قد يحتوي هذا المقال على حرق لبعض أحداث فيلم «الجوكر» Joker، لذا وجب التنويه.

لم تكن المرة الأولى التي تقدم السينما نموذجًا للإنسان الذي يعاني تحت وطأة المرض النفسي، لكنها من المرات القليلة التي جعلتْ من هذا المريض بطلًا للعمل، بل محوره الأساسي، حيث هو أساس كل شيء، فالمشاهد يرى كل شيء بعين البطل، ففيلم «الجوكر» الذي تم طرحه مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري، يُعَد دراسة سينمائية مُتقنة لشخصية الجوكر، أو «أرثر فليك»، قبل أن يصبح الجوكر فيما بعد، ولماذا حدث هذا؟ وكيف كان سياقه؟

ولم يتأخر تقديم آرثر للمشاهد -كمريض نفسي، فمنذ المشهد الأول يطالعنا وهو يجلس أمام معالجته النفسية، ويشكو لها من هواجسه التي تطارده باستمرار. فقد تم تقديم شخصية آرثر خلال أحداث الفيلم، كمريض نفسي، يتلقى معاملة شديدة السوء والقسوة من الجميع تقريبًا، لكن صناع الفيلم لم يذكروا بشكل صريح طبيعة الأمراض النفسية والعصبية التي يعاني تحت وطأتها، بل اكتفوا بإبراز أعراضها تباعًا، لذا تُعَد معرفة طبيعة الأمراض النفسية التي كان البطل يعاني منها جزءًا أصيلًا في فهم فلسفة الفيلم، الذي يشغل الكثيرين حلو العالم منذ أن تم طرحه.

أن تضحك رُغمًا عنك

من أهم المعالم المَرَضية التي ميّزت شخصية آرثر، والتي برع «خواكين فينكس» في تقديمها، هي نوبات الضحك العصبي المفاجئة التي كان يُطلقها رغمًا عنه في مواقف لا تستدعي الضحك، بل والألم يعتصر روحه، كما في مشهد القطار الشهير الذي ظهر في تريلر الفيلم، حيث مجموعة من الشباب يتحرشون بالبطل، ينزعون عنه قناع المهرج الذي كان يرتديه؛ فيظهر وجهه وقد اكتست ملامحه بالألم والحزن، والخوف الشديد، بينما يستمر في إطلاق الضحكات رُغمًا عنه، ويحاول فاشلًا أن يُعلِمهم أنه مريض يضحك رُغمًا عنه ولا يستهزئ بهم.

هذه الحالة، وكما أشارت الكاتبة الأمريكية «كريستين لوبيز» في مقالتها عبر موقع «هوليود ريبورتر» عن الفيلم، تُسمى «Pseudobulbar Affect» أو «التأثير البصلي الكاذب»، وهي حالة من عدم الثبات العاطفي، لذا يُسمى هذا المرض أحيانًا بـ «التقلقل»، حيث يفقد المريض خلال نوباته السيطرة على أعصابه وانفعالاته، فيبكي أو يضحك لا إراديًا، في مواقف لا تعكس حالته النفسية الحقيقية، وهو مرض عصبي ناتج عن تلف في المخ، وللأسف يعاني من هذا المرض قرابة 2 مليون شخص في «أمريكا» وحدها ممن تعرضوا لإصابات الدماغ.

برع خواكين في تجسيد هذه الحالة بدقة تعبيرات الوجه خلال نوبات الضحك، فلم تكن ملامحه سعيدة أو تضحك بصدق، بل أحيانًا يعتصره الألم الحزين، أو تكسو اللا مبالاة وجهه.

تشير كريستين في نفس المقالة إلى أن عدم تفهُّم المحيطين بـ آرثر في كل مكان لهذه الحالة المرضية التي كان يعاني منها، ونفورهم الشديد منه، وتعاملهم معه باعتباره مسخًا أو مجنونًا، حتى عندما كان يقدم لهم البطاقة التي كان يحملها وتشير إلى أنه مريض ويضحك رُغمًا عنه، أدى به في النهاية إلى وحدة مُطبقة، لا أحد يرافقه إلا أمه المريضة، حتى المعالجة النفسية لم تكن في الواقع تستمع بجدية لمعاناته، وكل هذا صبَّ في نتيجة واحدة: الإصابة بحالة من الاكتئاب الحاد.

آرثر فليك شخص تعيس، ولا يحتاج الأمر تدقيقًا لتلاحظ هذا خلال الفيلم، وتعاسته وصلت لحد الاكتئاب، بسبب العُزلة التي فرضها واقعه عليه، خاصةً حالة الضحك اللا إرادي التي جعلتْ الجميع تقريبًا يتجنبونه، فأصبح واحدًا من قرابة 300 مليون حول العالم مصابين بالاكتئاب، كما تشير منظمة الصحة العالمية، يطلب العون من الجميع، حتى يكاد يتسوله، فلا يُقابَل إلا بالمزيد من الإهمال والقسوة.

عالم الأوهام: حل لملء فراغ العُزلة

في ظل حالة العُزلة التي فُرضت على بطلنا آرثر فليك، وبينما كان يبحث عن شخص واحد يستمع له، أو يتبادل معه حديث عابر، فلا يجد، بدأت تظهر عليه أعراض إصابته بحالة فُصام واضحة، كما أشارتْ الطبيبة النفسية «دريا ليتامندي» في مقالها عن الفيلم، حيث يتخيل ويعيش أحداثًا لا أساس لها إلا داخل عقله، والفُصام حالة تندرج ضمن تجليات مرض «الذهان».

صارت جارته -التي شاهدها صُدفة في المصعد لمرة واحدة- حبيبته الجميلة في خياله، ووجد نفسه نجمًا كوميديا يقف على خشبة المسرح يُضحِك المئات من الجالسين أمامه، فحقق داخل عقله كل ما عجز عن تحقيقه في واقعه المحدود الذي حاصره فيه إحساسه بالدونية، وانعدام القيمة، حتى أنه كان يظن أنه ليس حقيقيًا، وربما موته هو الحل الوحيد الذي يجعله مرئيًا، فلجأ عقله لحيلة خلق عالم وهمي يُخفف على البطل حدة الألم الذي يعيشه، لكن الحقيقة تنكشف لنا، وللبطل، في النهاية، حقيقة إصابته بحالة متقدمة من الفُصام.

حياتك لم تكن إلا خُدعة كوميدية

لقد اعتقدتُ دومًا أن حياتي مأساوية، لكني الآن ألاحظ أنها كوميدية.

هذه الجملة الشهيرة التي قالها آرثر فليك لنفسه، بعد أن صُدِم بعدة حقائق عن طفولته، وهُويته من الأساس، وعلاقته بأمه، واكتشافه لزيف عالم الأوهام الذي خلقه عقله له، كل هذه الصدمات المتتابعة جعلتْ صورته التي يعرفها عن نفسه مجرد وهم انهار أمامه في لحظات، وهذا أدى إلى ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة عليه بشكل فج، يتناسب مع فداحة الصدمات المتتالية التي انكشفت أمامه وصفعته الواحدة تلو الأخرى.

على عكس ما يمرّ بنا من أحداث وصدمات شبه معتادة، مثل أن تُصدَم في طريقك بحادثة سيارة عنيفة، أو شجار دموي، وفي هذه الحالات عادة ما يتجاوز الإنسان الموقف دون مساعدة طبيب، إلا أنه في حالة الجوكر كان الأمر يتطلب مساعدة طبية عاجلة، كما تشير الدكتورة «دريا» في مقالتها عبر موقع Fandom، حيث ظهرتْ أعراض الاضطراب على آرثر من خلال حالة الغضب والعنف الدموي التي اجتاحتْ شخصيته، لتخلق منه شخصًا جديدًا يختلف تمامًا عن آرثر المشوش الذي اكتشف أنه لم يكن يُميِّز الحقيقة من الأوهام، ولم يكن يعرف حتى حقيقة نفسه، هذه الحالة التي أخرجتْ للعالم في النهاية: الجوكر.

رسالة سينمائية لعالم مُعتَل

في عالم ينتحر فيه إنسان كل 40 ثانية حول العالم، كما يشير أحدث تقرير بثته منظمة الصحة العالمية، يبدو الاستقبال العالمي الحافل لفيلم الجوكر منطقيًا جدًا، وهو الذي يُجسِّد معاناة إنسان معتل عقليًا ونفسيًا، في عالم تزداد قسوة أفراده غير المبررة يومًا بعد يوم؛ معاناة لمستْ جانبًا في معظم مَن شاهدوا الفيلم في أرجاء العالم، حيث عانى كل منّا موقفًا شبيهًا وجانبًا لما مرّ به آرثر خلال رحلة حياته الأليمة، الكوميدية من فرط مأساويتها.

إن أسوأ ما في الإصابة بمرض عقلي، أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف كأنك لستَ مُصابًا به.

كانت هذه إحدى العبارات التي دوّنها آرثر فليك في دفتر يومياته، مُعبرًا عن معاناة عاشها في مجتمع يرفض أغلبيته أن يتعاملوا مع ما يعانيه من مشاكل نفسية بما يتناسب مع معاناته، رافضين أن يمنحوه معاملة رفيقة أو حتى مُحترمة، بل ذاق أيضًا أشكالًا مختلفة من التنمُّر والتنكيل، فقط لأنه فقير يعاني مرضًا عقليًا ومشاكل نفسية، فتخلى الجميع عنه، حتى البرنامج العلاجي الذي كان يُمنَح من خلاله أدويته بشكل مجاني قررتْ السُلطة أن تتوقف عن تمويله؛ لأنه «لا أحد يهتم بمَن هم مثله» كما أخبرته معالجته في لقائهم الأخير.

حالة التخلّي هذه اشتملت رفضًا من أهل المدينة كلهم تقريبًا لرؤيته، للتعامل معه كإنسان لا مسخ، حتى ظن أنه ليس حقيقيًا، فقد رفضوا أن يتعايشوا مع مرضه، ويسمحوا له بحياة آدمية طبيعية، فسحقوا إنسانيته ببطء، خالقين منه الوحش، أو الجوكر… الذي قد لا نتفق بالتأكيد مع ما وصل إليه من عُنف دموي في نهاية المطاف، لكننا نتفهم كيف وصل إلى هنا، وكيف من الممكن أن يُحوّل المجتمع شخصًا لم يختر أن يكون معتلًا نفسيًا أو عقليًا، إلى مُجرم يقتل انتقامًا بدم بارد.