ازدهر في العصور الوسطى الجدل الديني بين علماء المسلمين وبين اليهود والمسيحيين، فإذا استعصى على علماء المسلمين أمور دينية لجؤوا إلى علماء الأديان الأخرى ليجادلوهم ويحاوروهم من أجل فهم هذه الأمور الدينية المختلفة.

أبرز تلك الجدليات الإسلامية اليهودية خاصة، هي هوية «عُزَيْرٌ– عِزرا»، بعدما تضاربت التفسيرات حول الآية الكريمة في سورة التوبة «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ»، الآية 30.

فعندما نقرأ أسفار العهد القديم، لن نجد ذِكرًا بأنهم اتخذوا «عزيز» ابنًا للإله، فهل القرآن أخطأ؟

من هو عِزرا؟

لعب عزرا الكاتب دورًا مهمًا في الجدال الإسلامي ضد التوراة في العصور الوسطى؛ بعد أن اتُهم بتحريف التوراة، وتفاوتت صورته بين السلبية والإيجابية، فظهرت الصورة السلبية لعزرا الكاتب، في مؤلفات ابن حزم[1]، والذي كان -على الأرجح- أول من أظهر تلك الصورة.

وضع ابن حزم أساليب ونظريات في نقد العهد القديم باعتباره مؤسس علم نقد الكتاب المقدس، وأظهر «عزرا» في نقده على أنه هو من لفق التوراة وحرفها، وعرّفه على أنه هو العزيز المذكور في القرآن.

ورغم ذلك، ظهر «العزيز» في تفسير «الطبري» للآية وتفسير «ابن كثير» بصورة إيجابية حيث قُدِّم على أنه الشخص الذي استردَّ النص التوراتي المفقود، أيام النفي البابلي.

فبعد سقوط «مملكة يهوذا» على يد نبوخذ نصر البابلي، تم إجلاء من تبقى من اليهود في بابل، وعكف عزرا على جمع أسفار العهد القديم في كتاب مكتوب، ليحفظها من الضياع مرة أخرى، ولُقب بـ”عزرا الكاتب» كونه هو مَنْ كتب التوراة، كما يوجد في أسفار العهد القديم سِفر بِاسم «عزرا».

فنجد أن الطبري (923م) أظهر «عزرا – عزيز» بصورة إيجابية مشرقة؛ حيث ورد عنه في كتابه الشهير «تاريخ الطبري» جانب من حكاية عودة اليهود إلى فلسطين، ذكر فيها، أنهم لما دخلوا الشام لم يكن معهم عهد من الله (أي كتاب مقدّس)، فالتوراة هلكت مع دمار مدينتهم، وكان العزيز من المنفيين إلى بابل، حزن بشدة ثم بعث الله له ملكًا معه التوراة، وأقام الله لهم عزيز مؤديًا لحق الله، وهو ما دفع اليهود –بعد فترة من الزمن- للقول بأن العزيز ابن الله.

في حين أن «الماوردي» الفقيه الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، ذكر في كتابه الأحكام السلطانية أن اليهود بالفعل يذكرون «عزيز» في صلاتهم اليومية[2].

وأيضًا، تسببت المقابلة بين (عزيز – عيسى) في الآية القرآنية في مناقشات إسلامية مبكرة حول نبوة «عزيز – عزرا»، على غرار عيسى -عليه السلام- الذي يعتبر نبيًا في الإسلام.

ويروي الثعالبي[3] في كتابه «عرائس المجالس»، نفس حكاية عزرا بتفاصيل أكثر لكن بناءها الرئيسي لا يختلف كثيرًا عن العناصر الأساسية التي ذكرناها سلفًا، وهي: فقدان صحف التوراة بسبب خطايا اليهود وأوقات الأزمات، وعودة التوراة الإعجازي على يد عزرا – عزيزـ والمطابقة التامة والدقيقة بين النسخة المفقودة والنسخة التي أمدهم بها عزرا، وسرور بني إسرائيل بهذا ومبالغتهم في الاعجاب بعزرا حتى أدى هذا بهم إلى عبادته.

كيف تُفهم الآية؟

عندما نعود إلى القرآن الكريم وسورة البقرة بالتحديد، سنقرأ قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه هو وحماره وطعامه، وقال ابن كثير خلال تفسيره للقرآن إن هذا الرجل هو «عزيز -عزرا»، وعندما بعثه الله ثانية بعد مئة عام كانت التوراة قد اختفت واندثرت، وكان ما زال عزرا متذكرًا للتوراة، فأحياها من جديد، فقدّسه بنو إسرائيل تأثرًا بتلك المعجزة التي جرت على يديه.

ناقش العديد من العلماء التشابه بين هذه القصة وكتاب الرؤى – رؤى عزرا (سفر عزرا في العهد القديم)[4]، والذي انتشر بشدة خلال العصور الوسطى في الترجمات العربية من اللغة اليونانية والتي تُرجمت من العبرية والسريانية والقبطية؛ حيث ظهرت فكرة النسخة المفقودة من التوراة عند الطبري في تفسيره للسورة البقرة، «ثم قال (عزيز): يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة، قالوا يا عزيز ما كنت كذابًا وكتب التوراة كلها عن ظهر قلب فأحيا لهم التوراة، فلما رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها وقابلوها بتوراة العزيز فوجودها مثلها، فقالوا ما أعطى الله له هذا إلا لإنه ابنه»، ومن هنا جاءت الآية الكريمة لتقر ما قاله بنو إسرائيل آنذاك.

ولكن نجد اختلافًا في الحكاية عند ابن الكلبي[5]، فإن بنبوخذ نصر لما غزا القدس هدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة وكان عزيز إذ ذاك غلامًا صغيرًا فاستصغره فلم يقتله، ولم يدر أنه قد قرأ التوراة، فلما مضت مئة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس، بعث الله تعالى فيهم «عزيزًا» ليجدد لهم التوراة، فأتاهم عزيز وقال: أنا عزيز فكذبوه، فكتب لهم التوراة كاملة، فقالوا: إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب رجل منا بعدما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه فعند ذلك (قالت اليهود عزيز ابن الله).

وأيضًا، في الأدب المسيحي المبكر ظهر عزرا في أدوار متعددة؛ حيث ظهر بدور كاهن وملك ونبي صانع للمعجزات وأبو العقيدة، فهو يُعرف في دوره الإيجابي باسم «زروبابل ابن بشتألتيئل» وكان ملكًا لليهود بعد عودتهم إلى القدس في العصر الفارسي[6]، أما «جوستين» في كتابه النصوص المسيحية في العصور الأولى وهو مؤرخ وفيلسوف يوناني مسيحي، يذكر في مناظرته (التخيلية) مع تريفو (تريفو هو شخصية من خيال جوستين اعتبره حاخام يهودي يعقد محاورات لمناقشة أمور الدين)، أن عزرا لم يحرف التوراة لكن اليهود قاموا بحذف فقرات توراتية تلمح بمجيء عيسى وبعض التحريفات الأخرى للأسفار المقدسة، فبهذا يكون أسقط عن عزرا الصورة السلبية التي لُصقت به.

الفهم الصحيح لتقديس عِزرا

أكد ابن كثير في تفسيره لسورة البقرة بأن آية رقم 30 من سورة التوبة لا تفهم بمفردها، ولكن تفهم من خلال سياق الآية التالية «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ» سورة التوبة الآية 31، وأيده في ذلك الطبري أيضًا.

فقد قدَّس اليهود أحبارهم (أي كما معروف لديهم حاخامات اليهود[7]) على مرِّ عصور أكثر من تقديسهم للعهد القديم، فلكي نفهم معنى العزيز ابن الله لابد أن نربط الآية بما وضحناه سلفًا، فالعزيز كما وضحنا هو من كتب لهم التوراة، وفي ذاك الوقت اتخذوه إلهًا من دون الله، لكونه صنع معجزة لا يفعلها بشري، وهو لا يضعه في مصاف الآلهة ولكنه فقط إمعان في التبجيل والتقديس.

المراجع
  1. يحتل ابن حزم مكانة هامة بين علماء المسلمين في نقد التوراة، فيختلف عن العلماء المسلمين السابقين واللاحقين له سواء مؤرخي الأديان أو المؤرخين؛ فقد سبقهم جميعًا في نقد علمي شامل للتوراة معتمدًا في المقام الأول على نصوص التوراة مدعما بها رأيه في إثبات «التناقض والتحريف والتبديل».
  2. الأحكام السلطانية، الماوردي.
  3. الثعالبي: أبي منصور الثعالبي النيسابوري، أديب عربي فصيح ولُغوي، عاش في نيسابور وضلع في النحو والأدب وأمتاز في حصره وتبيانه لمعاني الكلمات والمصطلحات.
  4. والذي أشار إليه فيما بعد علماء نقد العهد القديم بـ(عزرا الرابع).
  5. عاش 110 هجريًا إلى 204 هجريًا. الكلبي: ابن الكلبي وهو مؤرخ وعالم أنساب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها
  6. كتاب الإسلام ونقد العهد القديم في العصر الوسيط، حافا لازاروس يافيه.