الذهول يلف العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، مع انتشار الخبر الصادم. زاغت أبصار الكثيرين، وظنوا بعقولهم الظنون، لعجزها عن استيعاب ما فعله سلطان مصر أقوى حكام المسلمين، والذي ساهم أبوه مع عمه العظيم في تتويج قرنٍ من العرق والتضحيات، بتحرير القدس عام ٥٨٣هـ = ١١٨٧م، قبل الصفقة المشئومة بـ ٤٠ عامًا.يريد الصليبيون منذ سنين احتلال مصر أو تركيعَها، ليستطيعوا احتلال القدس، فسلمَّهم سلطان مصرَ القدس صُلحًا. لم يخفف غيظَ الجميع بعض الشروط التجميلية التي تضمَّنتْها الصفقة، كالتزام الصليبيين بعدم تحصين القدس، وإبقاء المسجد الأقصى للمسلمين. ولم يُشكّل فارقًا لدى الكثيرين كون الملك فريدريك الثاني غير المتعصب هو ممثل الصليبيين في الاتفاقية. فالقدس في كل الأحوال ستسمِّم أجواءَها أعلام الصليبيين، الذين جعل أجدادُهم دماءَ المسلمين فيها للرُّكَب قبل أكثر من قرنٍ من الزمان.فكيف دارت الأيام، من لحظة تحرير صلاح الدين للقدس، إلى تسليم الكامل ابن أخيه لها في صفقة؟


فتِّش عن التوريث والاستبداد

وكان قد قسَّم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات.
ابن كثير

لكل جوادٍ كبوة، وغالبًا ما تتناسب مع عظمة الجواد. تمثّلت هذه الحقيقة بشكل صارخ في البطل صلاح الدين الأيوبي. توفي الرجل ٥٨٩ هـ = ١١٩٣م بعد أن توَّجَ جهاد الزنكيين وغيرهم على مدار عشرات السنين، بالحفاظ على الوحدة الصعبة بين مصر والشام، ثم قطف الثمرة الأسمى، بتحرير القدس، وأجزاءٍ واسعة من السواحل الشامية التي بقيت محتلَّةً قرنًا من الزمان، بعد أن هزم جيوش الصليبيين المتحدة بالضربة القاضية في حطين ٥٨٣ هـ = ١١٨٧م، على مشهد من بحيرة طبرية.. والتاريخ.

تصدى صلاح الدين للحملة الصليبية الثالثة، التي قادَها أشرس ملوك أوروبا الصليبية لاستعادة القدس. وبعد ٣ سنوات من الحرب، خاضتها الجيوش الإسلامية المنهكة بشجاعة، عقد الأيوبي مع قائد الحملة ريتشارد ملك إنجلترا صلح الرملة ٥٨٨ هـ = ١١٩٢م، والذي وإن استعاد به الصليبيون بعض خسائرهم في موجة التحرير، فإنه حافظ على القدس وأغلب المناطق المحررة.

جاءت الطامة بوفاة البطل، في غياب آليةٍ للاختيار الشورِيّ العادل لمن يخلفه. فتوريثُ كسرى وقيصر، والتغلب بالسلاح، قد صادرا روح الإسلام في انتقال السلطة منذ عهد معاوية، قبل أكثر من ٥ قرون. انفصَمَت عُرَى السلطنة الأيوبية الممتدة من حدود العراق شرقًا إلى حدود تونس غربًا، ومن جنوب الأناضول شمالًا إلى اليمن جنوبًا، مرورًا بمصر والحجاز ومعظم الشام، وتقاسم أجزاءَها أبناءُ صلاح الدين وأخوه العادل. والتقطَ الوجود الصليبي بالشام أنفاسَه.لم يكد يمرُّ عام على وفاة صلاح الدين، حتى زحف ابنُهُ العزيز من مصر، لينتزع دمشق من أخيه الأفضل. نجح عمُّهما العادل في الوساطة بينهما. لم تستمر الهدنة الهشة عامًا، فتجددت الحرب، وأنهاها العادل كذلك. في العام التالي 592 هـ، اتفق العادل والعزيز ضد الأفضل لسوء سيرته في دمشق، وانتزعاها منه. تولّى العادل حكم دمشق في سلطنة ابن أخيه العزيز، ومُنح الأفضل حصنًا صغيرًا يحكمه.595هـ، توفي العزيز، فاختلف أمراء الدولة، واستدعى بعضُهم الأفضل، وبايعوه. قويَت نفس الأفضل، فتآمر مع أخيه الظاهر صاحب حلب، لينتزعا دمشق من عمهما العادل أثناء غيابه. لكنه أسرع إليها وحصَّنها. كاد العادل يُسلِّم لشدة الحصار، لولا نجدة ابنه الكامل له بجيوش من شمال الشام، فانهار خصومُه. تحول العادل للهجوم، وانتزع القاهرة 596 هـ بالتعاون مع بعض أمرائها. تسلطَن العادل، وبويع لابنه الكامل – صاحب صفقة القدس فيما بعد – وليًّا لعهده.

استقرت الأمور للعادل سلطانًا للقاهرة ودمشق، وكان حازمًا مدبِّرًا، لكن لم يكن له كثيرَ جهادٍ ضد الصليبيين.عام 597 هـ و 607 هـ تآمر عليه ابنا أخيه الأفضل والظاهر، وحاولا في الثانية الاستعانة بملكيْ الروم وجورجيا النصرانييْن ، لكن باءت محاولاتُهُما بالفشل.


مصر في مرمى الصليبيين

أثبتت تجربة مواجهة الصليبيين لدولة إسلامية قوية، جناحاها القاهرة ودمشق، أنها كارثة وجودية عليهم، فتيقَّنوا ألا أمل لهم في مستعمرات الشام، وفي استعادة القدس، ما لم يُبتر أحد الجناحيْن. وهكذا توجَّهَت الحملة الصليبية الخامسة إلى مصر، حيثُ القاهرة عاصمة الشرق الفعلية، ومجتمع الجيوش الإسلامية.توفي العادل 615هـ، بينما ولي عهده الكامل مرابطٌ قرب دمياط للتصدي لجيوش الصليبيين، الذينَ استغلُّوا نقصَ استعداد المسلمين، واحتلوا دمياط، وارتكبوا الفواجع بحق أهلها. تأخرت إمدادات الشام لخلافاتٍ بين الكامل وإخوته أمراء الشام. حاول الكامل التفاوض مع الصليبيين على تسليم القدس وما فتحه عمه صلاح الدين، مقابل جلائهم عن دمياط ! لم تتم الصفقة لرفض القساوسة بالحملة التصالح مع الكفار.استمرت الحرب زهاء 3 سنوات. عام 618 هـ تكامل وصول الدعم الشامي. طلب الصليبيون الجلاء دون شرط بعد عدة هزائم، ولعجزِ إمداداتهم نتيجة نشاط الأسطول المصري، بجانب فيضان النيل الذي أغرق أراضيهم. وهكذا ظلَّت القدس بحوزة المسلمين إلى حين. انشغل الكامل في السنوات التالية بخلافات النفوذ مع إخوته وأبناء إخوته أمراء الشام وما حوله. ولم يحاول أحدهم بجدية مواجهة السرطان الصليبي بسواحل الشام. حتى أن حاكم دمشق – المعظّم وهو أخو الكامل – لما بلغه نية الصليبيين مهاجمة القدس، أمر بهدم سورها لكيلا يتحصن بها الصليبيون، ففر سكانها مذعورين.

فريدريك الثاني يحكم القدس دون بذل قطرة دم

كان لنشأة الملك الألماني فريديك الثاني في صقلية، حيث تعايش المسلمون والمسيحيون سنينَ طويلة، أثرٌ بارز في تسامحه الديني. تنقل بعض المصادر شغفَه بعلوم المسلمين وحضارتهم، وإتقانه لعدةٍ لغات منها العربية. كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي يحكمها في وسط أوروبا من أقوى الممالك آنذاك، وتُعْتَبرُ الذراع الدنيوي للبابوية.كانت أوروبا تغلي لهزيمة دمياط قبل سنوات، فألزم البابا الملكَ فريديك بقيادة حملة صليبية (السادسة) لانتزاع القدس. تلكَّأ فريدريك لانشغاله بالتوسع في أوروبا، ولعلاقته الجيدة بالمسلمين وبسلطانِ مصر الكامل. عاقبه البابا بالحرمان الكنسي، فجهَّزَ الحملة، ووصل إلى الساحل الشامي المحتل.تراسل فريديك والكامل، وذكره فريدريك بأنه كاد أثناء حملة دمياط يسلم للصليبيين ما فتحه صلاح الدين مقابل الجلاء، فلا أقل من أن يسلم صديقه فريدريك القدس، ليحفظ ماء وجهه أمام البابا! طالت المفاوضات شهورًا، تخلَّلها تلويح فريدريك بالحرب تارة، واستمالة الكامل بالهدايا والاستعطاف تارة. أخيرًا تم صلح يافا 626 هـ = 1229 م، واتفق فيه الرجلان على السلم 10 سنوات، وسُلِّمَت القدس وبيت لحم وجوارُهما لفريدريك، على أن يتركَ المسجد الأقصى والريف للمسلمين، وألا يقوم بتحصين القدس.تفرَّغ الكامل بعدها لحرب ابن أخيه الناصر داوود، فانتزع منه دمشق، وأعطاه الكرك. وهكذا توحدَّت القاهرة ودمشق مجددًا، لكن على حساب القدس، بعد أن توحدتا من أجل تحريرها قبل 50 عامًا أيام الناصر صلاح الدين. فما أقربَ الزمنيْن، وما أبعدَهما!

استعادة القدس، ومعركة غزة … القاهرة تغسل عارَها

الصليبيون, القدس, شارع المعز, الصالح أيوب, شجرة الدر, القاهرة
القبة المدفون بها الصالح نجم الدين أيوب بشارع المعز، وسط القاهرة.

توفي الكامل عام 635 هـ. وتفرَّقت المملكة الأيوبية أكثر فأكثر، فبويعَ بالقاهرة لابنه الصغير العادل سيف الدين، وبدمشق لابن أخيه الملك الجواد. كان الابن الأكبر للكامل الصالح نجم الدين أيوب – زوج بالغة الصيت شجر الدر – حاكمًا على حصن كيفا جنوبي تركيا. وكان رجل حربٍ وسياسة، بعكس أخيه العادل ضعيف الشخصية، والذي شاع فسقه ومجونه. قرَّر الصالح أيوب بدء حملة عسكرية ليفرضَ نفسَه سلطانًا. كان بحوزةِ الصالح سلاحان خطيران بجانب قوة شخصيته؛ أولُّهما، دهاء أم ولده شجر الدر وإخلاصها، وثانيهُما، الفرسان الذين كان يجلبهم من أسواق الرقيق صغارًا، ليصنعوا على عينه، ولا يعرفون ولاءً لسواه. سيشكل هؤلاء تاريخ الأمة في القرون القادمة، وسيعرفون لاحقًا بالمماليك.لم تكن رحلة الصالح للقاهرة مفروشةً بالورود. فبعد استيلائه على دمشق 636 ه ـ، غدر به عمه الصالح إسماعيل وانتزعها منه، وأسَرَ ابنَه المغيث حاكمها. ونجح ابن عمه الناصر داوود في خداعه، واعتقله 7 أشهر. في ذلك الحين، أرسل بعض أمراء مصر وأعيانها سرًّا إلى الصالح أيوب يطلبونه ملكًا عليهم بدل أخيهِ الفاسق. وافق داوود على إطلاق الصالح مقابل أن يتقاسم معه المملكة. وافق الصالح مكرَها.دخل الصالح القاهرة 637 هـ فاحتفى به أهلها وأمراؤها، واعتقَل أخاه. ولما تمكَّن أغلظَ للناصر داوود، وأطلقه صاغرًا إلى إمارته بالكرك. أخذ أيوب يستعد لحرب عمه الصالح إسماعيل، والذي سارع لعقد اتفاقٍ مع الصليبيين لحرب ابن أخيه! وسلمَّهم بعض القلاع والمدن مقابل هذا، وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح من أسواقها. حينها هاجمه الإمام العز بن عبد السلام – سلطان العلماء -، فاعتقله، ونفاه إلى مصرَ، فأحسن أيوب استقباله. سيكون لهذا العالم العامل أدوارٌ خطيرة في مواجهة مصر للصليبيين والتتار في السنوات العشرين القادمة. وفي هذه الأثناء انتهت مدة صلح يافا الذي سُلمَت القدس بناءً عليه.حاول أيوب التصالح مع عمه إسماعيل مقابل إطلاق ابنه من الأسر، فرفض واستمرَّ على محالفة الصليبيين. قرر الصالح الخروج بجيشه لانتزاع الشام، وراسل فرسان الخوارزمية المرتزقة، الذين تفرقوا في البلاد إثر سحق جنكيز خان لدولتهم، لينضموا إلى حملته ضد دمشق. اندفع الخوارزمية كالسيل عام 642 هـ من شمال الشام إلى جنوبه دون رادعٍ لهم، حتى كبسوا الصليبيين في القدس، فذبحوهم جميعًا. وهكذا تحرَّرت القدس بعد 16 عامًا من تسليمها.اتجه الخوارزمية إلى غزة لينضموا إلى جيوش الصالح التي وصلت للتوّ من القاهرة. وصباح 12 جمادي الأول 642 هـ = 17 أكتوبر/ تشرين الثاني 1244 م تندلع معركة غزة / لا فوربييه التي لم تشهد مثلها المنطقة منذ حطين، بين قوات الصالح أيوب من جانب، وقوات تحالف الصليبيين وأمراء الشام بقيادة عمه الصالح إسماعيل، وابن عمه الناصر داود. مُني الحلف الشامي – الصليبي بهزيمة مروعة، ثبتَّت الوضع في القدس، التي ستظل بحوزة المسلمين 700 عام تالية. تمكَّن الصالح أيوب في الشهور التالية من انتزاع دمشق وغيرها من أعمال الشام المهمة. ستدوي أخبار هذه الهزيمة المنكرة في أوروبا، لتدق طبول الحملة الصليبية السابعة، وتصل سواحل دمياط بعد 5 سنوات بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. ولهذه قصة أخرى. لكن لن يحولَ هذا دون نهاية الوجود الصليبي بالشام بعد أقل من نصف قرن من معركة غزة.فما أعجب أن تضيعَ القدس باتفاقٍ رخيص، وتُستعادَ بسيوف مرتزقة!