تميزت العصور الوسطى في العالم العربي الإسلامي بالازدهار الأدبي والعلمي والفلسفي، ولما كان اليهود يعيشون في كنف البلاد الإسلامية، ويمارسون معتقداتهم بحرية تامة، فكان لا بد من الاحتكاك بالإسلام ومعرفة معتقداته، ووصل إلى تأثر عميق في دينهم وأفكارهم الدينية اليهودية.

 لم يقتصر تأثر اليهود بالإسلام على مجال التشريع والفقه والفلسفة، بل وصل إلى تأثرهم العميق بالآيات القرآنية واقتباسهم من القرآن الكريم، بل ودراسته أيضًا.

يقول الفيلسوف اليهودي ابن كمونة (1285 م) في كتابه «تنقيح الأبحاث للملل الثلاث»:

لليهود أن يقولوا -لو خالطنا غيرنا على نحو مخالطتنا للمسلمين، لعلم ذلك من ديننا بالضرورة، وليست مخالطة المسلمين لهم مما يقتضي تحقق كل ما يحققونه، ألا ترى أن مخالطة الأقل من أهل لغة، إذا خالط الأكثر من أهل لغة أخرى تعلم الأقل لغة الأكثر….

دراسة اليهود للقرآن

وثقت أوراق الجنيزا قصة اعتبرها الباحثون من المراحل الأولى التي اطلع بها أهل الذمة من اليهود والمسيحيين، على القرآن الكريم، فيذكر لنا الأستاذ «مَان جاكوب» وهو أستاذ متخصص في الجنيزا في كتابه «The Jews in Egypt and in Palestine under the Fatimid caliphs»، أن صاحب المصرف اليهودي المصري المعروف باسم «أبي المُنجَّى سلومون بن شَعيَا»، نسخ القرآن كاملًا حينما كان في السجن وأرسله إلى السوق ووقع عليه «كتبه أبو المُنجىَّ اليهودي»، وحينما سُئل لماذا فعل هذا، قال إنه أراد أن يتحرر من سجنه الذي حُكم عليه به بالموت، فكان عقوبة التحرر منه هو نسخ القرآن كاملًا، فأخلى سبيله الوالي الأيوبي «الملك الأفضل» (1094 – 1121 م).

لا يوجد أدنى شك بأن اليهود والمسيحيين كانوا على معرفة جيدة بالأدب العربي الديني الإسلامي، وتأثروا به بعمق وتوجد شهادة أدبية على هذا التأثير، وربما اشتق جزء من هذه الشهادة ببساطة من اللهجة الشائعة في العربية في العصور الوسطى.

فاليهود استخدموا عادة اللغة العربية التي احتوت غالبًا -بقصد أو من دون قصد- على اصطلاحات قرآنية وعبارات من الحديث النبوي وذلك في حديثهم وكتابتهم، وأيضًا في تمائمهم وطلاسمهم.

وأفضل مثال على ذلك الآية القرآنية «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»[1]، التي استخدمت بعد ذلك في نطاق أوسع في اللغة، فأصبحت «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، التي تكررت في كتابات اليهود كثيرًا، فنجد أن الكاتب الأندلسي «بحيا بن فاقودة» كان مولعًا بتلك العبارة، ولقد ربطها بالأمر التوراتي «أنذر جارك»[2]، ونجد أيضًا التعبير القرآني «كمثل الحمار يحمل أسفارًا»[3]، استخدمها «بحيا» لكي يصف المعايير العشرة الدُنيا لدارسي التوراة[4].

اعتاد اليهود الذين يتكلمون العربية استخدام المصطلح العربي «قرآن» للدلالة على التوراة، ونجد ذلك في الوثيقة الثالثة (Cambridge T-S.Ar. 18(1) 23)، وسورة التوحيد للدلالة على الجزء الأول من صلاة الشِمع، التي تبدأ بـ”اسمع يا إسرائيل”، ونجد ذلك في وثيقة الجنيزا (Cambridge T-S.Misc 28.71).

وعديد من اليهود الفلاسفة كانوا على معرفة كبيرة بالقرآن الكريم واقتبسوا من القرآن بإسهاب مثل: «يهودا بن قريش»، و«موسى بن عزرا»، و«نثنائيل الفيومي»، وآخرين اقتبسوا منه بأسلوب غير مباشر مثل: «موسى بن ميمون»، ولقد كان الفيلسوف اليهودي العقلاني «ابن كمونة» على معرفة واسعة بالقرآن وبالقراءات المختلفة وأيضًا بالعقيدة الإسلامية عامة[5].

يذكر لنا البروفيسور «يهودا ليبيس» أستاذ التصوف اليهودي في الجامعة العبرية في القدس في بحثه « The Kabbalistic Myth of Orpheus / המיתוס הקבלי שבפי אורפיאוס»، أن آيات القرآن تظهر في أماكن غير متوقعة في الأدب اليهودي – العربي، وهكذا ترجم سعديا «البقرة الحمراء» (سفر العدد 19: 2) بالبقرة الصفراء، وهو تعبير قرآني (سورة البقرة 69).

الترجمات العبرية للقرآن في العصور الوسطى

لم تكن محاولة ترجمة القرآن للغة العبرية من الأصل العربي، بل كانت الترجمات من اللاتينية والألمانية القديمة والإيطالية، وهناك ثلاث ترجمات موجودة في مكتبة «بودليان» في أوكسفورد وفي المكتبة البريطانية في لندن وفي مكتبة الكونجرس في واشنطن العاصمة، كما هو موضح في كتالوج « Catalogue of Hebrew mss.at the Bodleian library»، كُتب بواسطة الباحث «أدلوف نيوباور».

لاحظ بروفسور والمستشرق الألماني «شولومو دوف جوستين» أن أول ترجمتين متطابقتين مع النص الأصلي للقرآن[6]، وتشمل إحداهما على الترجمة العبرية للقرآن من الترجمة الإيطالية، التي تمت بدورها من ترجمة لاتينية أقدم، وتُرجمت بواسطة «يعقوب بن إسرائيل اللاوي» في فينسيا عام 1547م[7].

وتشمل هذه الترجمة على 124 سورة بدلًا من 114 سورة، متبعين في ذلك «ر.كيتون» (الذي يعد من أوائل من ترجم القرآن من العربية إلى اللاتينية) وآخرون، فقسموا في ترجمتهم اللاتينية للقرآن سورة البقرة إلى عديد من السور الصغيرة، وناقش «ماريون فاينشتاين» إشكاليات هذه الترجمات، في دراسة مفصلة ومهمة أيضًا بالنسبة لتاريخ اليهود في إيران في القرن التاسع عشر «A Hebrew Qur’ān Manuscript».

أما الترجمة العبرية الثالثة فهي موجودة في مكتبة الكونجرس في واشنطن، وهي مترجمة من اللغة الألمانية على يد «دافيد كوهين» في «كوخين» عام 1772م.

لم تتوقف المحاولات عند ترجمة القرآن للعبرية على يد حاخامات اليهود والفلاسفة، بل حدث أيضًا نقلًا للقرآن بحروف عبرية، أي نقل صوتي للقرآن بالعربية، ولكن بحروف عبرية، ومعظمها متأخر، عديد منها موجود في وثائق الجنيزا التي من الصعب تأريخها، وتشمل سورة الفاتحة وبداية سورة البقرة، ونجدها في مخطوطة « Cambridge (T-S Ar.51.62)».

ذكر «شتاينشنايدر» وهو مؤرخ يهودي ألماني، أن ثلاثًا من النسخ التي تم نقلها نقلًا صوتيًا، وتوجد في مخطوطة في مكتبة الفاتيكان، ووضح أن تلك النسخ صعبة الفهم والقراءة، وغير دقيقة[8]، ووصف المستشرق الألماني «رويديجير» مخطوطة «DMS ms. Arab5 (Halle)»، بأنها من أكثر المخطوطات غرابة، وذلك عام 1860م[9].

علق «شتاينشنايدر» بأن النقل الصوتي إلى الحروف العبرية لم يكن مستغربًا؛ حيث بدأ النقل في «كريميا/ أوكرانيا» على يد الفرقة القرائية، فكتابتها اليدوية لم تكن سلسلة واللغة العربية غير دقيقة، وبها بعض التغير الصوتي، وأما المخطوطة الثالثة (Bodl.Hunt. 529) فهي تمثل النقل الصوتي الكامل الوحيد للقرآن، كما أنها غير دقيقة للغاية، وكتابتها اليدوية سهلة ويمكن قراءتها وبها بعض التغير الصوتي العبري والعربي والنبر التوراتي[10].

من جانبها، أوضحت المستشرقة الإسرائيلية «حافا لازاروس يافيه» في كتابها «الإسلام ونقد العهد القديم في العصر الوسيط»، أنه وفقًا لأستاذ «م. بيث. أريه» من الجامعة العبرية في القدس، فإن المخطوطة الثالثة كتبت إما في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر، وعلى أي حال قبل عام 1600م، وكتبت في الشرق ربما في العراق أو إيران، ولاحظ «شتاينشنايدر» أنه على الرغم من أن الكتابة اليدوية في هذه المخطوطة هي بالقطع يهودية، فإنه وجد ثلاثة صُلبان في البداية (على ما يبدو في النهاية السفلى من الصفحة الثانية)، وربما أضيفت مؤخرًا على يد شخص ما.

تمت ترجمات حديثة للقرآن من العربية على يد «هيرمان .ريكينيدورف» في منتصف القرن التاسع عشر، ونشرت الحركة الأحمدية الإسلامية عام 1998م، ترجمة ييدشية (اليدشية هي لغة مزيج من العبرية والألمانية والهولندية، كان يهود أوروبا يتحدثون بها) لآيات مختارة من الأصل العربي[11].

مخطوطة «بودليان»

اشتملت أيضًا نسخة بودليان سالفة الذكر، على صلاة إسلامية عربية لكن بحروف عبرية في نهاية (النسخة)، واقتباس يبدو أنه شعر عربي شيعي بحروف عربية على هامش الصفحة 172، فالمخطوطة 200 صفحة مزدوجة طويلة، وعلى صفحاتها الأولى هناك رسومات لزوجين من شمعدانات أو كؤوس.

في الجانب الأيسر لنفس الصفحة هناك خطان بهما تعليمات عن كيفية القراءة، ويبدأ النقل الصوتي على الصفحة التالية مع سورة الفاتحة كاملة ومع بداية سورة البقرة، ولكن من دون أي عنوانين، أي من دون أسماء للسور، وفي الصفحة الثانية هناك زهور مزخرفة لا تظهر في مكان آخر في المخطوطة.

على الجانب الأيسر هناك صلبان صغيرة، وفي نهاية المخطوطة على هامش صفحة 199، الصلاة الإسلامية العربية سابقة الذكر المكتوبة بحروف عبرية، ومتلفظ بها صوتيًا في خليط من العبرية والعربية، فهي تبدأ «بصدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم»، ثم يعتذر عن أي خطأ وقع في تلاوة القرآن ويسأل الله النصر على الكافرين.

تنتهي المخطوطة بقائمة محتويات مفصلة تحتوي على أسماء السور كلها والصفحات وجوانب الصفحات التي تبدأ بها، وكما تم ترقيم الأجزاء القرآنية في الهامش وبعض التقسيمات الأخرى المتكررة، مثل: تكرار عدد كل عشر آيات كما لو كانت من أجل الدراسة أو أغراض الترتيل الدينية وأحيانًا أضيفت كلمات عربية تشير إلى وقت الصلاة، مثل فجر أو عشاء، كما وضح ذلك «ماريون فاينشتين» في كتابه «A Hebrew Qur’ān manuscript».

وفي هامش سورة ق الآيات 28 إلى 38، هناك خطان بحروف عربية بهما شعر في حب علي -رضى الله عنه- والتي تَقي من الخلود في النار (وهذا تأثر شيعي أيضًا)، وتمدنا الملاحظة العبرية في صفحة 112 ويبدو أنها تقص سورة الأنبياء الآية 85، وتذكر «ذا الكفل» مع إسماعيل وإدريس وذلك بين الصالحين (الأنبياء).

تقول المخطوطة: «لقد رأيت هذه الآية المكتوبة عند مدخل قبر حزقيال (البركة واصلة إلى الحروف الأولى من الاسم في كل من العبرية والعربية)، ولقد عرف الكتاب المسلمون النبي الغامض ذا الكفل بأنه حزقيال، وأحد الأماكن التي يقولون إن قبره فيها هي منطقة شيعية بجنوب العراق، بين كربلاء والنجف، وهذه المقبرة قدسها اليهود[12].

ويذكر «فاينشتاين» ملاحظات أكثر إثارة وهي الملاحظات العبرية (الملاحظات التي بالعربية – اليهودية نادرة جدًا كما وجدَ في صفحة 41)، فهي تروي محتوى الآيات القرآنية والمبعثرة على مر الكتاب، لكنها على ما يبدو مركزة في السور الطوال، ولقد وصف أدولف نيوبور بعدم الدقة في فهرسة هذه الملاحظات بأنها ترجمات عبرية لبعض الجمل القرآنية و”إشارات متوافقة مع التوراة والأجاداه».

لخصت بالفعل هذه الملاحظات مادة قرآنية موجودة في التوراة، لكنها ليست ترجمات، كما أنها لا تحتوي على إشارة واضحة للمصادر العبرية، فنجد في الصفحة 3 ملاحظة عن سورة البقرة الآية 30، « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، فهى تخص الفقرة التالية من سفر التكوين (2: 20) «دَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ».

وإضافة إلى الملاحظات المتوافقة بين القرآن والتوراة، هناك بعض الملاحظات الهامشية القليلة المعادية للمسلمين، التي ربما وضعها شخص آخر.

المراجع
  1. [1] سورة آل عمران، 104.
  2. [2] سفر اللاويين، (19: 17).
  3. [3] سورة الجمعة، 5.
  4. [4] كتاب فرائض القلوب، بن فاقودة، ص: 144.
  5. [5] الإسلام ونقد العهد القديم في العصر الوسيط، حافا لازاورس يافيه، ص: 185.
  6. [6] دائرة المعارف اليهودية، مادة قرآن، المحرر «سي. د. جوستين»، ترجمت من الألمانية.
  7. [7] المرجع السابق، مادة «لاوي».
  8. [8] Hebräische bibliographie polemische und apologetische, steinschneider, b: 113.
  9. [9] Mittheilungen zur Handschriftenkunde. (Aus Briefen an jüngere Fachgenossen), E. Rödiger, b: 485 – 486.
  10. [10] verzeichnis der orientalischen handschriften in deutschland, E.Roth, b: 110.
  11. [11] آيات مختارة من القرآن الكريم في لغة الييدش، منشورات الإسلام العالمية المحددة، إسلام أباد 1988م.
  12. [12] Studies in the history of the Iraq Jewry and their culture, S.D. Goitein, p: 20.