستعراض أبرز الكتب بالمكتبة العربية، وكذلك كتابًا للشخصيات ذات البصمة في عالم الفكر، وهما: «كتب لها تاريخ» و«شخصيات لها تاريخ».

وكان من اللافت جدًا لي ولكثير من قرائه وتلاميذه كيف أن جلال أمين لم يتقلد منصبًا حكوميًا طول حياته، بالرغم من شهرته وكفاءته كمفكر واقتصادي كبير. وربما تكون هذه النقطة ذاتها هي عامل في اتساع شعبيته وشهرته وارتباط القراء بإنتاجه الفكري، فكان جلال أمين حقًا رجل الفكر لا المناصب، المنحاز للمواطن لا للتقييم الوظيفي من الدولة.

لأعوام طويلة كنت أستقبل أفكار ورؤى جلال أمين، حتى كنت أشعر بألفة وسند عند قراءاتي أو سماعي لتحليل منه حول الأحداث الجارية يتفق مع أفكاري، حتى أنني وبعد خلع مبارك كنت أنتظر تعقيبه على الثورة متسائلة: «ترى ماذا سيقول عن تغيير دعت إليه أفكاره؟ وحراك جيل قد نشأ على كتبه؟» وكأنه بمثابة «النجمة» التي يرسمها المعلم لتلميذه في دفتر الإجابة.

لذلك فإن قراءة خبر رحيله تشير إلى غياب القلم الأحمر للمعلم عن دفتري ودفاتر الكثيرين من الاقتصاديين الشباب ومن القراء من جيلي تحديدًا.

قد أمر الله لهذا العقل بالراحة الأبدية بعد أن وهب بكل إنسانية ومحبة ونزاهة ما ماج به من أفكار ورؤى وقيم، وله دعوات منا؛ دعوات دائمة بالرحمة والمغفرة وبشكر بالغ على عظم ما أعطانا.