مال بفمه نحو الموقد المشتعل فكاد أن يحترق وجهه. كان جونى طفلاً واجتاحته رغبة غامضة أن يلتهم اللهب. مرة أخرى في مراهقته أراد محاكاة أولئك الحواة الذين ينفثون النار من أفواههم. ملأ فمه بالجازولين وقرب اللهب الذي يمسكه بيده ناحية فمه فكاد وجهه أن يحترق ثانية لولا أن صديقًا له أطفأ النار في بدايتها. أطلق اسم flame على فرقته الموسيقية قبل أن يتحول هذا الاسم إلى the kids.

كان ديب يحلم بحياة كعازف لموسيقى الروك قبل أن يبدأ عمله كممثل. يعترف بأريحية أنه صار ممثلًا مصادفة أو عن طريق الخطأ لكن لاحقًا وقد وجد نفسه في طريق جديد لحياته، أخذ الأمور بجدية وإن كان يحلو له دائمًا أن يسخر من فكرة الممثل الجاد لكنه رأى أنه إذا كان سيصير ممثلًا فعليه أن يعرف جيدًا أسرار الحرفة.

 

 بنصيحة من زوجته الأولى «لورى آن أليسون» توجه نحو التمثيل، حيث بإمكانه الحصول على مال أكثر من أجل معيشته عن عمله كموسيقي، قدمته لصديقها الممثل “نيكولاس كيج” والذي لم يكن قد صار نجمًا بعد، تفاهما سريعًا وصارا رفيقي كأس.

عرفه كيج على مدير أعماله الذي أتاح له فرصة اختياره في فيلم «ويس كريفن» المعنون A Nightmare on Elm Street والذي يؤدي فيه دور مراهق يلتهمه كابوس دموي.

فنان الهرب

 

يحاول ديب في مراهقته حفر نفق يصل فناء البيت الخلفي إلى خزانة الملابس في غرفته ليصبح بإمكانه الهرب في أي وقت. الأمر أشبه بفانتازيا طفولية لمراهق يجد نفسه دائمًا في حالة حصار. تأتيه بداية النجومية مع دوره في مسلسل 21 Jump Street ورغم النجاح الكبير والجماهيرية الهائلة عاوده  إحساس الحصار القديم وفكر مجددًا بالهرب.

شعر أنه سجين هذا الدور، مجرد سلعة يتم بيعها. فعل كل شيء لطرده من هذا المسلسل، حضر يومًا بشعر مستعار ورفض خلعه، بدأ بالتحدث بلكنة غريبة ويرفض أن يغيرها. جزء من جاذبية التمثيل بالنسبة له إلى جانب كونه متنفسًا إبداعيًا، تأتي من فكرة الحرية وتحطيم القواعد. بالنسبة لشخص عانى طيلة طفولته ومراهقته مع تصور الآخرين عنه لم ترق له صورة محبوب قلوب الفتيات المراهقات الذي جلبها له نجاح المسلسل. لذا قرر أن يعمل مع جون ووترز في فيلمه cry baby. كان الفيلم فرصة مناسبة تمامًا ليسخر من الصورة التي اختارها له الجمهور. نصح بالطبع ضد العمل مع فنان مثل ووترز وأنه قد يدمر مسيرته الفنية التي لا تزال في بدايتها.

جانب من جاذبية وتفرد ديب كنجم يكمن في قدرته على لعب أدوار ضد النمط، وأنه ينجح ضمن السائد دون أن يستسلم له على الأقل في بدايات مسيرته.

على عكس نجوم التسعينيات مثل ميل جيبسون، بروس ويليس، ارنولد شوارزنجر الذين استمرو في تقديم صور ذكورية نمطية على الشاشة، يختار ديب شخصيات على قدر من الغموض الجندري، لا تخجل من إظهار جانبها الأنثوي كما في أفلام Ed wood- before the night fall وهي شخصيات سبق أن قدمها براندو وجيمس دين ومونتجمري كليفت.

نجده يعمل أيضًا مع جيم جارموش في dead man وهو فيلم يتلاعب بتقاليد فيلم الويسترن وعلى عكس أبطال هذا النوع الفيلمي نجد ديب يجسد بطلًا خجولًا مترددًا سلبيًا وذا روح شاعرية.

 

في تجسيده لشخصيته الأيقونية جاك سبارو، أراد المنتجون أن تبدو الشخصية جذابة للغاية من الناحية الشكلية لكنه أصر على الأسنان الذهبية، جدائل الشعر والخرزات المتدلية منها. ديب أقرب لمصطلح فنان الهروب وهو فنان مؤدٍ يقدم الترفيه للجمهور عبر قدرته على الهروب من السلاسل من الصناديق بينما هو يحاول الهروب من الصور التي يريد الآخرون إلصاقها به.

لقاء في مرآة

 

كان لقاء ديب بالمخرج تيم بيرتون والذي يأتي في سياق بحث برتون عن ممثل لشخصية إدوارد في فيلمه Edward Scissorhands حاسمًا في مسيرته. إذ يشكلان لاحقًا واحدًا من أجمل ثنائيات الإبداع بين مخرج وممثل في تاريخ هوليوود. أداره بيرتون في 8 من أفلامه من بينها الأفضل في مسيرة المخرج والممثل.

كانت الفكرة الأولى للفيلم مجرد صورة انبثقت من لا وعي بيرتون في مراهقته، من أعماق حزنه وإحباطه من عدم قدرته على التواصل مع الآخرين. صورة عن صبي يريد أن يلمس الآخرين لكنه لا يستطيع فخالقه مات قبل أن يتم خلقه تاركًا محل يديه مقصات! ترتد لمساته المحبطة جروحًا تدمي روحه قبل جسده. كان إدوارد شخصًا ترتبط قدرة الإبداع لديه والتدمير برباط مأساوي.

كانت فكرة بيرتون عن فيلمه أنه يجسد سعينا المضني ليتقبلنا الآخر، عن المسافة بين حقيقتنا الداخلية والصور التي يكونها الآخرون عنا. لم يكن يعرف ديب أو شاهده في أي أعمال له من قبل وكانت سمعة ديب كنجم صاعد، أنه جامح، يصعب التعامل معه وغريب الأطوار. شاهد بيرتون صورة له في إحدى المجلات ورأى في عينيه شيئًا يوحي بشخصية هي عكس ما يذاع عنه تمامًا وكان هذا يلامس بعمق فكرة فيلمه.

كان لقاء بين شخصين كلاهما خجول وانطوائي، يتمتمان لدرجة تجعلهما غير قادرين على إنهاء جملهما. خرجا من اللقاء ولم يعرفا ماذا قال أحدهما للآخر لكن كلاً منهما أدرك أنه قد وجد ضالته. بيرتون وجد أناه الآخر وديب كان سعيدًا أخيرًا بمقابلة شخص “يرتدي غرابته”. وإن كان هذا الوصف قد قاله ديب عن برتون فإنه ينسحب عليه بلا شك، كان ديب واقعًا منذ بداية وعيه تحت ثقل إدراك غرابته الخاصة. يحكي أنه ذهب ذات مرة في مطلع مراهقته إلى المكتبة العامة ليقرأ كتاب abnormal psychology and modern life سعيًا وراء سبب مرضي لغرابته.

أقنعة الغريب المعذب

آخر ما أرغب فيه أن أشبه نفسي.
جوني ديب
 

 في الفترة التي أسس فيها ديب فرقته الموسيقية، لم يرغب للحظة أن يكون مغني الفرقة بل أراد فقط أن يكون الرجل خلف الظلال، أن يبقى بعيدًا عن العيون وعن الأضواء ليعزف فقط على جيتاره. اعتقد أن شيئًا من هذا استمر معه حتى بعد صار ممثلاً تقتضي حرفته أن يكون تحت الضوء باستمرار. من الصعب أن تجد ممثلاً مثل ديب احترف إخفاء وجهه على الشاشة.

حافظ ديب إلى حد بعيد على حريته في اختيار الأدوار. طالما كان انجذابه واضحًا نحو شخصيات بعينها، شخصيات غريبة الأطوار وخارجة على تقاليد المجتمع. طالما فتنته شخصية الغريب المعذب. لامع وعبقري لكنه مختلف عن الآخرين ويشعر دومًا أنه لا يلائم المجتمع الذي يعيشه والذي يفهم دائمًا غرابته بشكل خاطئ.

إدوارد ذو اليدين المقصات، وولى وانكا، راؤول دوك، جون ويلموت وغيرها.  أقنعة غريبة تتقاسم وجهًا موسومًا بالغرابة. هذه أقنعة تثبت جرحًا ولا تنفيه. أن تكون آخر لكن هذا الآخر هو امتداد للذات. ليس انقطاعًا عنها بل شظاياها، ما يحاول الممثل أن يخفيه ويكشف عنه في آن واحد. يضع على وجهه القناع لكي يزيحه ويرتديه كي يتعرى.

لكن حتى قبل أن يصير ممثلاً كانت تلك هي الشخصيات التي انجذب لها طيلة حياته. كان من هواجس مراهقته شخصية  «برنابا كولينز» من مسلسل الرعب الأمريكي «dark shadows» سيعيد لاحقًا تقديمها مع بيرتون في فيلم يحمل نفس الاسم وهي شخصية مصاص دماء كاره لذاته لكن حساس ومتعاطف. راح ديب في مراهقته يصفف شعره على طريقته، وضع خاتم أمه في إصبعه وأخذ يفكر كيف يحصل على أنياب. بالنسبة له كانت جاذبية مصاص الدماء تكمن في حساسيته، في ضعفه وفي قابليته للانجراح رغم مظهر الوحش وسلوكه العدواني. كان معذبًا أكثر منه وحشًا.

كان متيمًا بمغني الروك «إيجي بوب» الذي يجرح نفسه بزجاجة مكسورة على المسرح وهو يغني، حتى كتابه المفضلين هم جيل البيت، جاك كرواك، نيل كاسيدي، ويليام بوزو وألن جينسبرج بغرابتهم وهامشيتهم وعدم انسجامهم مع مجتمعهم. في الفترة التي عاش فيها مع وينونا رايدر كانا يقرآن سويًا كتابات هؤلاء الأدباء.

يمكننا أن نقول إن ما يقدمه ممثل على الشاشة لا علاقة له بشخصيته أو حياته الحقيقية، لكن حين يكون هناك نمط واضح في اختيارات ممثل ما فإن هذا يقول شيئًا عن شخصيته ويعكس ومضات من حياته الداخلية. هذا الإصرار على تقديم مثل هذه الشخصيات يقول الكثير عن جوني ديب. كانت هذه الشخصيات على نحو ما تحكي التاريخ العاطفي لجوني، تاريخ عذاباته. 

 راؤول دوك في (Fear and Loathing in Las Vegas ) كان يحمل صدى من حياة ديب مثلما شخصيته في فيلم libertine، شخصيات يبدو إدمانها كمرض يخترق جلدها، تتعاطى كل ما من شأنه أن يهدأ السيرك الدائر في رأسها. في إدوارد ذي الأيدي المقصات يمكنك أن تعرف كيف كبر تحت وطأة غرابته. جلبت له شخصيته جيلبرت في (What’s Eating Gilbert Grape) العديد من الذكريات المؤلمة وهو يقضي شطرًا من طفولته في العناية بأمه خاصة بعد انفصالها عن والده واكتئابها بديلاً من أن يكون محل رعايتها. تجد أيضًا ظلالًا من علاقته المضطربة بوالدته في فيلم blow .

كنجم من زمن آخر

 

حين نأتي إلى وصف الأداء التمثيلي لجوني ديب فهو غريزي تمامًا وحدسي، تعلم من بطله الأدبي جاك كيرواك أن الفكرة الأولى هي الفكرة الافضل، يقرأ السيناريو مرة واحدة، يراجع الحوار لكن توجيهات السيناريو لا يعود لها مجددًا فعليه أن يجد ما تفعله الشخصيات لا أن تملى عليه. إنه ممثل فضولي لديه مظهر خارجي معبر ونظرة اندهاش طفولية.

لا يخفي ديب إعجابه المستمر بنجوم السينما الصامتة شابلن، كيتون ولون تشيني ممثله المفضل والملقب بالرجل ذي الألف وجه، لقدرته على التحول بين الشخصيات ومدى الانفعالات الواسع الذي يمنحه لشخصيات لا تمتلك ترف الكلمات.

جوني يجيد الأداء بعينيه، يشع كنجم من زمن السينما الأول، يصفه شريكه الإبداعي تيم بيرتون بأنه ممثل شخصيات عظيم. يجلب ديب إلهامه من أماكن مختلفة، يحاكي المظهر الخارجي لشخصيات حقيقية من التاريخ أو في حياته، يراقبها ويستخلص منها سلوكًا ما، حركات ونبرة الصوت أشياء من هنا وهناك يجلبها للشخصية لكن المشاعر تأتي من مكان داخلي وصادق. يقول إنه استوحى النظرة المندهشة والبريئة لإدوارد ذي الأيدي المقصات من كلب كان لديه في طفولته والحب غير المشروط في نظراته. و حين جسد وولى وانكا كان يفكر دائمًا في هوارد هيوز هذا المليونير غريب الأطوار الذي اعتزل العالم والبشر في فترة من حياته.

جوني لا يختفي تمامًا داخل الشخصية التي يؤديها، بل يمرر نفسه إلى جوار الشخصية التي يقدمها على الشاشة كأنما رابطة حب أخوية تجمعهما تحت السطح، لذلك مهما كانت  شخصياته غريبة تبدو مألوفة في النهاية. ربما وعلى نحو غير واع كان يفكر أنه إذا تقبل الجمهور هذه الشخصيات الغريبة  فإنهم يتقبلون جوني أيضًا.