ترتكز النظرية النفعية في الأخلاق على الفرضية الأبيقورية القائلة بأن «مقياس الخير والشر هما اللذة والألم». وبالتالي فإنها تقوم بتسويغ الأفعال الأخلاقية على أساس إمكانيات تحقيقها للذة، وهروبها من الألم. مع شروط ضروري لا يمكن الاستغناء عنه، أن يتحقق ذلك لأكبر عدد من الناس.

تؤكد النفعية أن السعادة هي الشيء الوحيد المرغوب فيه كغاية في ذاته وليس كوسيلة لشيء آخر، وأن رغبة البشر في كل الأشياء ليست سوى وسيلة لتحقيق هذه الغاية أي السعادة، وبالتالي فإن السعادة (التي تُقاس بمقادير اللذة والألم) تمثل المقياس المرجعي للأخلاق.

تطورت جذور النفعية منذ أبيقور وأريستبوس، وصولًا إلى استقلالها كنظرية في الأخلاق على يد جيريمي بنثام الذي أقامها على أساس أن «الحياة يحكمها سيدان: اللذة والألم»، وأن هدف أي سلوك يمكن وصفه بأنه أخلاقي يتمثل في تحقيق أكبر قدر من اللذة، وغياب الألم، وأن الأفعال تكون خيّرة بقدر ما تكون نافعة، وتكون نافعة بقدر ما تحقق اللذة أو تقلل الشعور بالألم، وتكون الأفعال شريرة بقدر ما تسلب اللذة وتسبب الألم. وأخيرًا، فإن هدف ومعيار الأخلاق هو «أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس».

لكن مع تركيز بنثام على القياس الكمي للذة فقد أهمل قياسها الكيفي الذي يعني وجود أنواع مختلفة من اللذات، إلى أن جاء تلميذه جون ستيوارت مل الذي بدأ شارحًا ومؤيدًا لآراء بنثام، ثم تحول إلى طرح أفكاره الخاصة التي انتقد فيها بنثام، مع تمسكه بالمقولة الأساسية للأخير أي «أكبر قدر من اللذة، وغياب الألم لأكبر عدد من الناس». والتأكيد على استحالة الرغبة في شيء دون الاعتقاد في كونه ممتعًا (أي يسبب شعورًا باللذة).

في المقابل أكد مل ضرورة الأخذ بالاختلافات بين الأفراد، والتمييز «الكيفي» أي تمييز أنواع اللذات المختلفة، وعدم اعتبارها شيئًا واحدًا، حيث اعتبر أن «مسألة الخير والشر من المسائل التي تعود بالنظر إلى الملاحظة والتجربة»، أي استنتاج أي الأفعال أكثر أخلاقية من الظروف الواقعية، بهدف ضمان زيادة اللذة، وتغييب الألم. دون تدخل من مبادئ سابقة على الظروف، والشروط الواقعية، خاصة إذا عارضت تلك المبادئ تبرير/تصنيف الأفعال الأخلاقية على أساس آخر غير اللذة والألم.


الدفاع عن اللذة

تعرضت الأبيقورية، والنفعية من بعدها، لانتقادات الخصوم الذين رأوا أن وضع اللذة كمقياس مرجعي للأخلاق يعني مساواة البشر بالخنازير، لقد مثلت الأبيقورية، ومعها النفعية بالنسبة لهؤلاء النقاد فلسفة «الكائنات البشرية التي لا تقدر إلا على اللذات التي تقدر على تحقيقها الخنازير».

يتصدى مل لذلك النقد من خلال طرحه حول «الاختلاف الكيفي»، أي تعدد أنواع اللذات التي يمكن أن يصل إليها البشر واختلافها كيفيًا عن تلك االتي يمكن للخنازير الوصول إليها، ذلك التعدد والاختلاف الذي يتيح للإنسان امتلاك ما هو أكثر سموًا من اللذات التي لا يقدر خنزير على امتلاكها.

ليست مصادر اللذة هي نفسها بين البشر والخنازير، كما أن اللذات الحيوانية ليست كافية لتحقيق التصورات البشرية عن السعادة، ولماذا؟ لأنها عاجزة عن التعبير بصورة كاملة عن إمكانات السعادة التي توفرها الاستعدادت الأكثر سموًا لدى البشر. تلك الاستعدادت التي يدعوها مل بـ«الملكات».

يذهب مل لما هو أبعد من ذلك حين يُقر بوجود عناصر رواقية ومسيحية ضمن الطرح الأبيقوري، وذلك لإقرار الأبيقوريين المقارب للرواقية بأن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الجسدي الخالص. وهو ما تابعه خلفاؤهم من النفعيين في قولهم بالإجلال من قدر اللذات الذهنية في مقابل الجسدية، إلا أن مل لا يتخلى عن منهجه التجريبي في التأكيد على أن ذلك التفضيل النفعي لـ«لذات» الذهن/ العقل، ليس لطبيعة أو جوهر كامن (قَبلِي) (a priori) في تلك اللذات، لكنه يرجع إلى ميزاتها «الظرفية» أو الواقعية المتمثلة في استمراريتها، وسلامتها على المدى الطويل، ونقص تكلفتها مقارنة بنظيراتها الجسدية، أي أن تفضيلها ما زال قائمًا على أساس نفعي خالص.

لكن ماذا عن تفضيل غالبية الناس اللذات الجسدية على الذهنية/ الشعورية؟

يرجع ذلك إلى سهولة زوال «القدرة على المشاعر السامية»، فهي «سريعة العطب» و«قتلها سهل»، ولا تحتاج فقط إلى الحماية ولكن إلى التغذية الاجتماعية، ويكون زوالها في حالة العطالة أي حين تصير غير مُستخدمة، إلى جانب «التأثيرات السيئة والمعادية» المحيطة بتلك المشاعر مثل «ضيق الوقت» أو عدم توافر الفرص والتجارب الحياتية الكافية لتنمية تلك المشاعر التي تبرز في ظل مناخ، أو ثقافة فقيرة وعاجزة عن تحريك المشاعر الراقية، بحيث يتم خنق تلك المشاعر، مما يؤدي إلى خفوت قيمتها في مقابل اللذات الحسية «الوحيدة المتاحة» أو «الوحيدة التي لم يبقَ لهم سواها»، وذلك تحت سطوة تصورات الرأي العام حول أفضل أشكال اللذة، مع الضغوط الاجتماعية وأهمها هو ضيق الوقت.

يُحيل ذلك إلى المعيار المستخدم للتمييز الكيفي بين لذتين، أي كيف نحكم بأكبر قدر ممكن من الصواب بأن لذة ما هي أكثر قيمة من لذة أخرى؟

عند مقارنة لذتين، فإن أكثرهما أهمية هي تلك التي تم تفضيلها بواسطة كل أو أغلب من قاموا بتجربة اللذتين.

يُدعى ذلك بـ«التصويت العام للمتعودين»، أي المتعودين على تجربة كلتا اللذتين، ويُشترط ذلك التصويت بعدم تدخل أي إلزام أو شعور بواجب أخلاقي ما في إصدار ذلك الحكم بالتفضيل، مع العمل على تحييد العادة، والضغوط والتحكمات الاجتماعية المتمثلة في التقاليد، أو طغيان الرأي العام، ذلك الأخير الذي يُقر عبر سلطته وقسوته المعنوية والأدبية ما هو أخلاقي من عدمه، لأن مثل تلك التدخلات تجعل من الحكم منحازًا (قَبْلِيًا) لإحدى اللذتين، أو نافرًا من إحداهما أكثر من الأخرى على أساس غير تجريبي، وبالتالي غير دقيق أو محايد.

أما عن التبرير الذي يمنحه مل للوثوق بذلك الحكم، فهو تأكيده على نزوع البشر إلى تفضيل نمط الحياة الذي يستخدم أرقى ملكاتهم إذا ما وُضعوا أمام اختيار بين نمطي حياة مختلفين يمكن الاستمتاع بهما، وذلك إذا ما تمكنوا من الاختيار بحرية بعيدًا عن المبادئ السابقة على التجربة.

يختلف البشر في درجة استخدامهم «الملكات» التي يحملونها، بحيث كلما ازدادت تلك الملكات رُقيًا وسِعة، فإنها تسمو إلى «ملذات أعلى» تتطلب ما هو أكثر لأجل تحقيق سعادتها، يفسر ذلك عند مل ما قد يشعر به «الحمقى» من سعادة، وذلك لمحدودية ملكاتهم، وبالتالي تطلبهم لقدر ضئيل لأجل تحقيق سعادتهم. إنهم يدركون جانبًا واحدًا للمسألة، أو السعادة. لكن هل يعني ذلك أنهم أكثر رضا عما هم فيه من سعادة مقارنة بمن يمتلكون ملكات أرقى؟

يجيب مل بالنفي، مقدمًا لإجابته التفسير التالي: رغم احتمالية تعرضه لتحمل شقاء أشد، فإن صاحب الملكات الأرقى لا يرضى بالوقوع فيما يعتبره هو أقل درجة في الحياة، بينما يعزو مل ذلك الرفض من قبل صاحب الملكات الأرقى إلى الشعور بـ«الكرامة». وإلى إدراك جانبي المسألة، أي جانبي السعادة.

قد يشعر ذلك الشخص بعيوب أي سعادة يمكن أن يحققها في ذلك العالم، لكنه سيتحمل عيوبها لاعتقاده أساسًا بأنها مُحتمَلة، إنها تمتلك نطاقًا، وحدودًا أوسع، وبالتالي إمكانيات أكثر، في مقابل محدودية السعادة التي قد يمتلكها شخص أقل قدرة لا يشعر بعيوب سعادته، وذلك لكونها أكثر محدودية نتيجة ارتباطها بملكات أقل سموًا، بينما هو فاقد الوعي بعيوب سعادة الأكثر رقيًا ليس لكونه – أي الشخص الأقل قدرة- يتجاهل تلك العيوب، ولكن لأنه لا يعي تلك الدرجة من السعادة من الأًصل.

إنه يدرك أن «أي سعادة يتمكن من طلبها هي ناقصة، كما هو تركيب العالم، غير أنه غير قادر على أن يتعلم وأن يتحمل عيوبه وشوائبه، إذا أمكن تحملها، وهي لن تجعله يحسد الكائن الذي ليس واعيًا بالعيوب والشوائب».

وللتأكيد على ذلك يسوق مل المثال التالي: «من الأفضل أن تكون إنسانًا غير راض، من أن تكون خنزيرًا راضيًا، ومن الأفضل أن تكون سقراطًا غير راض من أن تكون أحمق راضيًا».