لحظة كتابة هذا المقال، تقوم آلاف الأمهات حول العالم بإغراق أجسام أطفالهن الرضع الغضة، بتلك البودرة البيضاء الشهيرة، التي تحمل شعار الماركة التجارية الأشهر في عالم المستحضرات الطبية للأطفال ..جونسون آند جونسون.

تعتقد غالبية هؤلاء الأمهات أن لتلك البودرة فوائد لا تُحصى، تبدأ بترطيب أجسام الأطفال، وجعلهم أكثر سعادة بملمس بشرتهم الناعمة – كما يظهرون في إعلانات هذا المنتج التجاري، التي تحتل حصة ثابتة من الفقرات الإعلانية منذ عشرات السنين – ولا تنتهي بمنع حدوث التهابات الجلد التي تسببها الحفاضات.

ويبدو أن بودرة التلك التي تنتجها جونسون آند جونسون فعالة بقدر كبير يفسر الرواج الكبير لها في كافة أرجاء العالم، والذي – للأمانة – قد يدل أيضًا على نجاح كبير لفرق التسويق التي توظفها المؤسسة العملاقة، خصوصًا وأن شعبية ذلك المسحوق الأبيض لا تقتصر على الأطفال فحسب، إنما تستخدمه العديد من النساء كجزء من طقوس التجمل والنظافة الشخصية. لكن كان هؤلاء الزبائن الواثقون على موعد مع صدمة كبيرة في الساعات الماضية.


رويترز تقصف جونسون آند جونسون

بوجه آلاف القضايا المرفوعة ضد الشركة، متهمةً بودرة التلك التي تنتجها بأنها مسرطِنة، تصر جونسون آند جونسون على التأكيد على مدى سلامة ونقاء منتجها. لكن رويترز اطلعت على تقارير داخلية، تظهر تسرب الأسبستوس المسرطِن إلى بودرة التلك في بعض الأحيان، وقامت الشركة بحجب هذه النتائج الخطيرة عن جهات التحقيق، وعن الرأي العام.
مقدمة تقرير رويترز، بقلم الصحفية ليزا جيريون

خلال الأيام الماضية، أحدث تقريرٌ استقصائي لوكالة رويترز الإخبارية العالمية، ضجة كبيرة، تردد صداها في جنبات الوسائل الإعلامية الكبرى، ومواقع التواصل الاجتماعي، وعشرات الملايين من البيوت حول العالم.

يتهم التقرير شركة جونسون آند جونسون بأنها أخفت مع سبق الإصرار والترصد، نتائج تحقيقات لها في السبعينات، أظهرت تسرب مادة الأسبستوس المُسرْطِنَة، إلى بودرة التلك التي تنتجها الشركة. أثار تناقل أخبار ذلك التقرير حالة من الفزغ لدى الملايين من الأمهات حول العالم. تخيل أمًا أيًّا كان مستوى تعليمها تسمع أخبارًا متداولة تتضمن كلمة السرطان المرعبة، بجوار اسم البودرة التي فرغتْ للتو من إغراق جسم رضيعها به، مثلما كانت جدته تفعل معها!

ولو اطلعت الأمهات على نص التقرير، لزادهم فرغًا. جاء الإخراج الفني للتقرير، وتنفيذه، مجسدًا للقنبلة التي يفجرها. العنوان هجومي ومباشر واتهامي .. لقد كانت جونسون آند جونسون لعقود على علم بوجود الأسبستوس في بودرة الأطفال. الصورة العلوية للتقرير عبارة عن خلفية سوداء شديدة القتامة، يتوسطها العنوان، وينتثر فيها البودرة البيضاء بشكل يبعث على الرهبة.

يبدأ التقرير بقصة مؤثرة عن أمريكية من ولاية تكساس، مصابة بسرطان الغشاء البللوري الخبيث، والذي جعلها تنتظر الموت في كل لحظة، وجعلها تنتزع كل نفسٍ من أنفاسها انتزاعًا من بين براثن الألم. كلفت المرأة محققًا خاصا ليساعدها في فك لغز إصابتها بهذا السرطان الذي غالبًا ما يصيب عمال المناجم.

توصل التحقيق الخاص إلى قضية علاقة بودرة التلك التي كانت تستخدمها المرأة بالأسبستوس. قامت المرأة برفع قضية ضد الشركة عام 1997م. حينها لم يكن بالإمكان توفير أدلة قوية تدين الشركة، واضطرت المرأة للتنازل عن القضية، حتى لا تلزم بتعويض الشركة كعقوبة للتشهير.

مقطع قصير من إنتاج شبكة CNBC يتحدث عن تقرير رويترز الأخير:

بعد ذلك يمضي التقرير في استعراض نتائج الوثائق الجديدة التي اطلعت عليها رويترز، وهي في معظمها من الوثائق الداخلية السرية لشركة جونسون آند جونسون، والتي ألزمها بعض جهات القضاء بإخراجها للنور في أثناء التحقيقات في آلاف القضايا التي رُفِعَت ضد الشركة.

أظهرت بعض التقارير عينات إيجابية لوجود كميات صغيرة من الأسبستوس في خام التلك، وكذلك في المنتج النهائي لبودرة الأطفال، وقامت الشركة بحجب تلك النتائج عن الرأي العام، بل وأصر مسئولوها مرارًا وتكرارًا على التأكيد على الخلو التام لمنتجاتها من الأسبستوس.

أظهرت وثائق أخرى تناولها التقرير، أن الشركة حاولت الضغط بشكل غير مباشر لمنع إصدار قوانين صارمة تقلل السقف المسموح به قانونًا لتداول المواد المحتوية على الأسبستوس. كذلك دعمت الشركة بسخاء أبحاثًا علمية تركز على فوائد بودرة التلك، وتتجنب الإشارة إلى أضرارها المحتملة. كذلك ضللت الشركة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عام 1976م عندما أبلغتها بخلو بودرة التلك من الأسبستوس، في حين أخفت نتائج 3 عينات إيجابية من معامل مختلفة بين عامي 1972م و 1975م.

كذلك فإن بعض الاختبارات الفنية التي تقوم بها الشركة لا تكشف الكميات الضئيلة جدًا من الأسبستوس، وفي نظر رويترز فهذا يعد جريمة؛ لأن منظمة الصحة العالمية لا تقر أي مقدار آمن من التعرض للأسبستوس، حيث إن كمياتٍ ضئيلة للغاية على مدار سنواتٍ طويلة قد تسبب المرض لبعض الناس.


جونسون آند جونسون في قفص الاتهام

المدّعون، محامو التعويضات، الطامعون في مكاسب مالية شخصية، يثيرون البلبلة ضدنا في وسائل الإعلام، ويضربون عرض الحائط بآلاف التقارير التاريخية، والاختبارات المعملية المستقلة، والتي أظهرت خلو بودرة التلك التي ننتجها من أي أثر للأسبستوس، أو العلاقة بالسرطان …

تصريح لإرني نيوفيتز .. مسئول العلاقات الإعلامية الدولية في شركة جونسون آند جونسون، يتحدث عن آلاف القضايا المرفوعة ضد الشركة

هناك مشكلة عويصة تواجهنا في مثل تلك القضايا الصحية الخطيرة التي تتسلط عليها الأضواء، تتمثل تلك المشكلة في كيفية استخراج الوزن الحقيقي للقضية المثارة، بعيدًا عن التهويل الإعلامي، أو التهوين المتعمد الذي تسوّق له الأطراف المتهمة في القضية.

وهناك أيضًا مافيا التعويضات، والتي تتشكل من شبكات قوية من المحامين المتخصصين في كيفية الظفر بقضايا التعويضات، والتي تغري الكثيرين بالأرقام الفلكية التي تحكم بها بعض المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. لكن عمومًا فقضيتنا الحالية لها أساس علمي حقيقي، وليست زوبعة في فنجان.

ليست تلك هي المرة الأولى التي يصبح فيها أشهر منتجات عملاق مستحضرات الأطفال غرضًا لاتهامات تتعلق بالصحة العامة، إذ تعرضت الشركة للمقاضاة حوالي 10 آلاف مرة. في يوليو/تموز 2018، غرّمت محكمة في ولاية ميسوري الأمريكية شركة جونسون آند جونسون حوالي 4.7 مليار دولار على خلفية إصابة 22 امرأة استخدمن بودرة التلك لسنوات، بسرطان المبيض.

وفي أبريل/نيسان من نفس العام، ألزم حكم قضائي في ولاية نيوجيرسي الأمريكية الشركةَ بدفع 37 مليون دولار كتعويض لرجل وزوجته من المستخدمين الدائمين للبودرة أيضًا، نتيجة إصابته بسرطان الغشاء البللوري، وإصابتها بسرطان المبيض. لكن في المقابل فقد رفضت 3 محاكم أمريكية على الأقل إصدار أحكام إدانة وتعويض في قضايا مماثلة. وكثيرًا ما دافعت الشركة عن نفسها بإظهار نتائج معملية عديدة أظهرت خلو مكوناتها الحديثة من أية آثار للأسبستوس.

لكن لماذا يثير الأسبستوس كل تلك الضجة؟

الأسبستوس .. رسول السرطان

لابد أن نشير في هذا المقام إلى التعبير (مسرطِن) الذي تتداوله وسائل الإعلام العربية. يخطئ الكثيرون في التعاطي مع تلك الكلمة اسمًا ورسمًا، فينطقونها مسرطَن، بفتح الطاء، ويظنون أن المواد (المسرطَنة) وضع عليها سم ما ينقل مرض السرطان لمن يتناوله.

السرطان لا ينتقل من إنسان لآخر، إنما ينشأ داخل بعض أنسجة جسم الإنسان، لأسباب كثيرة، بعضها مجهول، وبعضها معلوم، وبعضها لا يزال تحت الدراسة. ومن أشهر ما نعرفه من أسباب السرطان التعرض لبعض المواد (المسرطِنة) بكسر الطاء، والتي تثير تفاعلات خطيرة داخل خلايا جسم الإنسان، والجينات المتحكمة فيها، تجعلها تفقد وظيفتها الطبيعية، وتتكاثر بشكل مرضي يسبب تلفًا للأنسجة حولها، وهذه هي آلية حدوث السرطان باختصار شديد.

الأسبستوس، أو كما يحلو للبعض تسميته بالحرير الصخري، هو نوع من الألياف الطبيعية، التي تتكون بالأساس من مركبات السليكا، الغنية بالسليكون والأكسجين. تمتاز تلك الألياف بتحملها للحرارة والنار، وعزلها للكهرباء، ولذا تدخل في قطاع عريض من الصناعات، من أشهرها صناعة العوازل، والورق، والبلاستيك، والأسمنت، وبعض أنواع الأقمشة المقاومة للحريق .. إلخ.

على مدار عشرات السنين، أثبتت الدراسات وجود علاقة بين التعرض المزمن لألياف الأسبستوس، وزيادة فرص حدوث طائفة من السرطانات الخبيثة، أشهرها الميزوثيليوما -وهو سرطان يصيب أغشية الجسم، وأشهرها الغشاء البللوري حول الرئتين، والغشاء البريتوني بالبطن – وسرطان المبايض، وسرطان الحنجرة، كذلك ظهرت علاقة محتملة بين الأسبستوس وسرطانات المعدة والقولون والبلعوم.

وتشيع الإصابة بالسرطانات المتعلقة بالأسبستوس في العمال المشتغلين بصناعة السفن، والعوازل .. إلخ من الصناعات التي يتعرضون فيها لاستنشاق رذاذ وجسيمات الأسبستوس. لكن يحتاج الأمر إلى التعرض لسنواتٍ طويلة، حتى تتراكم كميات كافية من جزيئات وجسيمات الأسبستوس بالجسم، كافيةً لحدوث أثره المسرطِن.


بودرة التلك والسرطان

يتم استخراج الأسبستوس من الطبيعة بواسطة التعدين. المشكلة أن خام التلك المعدني الذي يستخدم في البودرة الشهيرة، وهو المسئول عن إمكانية إنتاجها في شكل مسحوق، يوجد في الطبيعة بالقرب من مناطق وجود الأسبستوس، ولذا يشيع تلوث التلك بالأسبستوس.

كلما كان التلك خاليًا من الأسبستوس، كلما كان أقل في خطورة التسبب بالسرطان. ولذا فالوكالة الدولية لأبحاث السرطان، تصنف التلك الملوث بالأسبستوس كمادة مسرطِنة، بينما تصنف التلك النقي كمادة غير مسرطنة لعدم توفر أدلة قوية في تجارب الحيوانات أو البشر تدعم فرضية علاقة بين التلك والسرطان.

لكن عمومًا يُنصَح بتقليل استخدام بودرة التلك، خاصة مع الاستخدام طويل المدى على مدار الشهور والسنين، تحسبًا لتضارب الأدلة، وتجنبًا لأية أخطار قد لا تظهر إلا في المستقبل، خصوصًا وأن بعض الدراسات الحديثة التي ظهرت عام 2018م، أظهرت علاقة ولو ضعيفة بين الاستخدام المزمن للتلك، وحدوث سرطان المبيض.