اقرأ التاريخ، وفتش عن الضحية، وستجد اليهود في دور البطولة!

حُرموا من زواج المسيحيات، وأُجبروا على وضع شارة تميزهم على أنهم يهود… فُصلوا من وظائفهم، وأجبروا على العمل كعبيد لبعض العائلات المسيحية… لم يتوقف الاضطهاد عند ذلك فحسب، بل وصل إلى حد الرجم أحياء… هكذا كان حال اليهود الإسبان تحت حكم «القوط» في أيبيريا (إسبانيا والبرتغال حاليًا) خاصة عندما تحولوا عن مذهبهم المسيحي الآريوسي، واعتنقوا الكاثوليكية عام 589م.

ظل القمع والاضطهاد يلاحقان اليهود لدرجة لم يستطيعوا الصمود أمامها؛ مما دفعهم للفرار إلى الصحراء الكبرى والتمركز في مدن شمال الصحراء كـولاية «غرداية» الجزائرية.

لم تكن تلك المرة الوحيدة التي عاش فيها اليهود دور الضحية، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تعرضوا فيها إلى الاضطهاد والقمع والنفي والتهجير. فقد صاحبهم طوال تاريخهم عثرات وتقلبات لطالما دفعت بهم نحو النزوح والشتات. فكانت هجرات اليهود إلى شمال أفريقيا مدفوعة بضغط الحوادث التي لحقت بهم في الشرق الأدنى وأوروبا. والتي ظلت مستمرة طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلاديًا.

بيد أن قصة اليهود ذاتها مع الجزائر يرجع تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، حين مارس اليهود التجارة مع المستعمرات الفينيقية على سواحل شمال أفريقيا، واتخذوا من تلك السواحل موطنًا للاستقرار. إذ كانت كل السبل والأبواب حينها مُفتحة أمامهم، ومثّلت الجزائر بالنسبة لهم آنذاك مفترق طرق الحضارات ومحطة تجارية رائجة آمنة نسبيًا.[1]

فظل اليهود على مدى قرون عديدة ينهلون من خير الجزائر، ويعيشون في سلام وسط أهلها، إلى أن قرروا الرحيل بمحض إرادتهم مع الاحتلال الفرنسي الغاصب عام 1962.


سر الارتباط الروحي بين اليهود والجزائر

كلمة السر تتلخص في مدينة «تلمسان» الواقعة على الحدود الجزائرية – المغربية، والتي كانت بمثابة «قدسًا» لهم في الجزائر. فاحتضنت المدينة ضمن أحيائها حي «درب اليهود» الذي عاش فيه اليهود عدة قرون. وفي الجهة الشرقية منها وتحديدًا في حي قباسة، يوجد هناك معبد يهودي ذو سور عال به بستان، أغصانه ممتدة إلى الخارج ومتدلية من فوق أسواره العالية التي يتوسطها باب كبير. وبجوار المعبد تقع مقبرة يهودية، الفاصل بينها وبينه باب من حديد مرسوم عليه نجمتا داود.

على تلك المقابر دُونت أسماء المدفونين فيها باللغة العبرية، وبجوارها عين ماء يعتقد اليهود أنها مقدسة. أبرز ما يميز تلك المقبرة هو قبر الحاخام إفراييم بن كاوا، إذ كان أحد أهم الحاخامات اليهود، والذي فر هاربًا من إسبانيا وبرفقته عدد من اليهود بعد أن خيّرته محاكم التفتيش المسيحية آنذاك بين اعتناق المسيحية أو القتل. هرب إلى الجزائر بعد أن حُرق والده حيًا. وكثرت الأساطير والحكايات حول الطريقة التي دخل بها الجزائر، فيُحكى أن الحاخام:

ركب سفينة بعد هروبه من السجن، ثم تركها وامتطى أسدًا كان في انتظاره، مستعينًا بـ«حية» كلجام.

لكن المصادر التاريخية تؤكد أن حاكم تلمسان السلطان لكحل أحمد المنصور هو من منح الحاخام حي درب اليهود الذي سكنت فيه الجالية اليهودية المشردة كمكافأة له لنجاحه في علاج ابنته، التي مرضت بمرض عجز الأطباء عن علاجه. عاش إفراييم في تلك المدينة ودفن فيها عام 1442م.

خلّدته أنشطته حتى بات قبره قبلة للحجاج اليهود من كل بقاع الأرض على مدى قرون، وقدسًا لليهود في شمال أفريقيا، منذ أن نُفض الغبار عن تلك اللوحة الحجرية الموجودة عليه وتمت ترجمتها للمرة الأولى عام 1881 أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر. ومنذ ذلك الحين، لا تزال السلطات الجزائرية تحرص على أن تبقى تلك المقبرة تحت رعاية رسمية، كونها منطقة تاريخية وجزءًا لا يتجزأ من تاريخ مدينة تلمسان، التي تعايش أهلها مع مختلف الوافدين بتنوع دياناتهم وعاداتهم.


قصة الخيانة والابتزاز

عقود من الأمان والسلام عاشها اليهود على أرض الجزائر مع المسلمين، لكنهم أبوا إلا أن يخونوا، فتناسوا كيف كان حالهم حين فروا من الاضطهاد الذي أحاطهم من كل مكان. فبعد اتصالات سرية قام بها بعض اليهود مع فرنسا، مهّدوا الطريق أمام الجيش الفرنسي الذي كان على مشارف مدينة باب الوادي وباب الجديد. وعند اقتحام الجيش الفرنسي للجزائر، ترك أغلب اليهود المدينة خوفًا على حياتهم ولجؤوا للجبال، بينما كان يخوض المسلمون المعركة.

وحين انتصر الفرنسيون، استقبلهم اليهود مهللين بأعلى صوتهم، فكروا حينها أين المصلحة ومع من ستكون، فانحازوا للفرنسيين واشتغلوا لديهم بالجوسسة والتقاط الأخبار عن الأهالي المسلمين، وذلك بشهادة الوثائق التاريخية، وهو ما لم يشكك فيه أي من التاريخيين. ومنذ اليوم الأول عينت القيادة العسكرية اليهودي سيرور حفيد الحاخام سيمون بن سماح رئيسًا للمترجمين غير الفرنسيين.

حولت فرنسا المنطقة المغاربية إلى مستعمرة لمدة 130 عامًا، انسلخ خلالها اليهود عن هويتهم، وحصلوا على فرص وامتيازات واسعة كمكافأة على خيانتهم. فكانت النسبة المئوية لليهود في المهن الجزائرية في تلك الفترة كبيرة جدًا بدرجة لا تتناسب مع عددهم الفعلي. وتولى اليهود بعض المسئوليات الحساسة لدى سلطات الاحتلال، وكان أوائل الفائزين بتلك المسئوليات؛ شخصيات يهودية مشهورة كــيعقوب بكري ومردخاي عمر وبوشناق.

وقد نشأت فكرة تجنيس اليهود بعد أن ضُمت الجزائر إلى الأراضي الفرنسية في عهد الجمهورية الثانية، إذ أصدر إسحاق كريميو، وزير العدل الفرنسي آنذاك، في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1870 مرسومًا حصل بمقتضاه يهود الجزائر على الجنسية الفرنسية. كما فُتحت أبواب سلك القضاء على مصراعيه أمامهم، وأصبح لهم الحق في ممارسة النشاط السياسي، فبات لأصواتهم دور كبير في العديد من الدوائر الانتخابية. علاوة على ذلك شهدت الأسواق الجزائرية نشاطات كثيفة من قبل اليهود، حتى أنهم احتكروا الكثير منها وأصبحت بعض الأحياء قواعد تجارية خالصة لهم من دون منافس.[2]

لم يكتفوا بذلك، بل استغل اليهود نفوذهم الجديد لدى سلطات الاحتلال والفوضى التي خيمت على الجزائر، ليبتزوا العامة ويستولوا على أملاكهم، فجردوا أغلب الأثرياء من ثرواتهم وممتلكاتهم بالتحايل والتهديد والوعيد أحيانًا، وبالقوة في أحيان كثيرة، كما لعبوا دورًا رئيسيًا في عملية اختلاس وسرقة كنوز القصبة.[3]


تبدل الأحوال رأسًا على عقب

بعد مرور سبعين عامًا، جاء الاحتلال الألماني لفرنسا وقلب الأمور رأسًا. فمنذ عام 1940، وقعت الجزائر تحت رعاية حكومة فيشي الموالية للنازية، والمعروفة بتعاونها الوثيق معهم. وعلى إثر ذلك، ألغت حكومة فيشي الفرنسية نظام كريميو، ومن ثَمَّ فقد يهود الجزائر المواطنة الفرنسية.

كانت تلك بمثابة البداية لحملة نزع الشرعية عن المجتمع اليهودي في الجزائر. فسرعان ما طُرد الطلاب اليهود من الجامعات والمدارس الحكومية، وطردوا من وظائفهم كأطباء ومحامين ومعلمين ومسئولين. شارك اليهود في عملية المشعل (وهي حملة عسكرية قامت بها جيوش الحلفاء لدخول منطقة شمال أفريقيا الفرنسية) في محاولة منهم لتحسين أوضاعهم، ظنًا أنهم بمساعدة الحلفاء على دخول الجزائر ستُحلّ جميع مشاكلهم.

بدأت تلك الحملة في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1942 واستمرت لمدة ثلاثة أيام، تمكنت خلالها القوات الأمريكية والبريطانية بقيادة الجينرال الأمريكي دوايت د. أيزنهاور من إنزال ثلاثة من قوات العملية بالقرب من الدار البيضاء على الساحل الأطلسي المغربي، وبالقرب من مدينة وهران الواقعة غرب الجزائر.

لم يغير هبوط الحلفاء في شمال أفريقيا من الأمر شيئًا، ولم تتحسن ظروفهم، إذ لم يكن لدى الإدارة الفرنسية أدنى استعداد لمخالفة التدابير المعادية للسامية من قبل النظام الفيشي. لذا اتجه يهود شمال أفريقيا إلى الرأي العام مستعينين بالمنظمات اليهودية الموجودة في الولايات المتحدة والصحف الأمريكية.

ازداد الضغط من أجل الإلغاء الكلي والفوري لجميع القوانين التمييزية التي قضى بها نظام فيشي، والإفراج عن السجناء الذين عارضوا وخالفوا تلك القوانين. وبالرغم من نجاحهم في إلغاء القوانين التمييزية التي قضى بها نظام فيشي وتمكنهم من إعادة مرسوم كريميو في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1943، فإن كافة اليهود في شمال أفريقيا لا الجزائر فحسب، عانوا خلال الحرب العالمية الثانية من تمييز قانوني وسياسي وظلم اقتصادي، بلغ أحيانًا مبلغ السخرة والسجن والإضرار المادي المباشر. حتى أن الاحتلال الألماني في الفترة الوجيزة التي وقعت فيها شمال أفريقيا تحت إمرته، قاموا بترحيل اليهود إلى مراكز الاعتقال والقتل في أوروبا. وظل حي الدرب بمدينة وهران غربي الجزائر محتضنًا لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبات معقل ما تبقى منهم بعد استقلال الجزائر عام 1962.


هل اليهود غير مرغوب بهم حقًا؟

يحيا الفرنسيون
Vive les francais!

بالرغم من حالة التعايش والمؤاخاة التي لقاها اليهود من أهل الجزائر، فإن الأحداث والمتغيرات الإقليمية، فضلاً عن تاريخهم في الجزائر من خيانة وتنكر وابتزاز، أسهمت في خلق نوع من الكراهية لدى الشعب الجزائري تجاههم.

بدا ذلك عندما صدر قرار من وزير الشئون الدينية والأوقاف بالجزائر في 4 يوليو/تموز 2014، يقضي بإعادة فتح المعابد اليهودية التي أغلقت في التسعينيات، إذ أثار القرار حملة انتقادات واسعة، وخرجت مظاهرات كبيرة من قبل التيارات الإسلامية منددة به.

كذلك حين سمحت السلطات الجزائرية للوفود اليهودية الأوروبية بزيارة المواقع التاريخية والدينية لليهود، والحج إلى قبر إفراييم بن كاوا من جديد عام 2005 للمرة الأولى منذ الاستقلال بطلب من فرنسا،خرج سكان مدينة تلمسان في مسيرات حاشدة مستنكرين تكرار تلك الطقوس مجددًا/ وهددوا بحرق ما تبقى من أملاك اليهود في المدينة، حتى كانت تلك الزيارة العلنية الأولى والأخيرة منذ ذلك الحين.

عاد الحديث عما يمثله اليهود بالنسبة للجزائر والجزائريين بعد الفيلم الوثائقي الذي قدمته قناة جزائرية خاصة تحت عنوان «يهود الجزائر» في 28 مارس/آذار 2018. إذ أثيرت ضجة داخل الأوساط الإعلامية والثقافية الجزائرية ومواقع التواصل الاجتماعي حول حقيقة أهدافه ومدى صحة المعلومات الواردة فيه.

فقد قدم الفيلم محطات من تاريخ الوجود اليهودي بالجزائر، وآثارهم وطقوسهم وعاداتهم في محافظات منها، أدرار ووهران وتلمسان وقسنطينة والعاصمة الجزائر. كما أبرز الوثائقي طقوس العبادة والأماكن التي تعبدوا فيها، والقصور التي سكنوها في أدرار، وخصوصًا في منطقة «تمنطيط»، فضلاً عن بعض الشهادات من أناس يهود وآخرين عايشوهم بشكل يُظهر للعيان أن اليهود أشخاص يستحقون التعاطف وهو ما أثار حفيظة الجزائريين الذين شككوا في نوايا الفيلم ومن قدمه واعتبروا ما قدم فيه تدليسًا للحقائق.

المراجع
  1. فوزي سعد الله، يهود الجزائر: هؤلاء المجهولون، مكتبة المهتدين، دار الأمة للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الثانية، 2004، ص ص 276-280.
  2. أمينة عباسي، السياسة الفرنسية تجاه يهود الجزائر(1830-1870)، رسالة ماجستير، جامعة محمد حيضر، كلية العلوم الإنسانية، 2013، ص ص 60-80.
  3. يهود الجزائر: هؤلاء المجهولون، مرجع سبق ذكره.