هناك رسالتان مهمتان في هذه الأغنية: الأولى أن علينا ألا ننسى أبدًا مأساة شعبنا، يجب أن نذكر بها أطفالنا، ليصبحوا قادرين على منع مثل هذه الأشياء في المستقبل، والثانية أنه عندما نخطط للمستقبل، علينا أن نتذكر جذورنا، ومن أين أتينا، إذا كنت حقًا تحترم عائلتك وثقافتك وتاريخك، ستتعلم كيفية احترام الثقافات الأخرى. هذه طريقتنا لجعل العالم مكانًا أفضل.

بهذه الكلمات علّقت المغنية «جمالا» على سبب اختيارها لأغنية «1944» التي فازت بها في مسابقة «يوروفيچين» الغنائية لعام 2016، في دورتها الحادية والستين، في العاصمة السويدية «ستوكهولم»، ممثلّة لـ «أوكرانيا»، ومتفوقة في المرحلة النهائية على منافسها الأسترالي الذي حل في المركز الثاني، والروسي الذي حل في المركز الثالث.الأوكرانية جمالا، واسمها الحقيقي «سوزانا جمال الدين»، ولدت في «قرغيزستان» من أب تتاري وأم أرمينية، عبّرت في أغنيتها عن مأساة أجدادها السكان الأصليين لـ«شبه جزيرة القرم» الذين هُجروا منها قسرًا في عام 1944م بأمر من الديكتاتور السوفياتي «چوزيف ستالين».المسابقة الغنائية «يوروﭬيچن» هي أضخم حدث غنائي في أوروبا، وتُعقد منذ عام 1956م، وينظمها «اتحاد الإذاعات الأوروبية» سنويًا، ويُختار المشاركون من خلال المؤسسات الإعلامية الرسمية الممثلة للدول.تقول جمالا في أغنيتها:

عندما يأتي الأغراب إلى منزلك

يقتلونكم جميعًا

ويقولون لسنا مذنبين

أين عقولكم؟

الإنسانية تصرخ

تظنون أنكم آلهة

لكن الجميع يموتون

لا تبتلعوا أرواحنا

لم أستطع قضاء شبابي هناك

لأنكم سلبتموني سلامي

لم أجد وطني!

شاهد الأغنية، مترجمة للعربية:

أزمات القرم، تسلسل زمني:

شبه جزيرة القرم (اللون البرتقالي)

تقع شبه جزيرة القرم جنوب «أوكرانيا»، واكتسبت أهميتها الاستراتيحية من إحاطتها بمياه «البحر الأسود» من الجنوب والغرب، و«بحر أزوﭫ» المتفرع منه من الشرق. تأسست القرم على أيدي أحفاد الزعيم المغولي «چنكير خان»، ويستوطنها منذ القرون الوسطى قبائل تتارية مسلمة من أصول تركية، وعاش التتاريون في ظل الإمبراطورية العثمانية 300 سنة ابتداءً من سنة 1478م.بدأت أزمات القرم منذ عام 1783م بعد إخضاعها لروسيا القيصرية، وظلت محل صراع بين الطامحين للسيطرة على البحر الأسود، لتشتد وطأة المأساة عندما غزاها النازيون في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1941م، لتبلغ الأمور ذروتها بعد استعادتها من قبل روسيا الاتحادية في 1944م.

انتهاكات متتابعة ضد السكان الأصليين للقرم من روسيا القيصرية مرورًا بالاتحاد السوفياتي وصولًا إلى روسيا الاتحادية.

في 18 مايو/أيار 1944 أمر الديكتاتور السوفياتي «چوزيف ستالين» بتهجير كل سكان القرم، بذريعة خيانتهم وتعاطفهم مع النازيين. دخل عشرات الآلاف من الجنود للقرم وحاصروا المنازل، ومنحوا السكان 15 دقيقة لتجميع ما خف من أغراضهم والخروج للشوارع، والرفض أو البطء في الحركة يعني الإعدام الفوري بالرصاص.

كان كل السكان من النساء والأطفال والشيوخ، حيث كان الشباب منخرطين في صفوف جيش «ستالين»، الأمر الذي سهل مهمة الروس، وضاعف أعداد الضحايا. نُقل السكان بشاحنات إلى محطة القطار، ثم شُحنوا في عربات المواشي المغلقة، وكُدّسوا بأعداد مهولة، لتصبح دول «وسط آسيا» الوجهة الأخيرة لمنفاهم. بلغ عدد المهجّرين 200 ألف، مات نصفهم في الطريق للمنفى، جوعًا أو مرضًا، واستوطن الروس معظم منازل التتار.لم تتوقف عملية الإبادة هنا، فقرية «آرابات» الساحلية المطلة على بحر أزوﭫ، لم يشملها قرار التهجير في المرة الأولى، وفي 19 يوليو/تموز 1944م، شُحن كل سكان القرية على قارب قديم، وأُغرقوا في منتصف البحر.في 1954م أعلن الاتحاد السوفياتي نقل تبعية القرم من روسيا إلى أوكرانيا، أما في 1989م فحدثت انفراجة جزئية مؤقتة تحت حكم الزعيم السوفياتي الأخير «ميخائيل غورباتشوﭫ» الذي اعترف بجريمة الإبادة والتهجير، ومنح التتار حق العودة للقرم، لكنهم عادوا ليجدوا جُلّ منازلهم مسكونة من الروس، فسُكّن معظمهم في مساكن لجوء جماعية.بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991م، أعاد تتار القرم تنظيم صفوفهم بعد أن عادوا بأعداد كبيرة، ورغم قوة موقفهم رفضوا المطالبة بتهجير المستوطنين الروس من منازلهم، وطالبوا الحكومة بتوفير منازل لهم، فمطالت واتبّعت سياسة هدم المنازل البدائية التي شرعوا ببنائها كبديل.وبعد الثورة الأوكرانية وإطاحة الرئيس «فيكتور يانوكوفيتش»، ضُمت القرم إلى روسيا بعد استفتاء في 16 مارس/آزار 2014، وتبلغ نسبة التتار في القرم أثناء الاستفتاء 10.6% من عدد السكان، وفق التقديرات الرسمية. بعد الاستفتاء أُجبر الجميع على حمل جوازات السفر الروسية، وإلا فالتضييق والإقالة من الوظائف، وبدأت مرحلة قاسية من القمع والاغتيالات السياسية في القرم لا زالت مستمرة إلى اليوم.في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2015م اعترف البرلمان الأوكراني بمأساة تتار القرم في 1944م على أنها «إبادة جماعية»، وخصص 18 مايو/أيار من كل عام مناسبة لإحياء الذكرى.

مأساة القرم على الشاشات:

من أفضل الأعمال السينمائية التي جسّدت المأساة وأدقها، فيلم «HAYTARMA» (العودة)، باللغة التتارية الأوكرانية:

ومن أفضل الأفلام الوثائقية فيلم «Coming back» (النسخة العربية:العودة للديار) من إنتاج شبكة الجزيرة:

أما «جمالا» فاستطاعت بمزيج صوتي بين الإنكليزية والتتارية، ومؤثرات بصرية تبرز مشاعر الألم، وأداءٍ حركي يعكس الخلفية الثقافية غير المألوفة في أوروبا الحديثة، وكلمات غير مباشرة لم تُشر فيها صراحة إلى روسيا، أن تستعرض قضيتها العادلة أمام الملايين حول العالم دون أن تُستبعد من المسابقة التي تحظر السياسة على المشاركين.أغضبت أغنية جمالا المستوى الرسمي الروسي والشعبي أيضًا، للدرجة التي تصرح فيها الحكومة الروسية برفض نتائج المسابقة بدعوى انتهاك أوروبا لشروطها، كما هددت الحكومة بمقاطعة الدورة المقبلة منها، التي ستضيّفها أوكرانيا.