تبقى الكتابة عن اليهود الذين عاشوا في مصر خلال القرن العشرين هدفًا رئيسيًا لدى الكثير من المهتمين بالتاريخ الاجتماعي، خصوصًا في النصف الأول من القرن الذي يرتاح البعض لوصفه بـ«المرحلة الليبرالية» المزدهرة فكريًا وتعدديًا من كل الجوانب، وأصفه بإحدى المراحل المهمة لتأسيس العقل المصري، بنبوغه وتطلعه إلى تأسيس دولة مستقلة قوية، مرورًا حتى بانحرافه وتعصبه الذي انتابه أحيانًا.

دكتور محمد أبو الغار كان من بين هؤلاء المجيدين المبحرين في هذا الركن تحديدًا منذ كتابه المهم والمؤسِّس «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» والذي نشر طبعته الأولى في دار «الهلال» سنة 2004، وحتى كتابه الرائع الأقرب للموسوعية «يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟» الصادر حديثًا عن دار «الشروق»، والذي ينطبق عنوانه تمامًا على ما تناوله أبو الغار بين دفتيه.

أزمة المصدر

يصطدم الباحث في فترة وجود اليهود في مصر -ومنهم بكل تأكيد دكتور أبو الغار- بحائط فولاذي منيع، بقدر استحسانه «مجتمعيًا» قدر استهجانه «بحثيًا»، لأن المصادر المفتوحة التي تؤرِّخ لتلك الفترة (كتب التاريخ والمذكرات المكتوبة حينها، والصحف والمجلات) لم تكن تفصل بين يهودي ومسلم ومسيحي، على اعتبار أن المجتمع المصري كان يستوعب الجميع بكل فئاته الدينية، وهي ميزة مجتمعية بالطبع يقابلها عيبٌ في عدم الاستيعاب الواضح والصريح للطبقات اقتصاديًا، وهو العيب الذي شكّل أحد العناصر الأساسية التي اندلعت من أجلها ثورة يوليو 1952.

وما نقصده بالاستهجان البحثي هو أنه لا كتب بعينها مثلت «جيتو» تأريخي لليهود في تلك الفترة، باستثناء إصدارهم لبعض المجلات والدوريات الخاصة بهم، وهي التي قابلها مجلات قبطية وإسلامية بالطبع، إضافة إلى محاضر جلسات اجتماعات الطائفة اليهودية، على اعتبار أنهم كانوا الأقل عددًا في المجتمع.

هنا الاصطدام بما أطلق عليه أبو الغار نفسه «أزمة المصدر» التي لم يخجل الكاتب -وهو الباحث الكبير عن تاريخ اليهود في مصر- في التصريح بها، لا سيما بعد رحيل أغلب الذين عاشوا في تلك الفترة كمصادر حية يستطيع الباحث الاستعانة بها، وكذلك قصة اندلاع الصراع العربي – الإسرائيلي، والتي جعلت الاقتراب من اليهود في المجتمع المصري (والعربي بشكل عام) وكأنها من المحرمات. أضف إلى ذلك أن اليهود أنفسهم ليسوا طائفة واحدة متجانسة، تستطيع الكتابة عنهم وكأنهم شيء واحد، ولكنهم مجموعة من الطوائف، وبينهم اختلافات كبيرة جدًا. فقط توحدهم الديانة، ولكن تفرقهم المعاملات والمعتقدات.

«أزمة المصدر» التي عانى منها أبو الغار في كتابه حاول التغلب عليها في الفترة من 2004 (وقت إصدار كتابه الأول عن اليهود المصريين) وحتى 2021 (وقت إصدار كتابه الجديد)، ذلك بالاستعانة بمئات الكتب والمراجع والدراسات التي صدرت عن اليهود في مصر، خصوصًا تلك التي كتبها/ أو رواها/ أو كانت تدور حول المصريين اليهود الذين هاجروا مع الهجرات المتتالية، والتي كان أكبرها بعد عدوان 1956 الثلاثي، والذي اشتركت فيه إسرائيل إلى جوار فرنسا وبريطانيا، ردًا على تأميم مصر لقناة السويس، كأهم ممر ملاحي في العالم، ونقل تبعيته وإدارته للحكومة المصرية.

وهنا أيضًا أزمة أخرى في غاية الأهمية، وهي الطريقة والمنهج المكتوب به تلك المصادر، والمحشوة باتجاهات وتوجهات سياسية وعقائدية، وهي أزمة تحتاج إلى عقل واعٍ وقارئ مثقف لا يرتاح إلى وجهة نظر واحدة، بل يذهب هنا وهناك، ويلجأ لكل الوسائل المتاحة لاستخراج المعلومات من دون توجهات، وهي عملية شاقة تشبه استخراج اللؤلؤ من محار البحار.

اليهود ومصر

لم ينشغل أبو الغار كثيرًا بالكتابة عن تاريخ العلاقة التاريخية التأسيسية بين اليهود ومصر، ربما في سطور قليلة للغاية، ذكر فيها الأهمية الكبرى لمصر عند اليهود، إذ لاحظ أن كلمة «مصر» مهمة لليهود، خصوصًا في طقوسهم الدينية المعتادة، والأناشيد التي يتلونها في الاحتفالات التي تقام في البيوت أو المعابد، ويذكر أن إدموند جايبس، الفيلسوف والشاعر والأديب اليهودي المصري، كتب يقول: «إن مصر هو اسمها بالعربية، ولكن اسمها بالعبرية مصرايم، وهو يعني بالعبرية مصر مرتين أو عدة مرات»، وهي جملة تدل على الأهمية الكبيرة لمصر عند اليهود.

مصر هي التي لجأ إليها النبي يوسف -عليه السلام- ابن يعقوب (إسرائيل) النبي ذو الشأن الكبير لدى اليهود، وعاش بها سنين عمره ورخائه. مصر هي وطن النبي موسى -عليه السلام- رسول الديانة السماوية الأولى، والذي أجبر على الفرار منها بمعجزة شق البحر هربًا من فرعونها. هي البلد (الحضارة) التي استطاعت أن تستوعب اليهود في معظم هجراتهم هربًا من بطش حضارات العراق وفارس على مر التاريخ القديم.

أما التاريخ الحديث فيوثق وجود اليهود في مصر بدءًا من القرن السادس قبل الميلاد، وانتشارهم في مناطق «منف والفيوم ودهشور وأخميم وطيبة وجزيرة الفانتين في أسوان». وبعد دخول المسلمين إلى مصر، مرَّ اليهود بفترات ازدهار وانحسار حسب الدولة الإسلامية الحاكمة، فالبداية كانت فرارًا بسبب الجزية، ثم تحسنت الأحوال قليلاً في عهد الدولة الفاطمية الإسماعيلية، حتى أن بعضهم تولى مناصب كبيرة في الدولة كوزراء وقضاة، ومارسوا التجارة بحرية كبيرة وكذلك معظم المهن الحيوية، وقيل إن أعدادهم في تلك الفترة وصلت إلى نحو 25 ألف يهودي، حتى جاء الأيوبيون ومن بعدهم المماليك، فكانت أشد الفترات قساوة على اليهود، حتى أنه قيل إن تعدادهم وصل إلى 500 يهودي فقط!

الطوائف اليهودية

عودة أبو الغار المستمرة لفكرة الاختلاف بين طوائف اليهود في أجزاء كثيرة من الكتاب كانت مثمرة للغاية، مرسخة للفوارق بين تلك الطوائف، ومؤكدة أنه من الخطأ التعامل مع اليهود كفئة واحدة. إذ قسّم أبو الغار، اليهود في مصر، إلى مجموعة من التقسيمات، أهمها التقسيم الديني الذي يفرق بين طائفتين كبريين: الأولى هي «اليهود الربانيون» وهي الطائفة التي يتبعها معظم اليهود في مصر وفي العالم كذلك، وهم يؤمنون بالأسفار الـ39 من «التوراة»، بالإضافة إلى «التلمود» الكتاب الذي كتبه أحبار اليهود في شؤون العقيدة والقانون والتاريخ الديني وتنظيم الحياة اليومية.

أما الطائفة الثانية فهي «اليهود القرائيون» الطائفة الأصغر عددًا والأحدث تأسيسًا، وهي التي تؤمن بالتوراة فقط دون «التلمود» باعتباره كتابًا بشريًا، وكانت تلك الطائفة تعيش في مدينة «الفسطاط»، ويعود ذكرها إلى سنوات الفتح العربي الأولى لمصر، فيقول أبو الغار إن مراد القدسي في مرجعه المهم «اليهود القرائيين في مصر» المكتوب بالإنجليزية والصادر في الولايات المتحدة الأمريكية أكد أن هناك وثيقة مختومة من عمرو بن العاص في السنة العاشرة للهجرة تأمر زعماء اليهود في مصر بعدم التدخل في شؤون تلك الطائفة.

ويبدو الفارق بين الطائفتين كفارق أهل السنة الذين يؤمنون بالقرآن والحديث، وبين القرآنيين الذين يؤمنون بالقرآن فقط. وقد قامت بين الطائفتين صراعات شديدة، واتهامات متبادلة بالهرطقة والخروج عن الدين، حتى أن موسى بن ميمون (صاحب واحد من المعابد اليهودية الشهيرة في مصر) قضى على الكثير من القرائيين، ما أدى إلى هروب كثير منهم إلى خارج مصر.

التقسيم الآخر وهو تقسيم إثني عرقي، شمل «اليهود السفارديم» وهم يشملون اليهود المصريين الأصليين الموجودين من أزمان بعيدة، والوافدين من إسبانيا والدولة العثمانية وحوض البحر المتوسط، و«اليهود الأشكناز» القادمين من أوروبا الشرقية منذ القرن الـ17 الميلادي، وقد قامت بينهم صراعات كذلك، خصوصًا في القرن الـ19، فضلاً عن أن الحكومة المصرية نفسها رفضت وجود طائفة باسم «الأشكناز».

حارة اليهود

يفرد أبو الغار جزءًا رائعًا في كتابه لـ«حارة اليهود» باعتباره المكان الذي حافظ حتى الآن على اسمه. و«حارة اليهود» الموجودة في حي الجمالية وبالقرب من مسجد الحسين، كان يسكنها جميع يهود مصر تقريبًا. وكانت «جيتو» حقيقيًا، إذ سكن الأغنياء اليهود بيوتًا فخمة وضخمة فيه، إلى جوار الفقراء الموجودين في الشقق الصغيرة. وكان للحي اليهودي هذا أربعة أبواب ضخمة صُممت لكي تُغلق وقت الدفاع عن الحارة.

ومع ازدياد عدد اليهود في أوقات الهجرات إلى مصر، وكذلك زحف الأقباط والمسلمين للسكن فيها، حدثت هجرة من الحارة إلى أماكن عدة، فالأثرياء ذهبوا إلى أحياء الأثرياء بجاردن سيتي والزمالك، والفقراء كانوا يهاجرون إلى الدرب الأحمر والموسكي وعابدين، وهي هجرات داخلية مختلفة تمامًا عن الهجرات الخارجية إلى إسرائيل، وإلى بلاد أخرى.

ولكن بقيت مجموعة مهمة للغاية يعملون في المجتمع كأي مصري، بل يؤسسون لاقتصاد وطني مهم.

أول مسمار لجدار اليهود في مصر

اشتهر عن اليهود طوال التاريخ أنهم متخصصون في العمل بالتجارة والاقتصاد، ولكنها لم تكن بالوضع الذي أسسوه في منتصف القرن الـ19، وخصوصًا في عالم الصرافة وإقراض الأموال تغيير العملات، وهو الوضع الذي كان تأسيسيًا للبنوك بعد ذلك. ومن بين أسماء الاقتصاديين الذين ذكرهم أبو الغار في كتابه «قطاوي، وموصيري، وسوارس، ورولو» وغيرهم.

عدد هائل من الشركات والبنوك كانت برأسمال يهودي أصحابه بعضهم مصريون في الأصل وآخرون أجانب أتوا من أوروبا وروسيا، ويُقال إنهم استغلوا القوانين المميزة للأجانب واستفادوا منها في جمع أموال طائلة، فضلاً عن مشاركة بعض أعضاء الحكومات المصرية وكبار البشاوات لهم في مشروعاتهم، وذلك حتى جاءت سنة 1947 والتي صدر فيها قانون تنظيم وتمصير الشركات والذي نصت مادته الرابعة على بطلان قرارات مجالس الإدارات إذا لم يكن تمثيل المصريين فيها 40%، وهو قانون حكومة النقراشي السعدية.

هذا القانون أدى إلى توفيق أوضاع بعض الشركات، وخروج العاملين اليهود (من غير الحاملين للجنسية المصرية) منها، وكذلك أدى إلى تصفية أعمال تلك الشركات وهروب رؤوس الأموال اليهودية غير الحاملة للجنسية المصرية كذلك. فكان هذا القانون هو أول مسمار ضرب في جدار الوجود اليهودي في مصر، أضيف إلى ذلك مسمار أقوى وأكثر تأثيرًا وهو نكبة 1948.

دراسات ومعلومات وإحصائيات

الكتاب يمتلئ بمعلومات مهمة عن أهم مدارس اليهود وكذلك أسماء أشهر العائلات وأباطرة الاقتصاد، فضلاً عن علاقات اليهود المتوغلة في الحركات السياسية المصرية، ومنها الحركة الشيوعية المصرية بكل تأكيد، إذ كان هنري كورييل أحد مؤسسي حركة «حدتو» اليسارية، إضافة إلى عدائهم الواضح والتاريخي مع حركة الإخوان المسلمين ربما منذ تظاهرات «حارة اليهود» سنة 1945 التي خرج فيها اليهود مؤيدين لوعد «بلفور»، في حين خرج أتباع حسن البنا في تظاهرة مضادة ضدها، فكان تمدد الإخوان أحد المؤثرات الأساسية لخروجهم من مصر.

هناك معلومات أيضًا حول اليهود المصريين الذين عملوا في السينما والغناء والمسرح ومنهم ليلى مراد وداوود حسني وتوجو مزراحي والأخوان فرانكل. هناك حكايات عن الذين هاجروا إلى إسرائيل وعاشوا فيها قبل حرب 1967 في حالة حزن وعزلة.

لقد أتى كتاب أبو الغاز «يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟» علميًا في معظمه، يعتمد على تحليل المعلومة ونسبها لمصادرها من دون تدخل مصبوغ فكريًا أو عقائديًا، بل أثبت أن مصر فعلاً كانت وطنًا للجميع، ولكن هناك ملحوظة غاية في الأهمية يستطيع القارئ وهي كثرة الإحصاءات حول أعداد اليهود والتي استعان بها أبو الغار من مؤلفات ودراسات سابقة، وقد تداخلت واختلفت في كل الأزمان تقريبًا بالشكل الذي يوحي بأمر من اثنين هو أن مسألة التعداد حينها لم تكن دقيقة بالقدر الكافي، وأن فكرة التعداد بدون الأساليب الحديثة تظل محض اجتهادات.

أما الأمر الثاني فهو أن الكثير من اليهود الذين عاشوا في مصر كانوا يحملون جنسيات أخرى غير المصرية. ولا أرى أن الإتيان بكل هذه التعدادات أفاد القارئ في شيء، بل أدخله في دوامة من الأرقام المختلفة والمتباينة، والتي وصلت في النهاية إلى «بضعة أشخاص جميعهم من النساء» مثلما أتى على لسان ماجدة هارون رئيسة الطائفة اليهودية في لقاءات تليفزيونية سابقة.