على الرغم من أن إرث العداء المتبادل بين اليهود والمسلمين كبير جدًّا، ويضرب بجذوره التاريخية إلى عهد البعثة النبوية الشريفة، فإن التاريخ يخبرنا بفترات شهدت حالة من حالات التعايش النموذجية والراقية بين اليهود والمسلمين في ظل حضارة وثقافة إسلامية عرفت تسامحًا حقيقيًّا وتمازجًا ثقافيًّا كاملًا، وهو التعايش الذي بات مفقودًا في وقتنا الحالي لأسباب عدة، من أهمها زرع كيان إسرائيل الغاصب كدولة مصطنعة لليهود على أرض فلسطين الإسلامية العربية المحتلة، وارتكاب المجازر البشعة فيها والسيطرة عنوة على المقدسات الإسلامية بها.

وقد شهدت إحدى الحقب التاريخية في العصر الوسيط في حواضر إسلامية عديدة، لاسيما في الأندلس ومصر والمغرب والعراق واليمن، حالة تعايش كاملة بين المسلمين واليهود، في ظل حضارة إسلامية مزدهرة تعطي العلم مكانته الحقة، وتحفظ لأهل الكتاب، لاسيما اليهود منهم، جميع حقوقهم الدينية والاجتماعية والإنسانية انطلاقًا من قيم دينية إسلامية سمحة، لدرجة أن الكتابات التاريخية اليهودية نفسها أطلقت على هذه الحقبة التاريخة فترة (תור הזהב) أي العصر الذهبي لليهود وللثقافة اليهودية، لما شهده وضع اليهود واليهودية تحت ظل الحضارة الإسلامية من رقي وازدهار وتقدم وتسامح.

كان أهم نتائج هذه الحالة من التعايش بين المسلمين واليهود وتمازجهم الثقافي هو ظهور لغات، وُصفت بـ«الخليطية» متأثرة بالثقافتين الإسلامية العربية واليهودية العبرانية، وهي اللغات التي لعبت دورًا مهمًا كـوسيط في نقل الثقافة الغربية اللاتينية إلى الشرق الإسلامي العربي، ومن ثم نقل الثقافة الإسلامية العربية إلى الغرب فيما بعد، والتي كان من أهما ما عُرفت باللغة «العربية- اليهودية».


ما هي اللغة العربية – اليهودية؟

هي لغة عربية لكنها لبست حلة الحرف العبري وكُتبت به، وسُجل بها الكثير من الكتابات الفلسفية والطبية في القرون الوسطى في ظل الحضارة الإسلامية، لاسيما في مدن طليطلة وغرناطة في الأندلس، وبغداد في العراق، كما أنها ظلت لغة حديث يهود البلدان الإسلامية لفترة طويلة منذ العصر الوسيط وحتى بدايات العصر الحديث.

في بداية ظهور هذه اللغة أو تطويرها على أيدي، يهود العصر الوسيط، كانت تستخدم لغرض ديني بحت، إذ كُتبت بها الكثير من الكتابات الدينية والأشعار الدينية اليهودية في هذه الفترة، كي يفهمها اليهود الذين يعيشون في ظل حضارة إسلامية لغتها الأساسية هي العربية، ونظرًا لأن اليهود كجماعات وظيفية سيطرت عليها «ظاهرة الشتات» على مر تاريخها؛ فقد لجأت لتطوير لغات تمزج بين العبرية التي هي اللغة الثقافية والدينية الأولى لليهود وبين لغات أخرى للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، مثل اللادينو واليديش، وهي لغات تخلط بين العبرية وبين بعض اللغات الأوروبية السلافية.

بالنسبة للغة العربية – اليهودية فقد اختلفت عن الكثير من اللغات الخليطية اليهودية في أنها كانت لغة «حديث» ولم تكن لغة كتابة وفقط، نظرًا لحالة التقبل والتعايش التي كان يحظى بها اليهود في أوساط الشعوب الإسلامية التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها، بفضل سماحة الإسلام وقبوله الآخر.


العربية اليهودية كوسيط ثقافي

تصفها المصادر التاريخية اليهودية بأنها كانت اللغة الأكثر استخدامًا وانتشارًا بين اليهود في فترة العصر الوسيط، لدرجة أنهم اعتبروها قد حلت محل «الآرامية» في تاريخ اللغات التي استخدمها اليهود على مر تاريخهم، نظرًا لانتشارها بينهم؛ ولأنهم كتبوا بها معظم إنتاجهم الأدبي والعلمي خلال العصر الوسيط.

استخدمت العربية اليهودية كأدة لغوية في التواصل بين الثقافتين العربية والغربية، ففي البداية استخدم أعضاء الجماعات اليهودية هذه اللغة وترجموا إليها معارف الإغريق وعلومهم، لاسيما في مجالي الفلسفة والطب، وقد فسر المختصون اهتمام اليهود بترجمة هذين العلمين تحديدًا بأنهما كانا أهم علمين خلال هذه الحقبة التاريخية، فالطب علاج الجسد والفلسفة علاج للنفس والفكر.

وقد عكس استخدام العربية اليهودية للعب هذا الدور الوسيط بين الثقافتين العربية والغربية تبني أعضاء الجماعات اليهودية، لاسيما في الأندلس، للفكر العربي الإسلامي والسير وراءه خطوة بخطوة، حتى ازدهرت حركة علمية ثقافية يهودية كبيرة في ظل الثقافة العربية الإسلامية وتحت رعايتها، ومن أبرز روادها من اليهود «سعديا جاؤون» و«سليمان بن جبيرول»، وهما من كبار علماء اليهود في هذه المرحلة.

وكان ملحوظًا أن اللغة العربية
اليهودية ساعدت في حدوث حالة من «الالتقاء» بين الفكرين العربي الإسلامي والمسيحي الغربي، وكان اللقاء من طليطلة تحديدًا في الأندلس، ثم تزايد التواصل الحضاري بسبب الحملات الصليبية المتكررة على الشرق العربي الإسلامي، وكانت الخطوة الأولى في هذه المرحلة هي البحث عن علوم الطب وترجمتها، ومن ثم الفلسفة.

واحتلت «طليطلة» مركزًا قويًّا ومهمًا من بين المراكز الثقافية الأندلسية، وذلك بسبب دورها المتميز في عملية التواصل الحضاري بين الشرق والغرب من خلال اليهود واللغة العربية – اليهودية، نظرًا لأن طليطلة بعد احتلالها من قبل الملك القشتالي «ألفوانسو السادس» في العام 1085م أصبحت عاصمة الثقافة، كما ظل حكامها يحمون اليهود والعرب الذين اختاروا البقاء والاستقرار؛ لذلك بقي النسيج الحضاري للمدينة عربيًّا – عبريًّا.

امتدت هذه الحقبة التاريخية في الفترة الممتدة بين القرنين 12 و16 الميلاديين، وكان عدد المترجمين اليهود بها الذين استخدموا العربية اليهودية في نقل العلوم والمعارف كبيرًا جدًّا، بل إن هناك عائلات يهودية بأكملها اختصت بدور الترجمة الوسيطية هذه، وكان من بينها عائلتا «تبون وقمحي» اليهوديتان.

يُلحظ أن الفليسوف المسلم ابن رشد كان أحد أهم محاور اهتمام اليهود للترجمة في هذه الفترة، فقد تُرجمت كل أعماله من العربية إلى العبرية وإلى العربية – اليهودية، ومن ثم إلى اللاتينية، لدرجة أن بعض الباحثين يرى أن كتب ابن رشد احتلت لدى اليهود في هذه المرحلة المرتبة الثانية لديهم بعد التوراة، ودل على ذلك كثرة النسخ العبرية المترجمة لأعمال ابن رشد في الفلسفة وفي الطب، في حين أن أصولها العربية لم تعد موجودة، وفيما يبدو أن ذلك عائد لحرقها على أيدي بعض الحكام المسلمين.

كان من المترجمين اليهود لأعمال ابن رشد في هذه المرحلة «يعقوب مانتيو» و«إبراهام باول»، ويمكن القول إن العبرية واليهودية – العربية لعبتا دورًا مهمًا وكبيرًا في هذه الفترة في نقل المعرفة العلمية والفلسفية الإسلامية إلى الثقافة الغربية المسيحية، بل إن العبرية واليهودية – العربية، كانتا بمثابة الناقل للفكر اليهودي المتأثر والمشبع بالفكر العربي الإسلامي إلى الغرب، ومن أبرز الأدلة على ذلك وجود ترجمات لكتب عبرية وعربية يهودية لكبار المفكرين والفلاسفة اليهود في هذه الفترة إلى اللاتينية، بل إن بعض الكتب تُرْجِمَت في مرحلة مبكرة إلى اللغة الفرنسية، ومنها كتاب «الحدود والمراسيم» لإسحاق إسرائيل القيرواني، وكتاب «מקור החײם» أو «معين الحياة» لسليمان بن جبيرول، و«دلالة الحائرين» لابن ميميون، وكتاب «أوليات الحكمة» لأبراهام بن عزرا.