بعد فيلمين صنعا بميزانية محدودة وغلب عليهما التجريب والابتكار هما «Following» و«Memento»، يدخل المخرج الإنجليزي «كريستوفر نولان» إلى مصنع الأحلام «هوليود» من باب واسع لينجز أفلامًا بميزانيات ضخمة وبمشاركة نجوم ينتمون للصف الأول.

البعض يرى أن نولان باع روحة للشيطان، وأن أفلامه التي حققها لهوليود لا تحمل روح البدايات المبشرة بمخرج واعد يمتلك صوتًا خاصًا. يتحدث آخرون عن اجتهاده في التجديد داخل النوع الفيلمي الذي يعمل عليه، في تمرير شيء من روحه داخل كل فيلم.

في أفلام مثل أفلام الأبطال الخارقين، والتي تجنح دائمًا نحو المبالغات والفانتازيا، نرى لمسة الواقعية والقتامة التي أضفهاها نولان على هذه الأفلام بالإضافة للأبعاد النفسية والفلسفية الجديدة التي منحها لشخصيات أيقونية في الثقافة الجماهيرية الأمريكية قدمت من قبل مرارًا وتكرارًا.

هذه الإضافات النولانية هي ما منحت ثلاثيته المعنونة بفارس الظلام، والتي تنتمي لنوعية أفلام الأبطال الخارقين، مكانتها المتفردة ومذاقها الخاص بين هذه النوعية من الأفلام.

من بين هذه الثلاثية، يلمع فيلم «The Dark Knight» منفردًا كأفضل أفلام هذه الثلاثية. الفيلم عرض في عام 2008 وحقق نجاحًا كبيرًا على المستوى الجماهيري والنقدي، وهو أكثر أفلام الثلاثية نضجًا على مستوى النص والإخراج، لكن العامل الأبرز في هذه المكانة التي يحتلها «The Dark Knight»، يتمثل في الجاذبية الطاغية التي مارستها شخصية الجوكر على كل مشاهديه بأداء مذهل من النجم الراحل «هيث ليدجر».

خلال ما تبقى من هذا المقال نحاول رسم بوتريه سينمائي لهذه الشخصية الأيقونية في نسختها النولانية والتي تعتبر الأفضل حتى الآن.


الجوكر: رجل بلا أقنعة

أسير دائمًا وأنا أشير إلى قناعي.
الفيلسوف والناقد الفرنسي «رولان بارت»

الظهور الأول لشخصية الجوكر يأتي في لقطة من الخلف حيث يقف على الرصيف يمسك في يده قناعًا، تقترب الكاميرا منه بينما يحدق قناعه فينا بعينيه الفارغتين.

الجوكر شخصية واضحة إلى درجة مرعبة، أسقط كل أقنعته ومضى بين الناس تجلجل ضحكته الهيستيرية بينما يشير بسكينه إلى أقنعتهم المهترئة. الألوان الرخيصة التي تغطي وجهه هي سخريته المرة من «جوثام» وسكانها، وجهه هو شارة للرعب.

استلهم «نولان»، المفتون بلوحات الرسام «فرانسيس بيكون»، من أعماله مكياج الجوكر وندوب وجهه. يبدو الجوكر مثل لوحة لبيكون نفخ نولان فيها الحياة.

بيكون الملقب من نقاده بفنان الرعب ترتكز جميع أعماله على الشكل الإنساني، بضربات فرشاته العنيفة يشوه الجسد الإنساني، أشلاء أجساد وظلال صارخة تعكس العنف الذي يمارسه الإنسان على نفسه وضد الآخر. في أحد المشاهد يحكي الجوكر عن ندوبه فيقول إنها من فعل الأب (عنف ممارس ضده من آخر)، وفي مشهد آخر يخبرنا أنه من أحدثها لنفسه (عنف يمارسه الإنسان ضد نفسه)، أو بمصطلحات سيكولوجية فالجوكر مثل لوحات «بيكون» يتأرجح بين السادية والمازوخية.

نقاد بيكون يرون فنه كانتقام موجه نحو الأب ويمكننا أن نرى ذلك فيما يفعل الجوكر أيضًا، فمحاولته لإثارة الفوضى في جوثام هو انتقامه الموجه ضد الأب والممثل في النظام أو القانون الحاكم. الأب الذي كان يفترض به أن يحميه فكان أول من انتهك روحه.


شخصيات فارس الظلام في مرايا التحليل النفسي

كانت شخصية الجوكر مهمة جدًا بالنسبة لي في فارس الظلام، ما تمنحة الشخصية للفيلم يكمن في حقيقة أن كل دوافعها هو استفزاز الآخرين ودفعهم لحدودهم القصوى، يجد منظومة القواعد التي تحكمهم ويقلبهم ضدها.
«كريستوفر نولان» عن شخصية الجوكر

يقسم فرويد الشخصية إلى ثلاثة أقسام: الهو؛ مستودع الرغبات والغرائز البدائية ومستقر ما هو مكبوت ومحرم، والجانب المظلم والفوضوي من الشخصية الذي لا يخضع للعقل ولا المنطق ولا الواقع. والأنا: هو الجزء من الشخصية الذي يخطط بواقعية لإشباع غرائز الهو ومحاولة ضبط اندفاعاتها. والأنا الأعلى: هو ما يبقي ما فينا من طفولتنا حيث اعتمادنا على الوالدين وخضوعنا لأوامرهما ونواهيهما، الأنا الأعلى هو الضمير، التقاليد، القانون العام.

بتطبيق ما تبقى على فيلم فارس الظلام سيتضح أن الجوكر يجسد الهو (ما هو مظلم وفوضوي في حالة جموح)، «هارفي دينت» يمثل الأنا، بينما الأنا الأعلى ممثل في قانون جوثام الذي يحكم المدينة.

الصراع الرئيسي في الفيلم ليس بين الجوكر وباتمان، بل بين الجوكر وهارفي دينت. هارفي ذو الوجهين، فارس المدينة الأبيض وممثل قانونها، مع لمحات من جانبه المظلم كتصويب مسدس تجاه أحد المتهمين في قاعة المحكمة. تبدو هذه الاندفاعات المظلمة تحت السيطرة لحين ظهور الجوكر والذي يستمر في دفعه إلى حدوده القصوى، إلى نقطة اللاعودة.

هارفي إذن يمثل الأنا الممزق بين جانبه المظلم (الهو/ الجوكر)، وبين القانون الذي يمثله (الأنا الأعلى). الصراع بين الأنا والهو يشبهه فرويد بفارس يحاول أن يروض حصانًا جامحًا. ما يحدث هنا هو أن الحصان يطرح فارسه أرضًا مسقطًا قناعه وكاشفًا عما تحته من ظلام.

الصراع بين باتمان والجوكر هنا أقل مركزية، فهما يتحركان على نفس الجانب ولكن في اتجاهين متضادين فكلاهما يخرق القانون، وكلاهما غريب في نظر المجتمع، وكلاهما جريح في أعماقه. نحن نعرف جيدًا جرح باتمان لكن نولان يجعل ماضي الجوكر غامضًا حتى النهاية سائرًا على منوال«آلان مور» الذي جدد قبل نولان في شخصية الجوكر في قصته المصورة «المزحة القاتلة». يقول مور:

هذا ما يفعله نولان في فارس الظلام، فتضارب حكاياته عن أصل ندوب وجهه يجعل هذه الحكايات مجرد احتمالات بين احتمالات أخرى وإن كان لا ينفي حدوثها.

باتمان بخرقه للقانون يرغب في تثبيته في النهاية، بينما الجوكر يرغب في الفوضى وفي تخريب كل القوانين لأنها في نظره زائفة. لكن لماذا كان تأثير الجوكر أقل على باتمان من هارفي دينت؟

شخصية باتمان أكثر تماسكًا لأن الأنا الأعلى عنده أقوى، فشخصية الأب بالنسبة له كانت المثال الذي يسعى للتوحد معه، بالإضافة لأن أناه محكومة بعقدة ذنب تجعله أكثر التصاقًا بالأب وقانونه حتى وإن اضطر لخرقه أحيانًا. ولماذا يريد الجوكر أن يدمر كل قانون؟ لأن القانون هو امتداد لسلطة الأب الذي يكرهه، الأب الذي كان مفترضًا أن يحميه بمقتضى مكانه كأب لكنه كان مصدر ندوبه المفتوحة.


كيف ترسم حكايتا الندوب ملامح شخصية الجوكر؟

الحكايتان التي يحكيهما الجوكر عن مصدر الندوب في وجهه وإن كانتا مختلفتين فلهما دلالات هامة لفهم شخصية الجوكر. في الحكايتين يتم خيانته من شخصين يكنّ لهما كل الثقة وكل المحبة؛ الأب والزوجة. ما يجعله لاحقًا يفقد الثقة في كل العلاقات، فهو وحيد دائمًا يتخلص من شركائه أولاً بأول.

إحدى النظريات التي تفسر تكوين الشخصية تسمى «Object Relations Theory» وتتلخص في أن كل الاضطرابات النفسية التي تلحق بالشخصية مستقبلاً نابعة من فقدان الثقة في جودة العلاقات الإنسانية نتيجة مشاكل في العلاقة بين الطفل من ناحية والأم والأب من الناحية الأخرى أثناء فترة الطفولة.

الحكاية الثانية هي حكاية الزوجة مدمنة القمار التي تسببت ديونها في أن قام الدائنون بتشويه وجهها، وبدافع من إثبات ولائه لها وتمسكه بها يقوم الجوكر بتشويه نفسه هو الآخر بإحداث هذه الندوب في وجهه، لكن المفارقة أن الزوجة هي التي تتركه. إنه بتلك الفعلة يكون قد حول وجهه إلى مرآة تذكر الزوجة بوجهها المشوه وهذا ما لم تحتمله.

لكن الأهم أن الحكاية تخبرنا عن الطريقة التي يفكر بها الجوكر وهي طريقة ملتوية، فبدلاً من أن ينفي غرابة أطواره يحاول أن يثبت للآخرين أنهم يشبهونه ولكنهم لم يكتشفوا ذلك بعد. إنه يحاول أن يسقط أقنعة الجميع كاشفًا عن الظلام الكامن في أعماقهم.

الجوكر لا يسعى أبدًا لقتل باتمان. يقول لبات مان: «ماذا سأفعل بدونك؟» إنه شريكه في الغرابة لكنه الغريب المحبوب وفي النهاية ينجح الجوكر في تحويله إلى مطارد هو الآخر ومنبوذ من الجميع.

ما يحاول الجوكر إثباته ونجح فيه عبر التحول الذي حدث لهارفي دينت، هو استبصار سيكولوجي يستحق التأمل: أن شخصية الإنسان​ تخضع في تطورها للاحتمالات والصدف وهو ما توحي به فكرة العملة المعدنية التي يمتلكها هارفي دينت، هل كان باتمان سيصير باتمان لو لم يسقط في كهف الخفافيش؟ أو لو سقط فيه وكان والده فقيرًا وليس مليونيرًا؟ هل كان هارفي دينت سيتحول إلى قاتل لو لم يظهر الجوكر؟ ماذا لو تبادلا الأدوار معًا؟


الجوكر: «هيث ليدجر» وأغنية البجعة الأخيرة

ينبغي لماضيه أن يظل مجهولاً، وإذا أردنا أن نضيئه ينبغي أن نجعله قابلاً لكل الاحتمالات.

ليس بوسعنا الحديث عن فيلم نولان أو شخصية الجوكر دون الحديث عن الأداء المدهش لهيث ليدجر والذي كان آخر ما قدمه حيث توفي قبيل العرض الجماهيري للفيلم فكان أغنيته الاسثنائية والأخيرة. جوكر فارس الظلام ينتمي لليدجر تمامًا مثلما ينتمي لنولان.

اقرأ أيضًا:سيناريو صحفي: الأيام الأخيرة في حياة «هيث ليدجر»

إعداد ليدجر للشخصية كان أقرب لطقوس استحضار الأرواح، فقد حبس نفسه في الظلام لمدة ستة أسابيع في غرفة بفندق محاولاً العثور على صوت الشخصية. كان الصوت مهمًا بالنسبة له لأن الصوت سيمنحه أنفاس الشحصية التي سيسكنها. إحدى عقبات ليدجر وأحد أسباب قلقه كان الأداء الذي قدمه نجم استثنائي مثل «جاك نيكلسون» لشخصية الجوكر في النسخة التي أخرجها «تيم بيرتون».

كان ليدجر يتساءل كيف يمكن تقديم الجوكر بعد نيكلسون دون أن تصير نسخة منه. لكن بعد أداء ليدجر للشخصية والذي تجاوز بلا شك ما قدمه نيكلسون، صار هو العقبة الأكبر أمام كل من سيفكر في المستقبل في تقديم شخصية الجوكر.