في العام 1909، وقف الصحفي أحمد حلمي أمام القضاء بتهمة العيب في ذات ولي الأمر، ونال لقاء ذلك حُكمًا بالسجن 10 أشهر، مع تعطيل جريدته وإعدام كل ما يُضبط منها، ومنذ ذلك الحين انطلقت كرة اللهب التي راحت تحصد حُريات الصحفيين والتهمة جاهزة «العيب في ذات الملك»، «العيب في ذات رئيس الجمهورية»، «العيب في أي حاجة».

من وقتها تعددت المحاكمات وطالت كبار قامات «صاحبة الجلالة» من عباس العقاد وحتى بديع خيري، ومن بيرم التونسي وحتى أمين الرافعي، ومن أحمد لطفي السيد إلى محمد التابعي، وصار الصحفي مدانًا دائمًا إلى أن تثبت براءته، ومع مرور السنين وتكرار الوقائع تفننت السُلطة في إضافة لمسات جديدة لتجعل الصحفي يصمت للأبد!

ولأن الصحفي زاده الكلمة وعتاده الحكي، فإن كثيرًا من «مساجين عيب الذات» لم يعتبروا أنفسهم مسجونين، وإنما هُم مرسلون في مهمة مهنية غير عادية لسبر أغوار هذا العالم الغامض المختفي وراء الجدران السميكة والقضبان الغليظة، لذا كثرت المقالات والكتب التي رصد فيها أهل الرأي تجاربهم فيه وتنوعت بين أنظمة حُكم مختلفة، تعاقب الزعماء على الكرسي وبقي الصحفي عدوًا للجميع.

«اتربيت ولا لسه يا إحسان»

بدأت أكتب ملحمة
وليا یا عندك مظلمة
أوضتي تمللي مضلمة
دي تبقى هي المكرمة

عن ثورة الشعب العظیم
یا حضرة الأب الرحیم
إبعت لي لمبة یا كریم
وهوا دا الفضل العمیم
أحمد فؤاد نجم، ديوان «صور من الحياة والسجن»

تقول دكتورة أميرة أبو الفتوح في كتابها «إحسان عبدالقدوس.. يتذكر»، إنه على الرغم من هجومه الضاري على رموز حُكم الملك فاروق، وتعرضه للسجن عدة مرات بسبب اتهامات من نوعية «العيب في الذات الملكية» أو «العيب في ذات السفير البريطاني» فإن فترة حبسه لم تتجاوز بضعة أيام كان يُفرج عنه بعدها سريعًا، ويبدو أن نفسه كانت ممتلئة بالثقة بأن أصدقاءه الضباط الأحرار لن يمسوه بسوء حين فتح النار عليهم عبر مقالته الشهيرة ويتهمهم فيها بإدارة البلاد كجمعية سرية، إلا أن توقعاته خابت، فبعد نشره بـ10 أيام وفي فجر الـ28 من أبريل/ نيسان من العام 1954م، ألقوا القبض عليه فجرًا بتهمة قلب نظام الحكم، ولم تُجرِ النيابة معه أي تحقيق، وإنما قام رجال المخابرات بالواجب كله، وكان هذا أكثر ما يخيف لأن «الحقوق التي تكفلها لوائح السجون المصرية لا وجود لها بالنسبة لأي سجين على ذمة المخابرات».

قال إحسان: «التهمة كانت إهانة شخصية، أكثر منها وسيلة للاعتداء على حريتي، أو سلمًا يصعد به خصومي كي ينالوا رقبتي التي لم يفكر زبانية فاروق في الوصول إليها»، ويعتبر أنها تجربة وُضعت فيها وطنيته موضع الاختبار «بأمر الأصدقاء وشركاء المبدأ والفكر الثوري».

يحكي أن الأسابيع الأولى من وجوده داخل الزنزانة الانفرادية بالسجن الحربي مرت عليه عصيبة، «كل دقيقة منها تنخر في أعصابه، حتى أصبح جسده كله أعصاباً ملتهبة»، وبعدها بدأ في مرحلة المقاومة ليغالب عذابه الداخلي حتى انتصر على نفسه وعلى التجربة، بعد ما نسي وجوده ككائن حي! وأن يكيِف حياته على الحدود الجديدة بالغة الضيق.

وفي سبيل بلوغ هذا النسيان داخل «قبر الأحياء»، قطع كل صلة له بالحياة، أخفى صورة أولاده التي كان يحملها معه، وأخفى الكتب التي سُمح لها، وحتى الساعة خبأها حتى لا يشعر بالزمن الذي يمرُّ به، وقتها أحس بضعف لذيذ وبراءة! فلقد قرر أن ينتصر على خصومه بألا يُظهر أمامهم ضعفه البشري، وقرر ألا يجثو ولو حتى بالكلمة أمام «الباشجاويش يس» الرمز الحي للحُكم ورجاله أمامه.

أما عما كان يُقدم له من طعام فوصفه بأنه «أشياء عجيبة تعجز أبالسة الجحيم عن تحديد ماهيتها»، لذا كانت زوجته تهرّب له الطعام مع السجان لقاء رشوة نصف ريال، وداخل الزنزانة كان أكثر سؤال راح يلح عليه: ما هو موقف أمي؟

ما لم يكن يعلمه حينها، أن أول رد فعل للصحفية الكبيرة فاطمة اليوسف على اعتقاله، هو أنها تجاهلت الثورة تمامًا بصحيفتها، وهكذا خرجت إلى النور الأعداد بين 1348 و1366 طوال فترة سجنه (28 أبريل وحتى 31 يوليو) لم ترد بها كلمة واحدة عن ثورة 23 يوليو وكأنها لم تقم في البلاد، كما صدّرت صفحاتها بعناوين غير مباشرة ذات دلالات انتقادية صارخة مثل: «المهدي يظهر في مصر»، و«هتلر.. هل كان مجرمًا أم بطلاً؟!»، «نريد معنى جديدًا للبطولة»، و«الإسلام.. حرية وشورى ومساواة» وغيرها من العناوين بريئة الظاهر خطرة الباطن، وعندما قيل لها إنها مدعوة للقاء عبدالناصر رفضت لقاءه، فأرسل إليها محمد حسنين هيكل للتفاوض على شروط رفع الحظر، وفشلا في التوصل إلى اتفاق.

ولما كان السجن قد حال بين إحسان ومجتمع روز اليوسف، كان عليه البحث عن مجتمع جديد، وهذه المرة وجد بغيته في الخيال، وقرر إيهام نفسه بأنه يعيش بالجنة، وهكذا رأى المعتقلين كملائكة تسير فوق قطع السحاب.

وجنود الحراسة بأنهم حراس الجنة، بل وأطلق على أحدهم ويُدعى «الباشجاويش يس» لقب «سيدنا رضوان».

ويؤكد إحسان أن حارس السجن هو ترمومتر صادق الدلالة للظروف المحيطة بالسجن، وابتسامته له لا تعني إلا أحد أمرين؛ البراءة أو كارثة كبيرة، لذا عندما فوجئ بالحارس في أحد الأيام يفتح عليه الباب ويحييه باحترام مبالغ أحس بالشك في نفسه! لكن الرجل لم يتركه نهبًا لشكِّه كثيرًا، وإنما عالجه بسرعة قائلاً: مبروك يا بيه.. حتوحشنا!

أُفرج عن إحسان بعدما قضى 95 يوماً محبوساً في الزنزانة رقم 19 بأمر من أصدقائه الألداء الأحرار، وما أن دخل البيت حتى دقَّ جرس التليفون، رفع السماعة متوقعاً أن تكون المكالمة من أمه أو أحد زملائه، فإذا به يسمع صوت جمال عبدالناصر! الذي قاله له ضاحكًا: «اتربيت ولا لسه يا إحسان؟ تعالَ افطر معايا».

محمود السعدني: الموت بالتقسيط المريح

القضبان زي الغربان
لیل ونهار واقفین ددبان
دنیا كئیبة سواد في سواد
حتى النور لون القطران
أحمد فؤاد نجم، ديوان «صور من الحياة والسجن»

أما الصحفي الساخر محمود السعدني فلقد استعرض تجربته وراء القبضان عبر كتابيه «الولد الشقي في السجن» و«الطريق إلى زمش»، يحكي أنه دخل السجن 3 مرات، كلها لأسباب سياسية، في المرة الأولى لأنه كان ضد الحكومة، وفي الثانية، لأنه اتخذ موقف الحياد، وفي الثالثة، لأنه أيّد الحكومة!

ويؤكد أنه من زامله في المعتقل كانوا أساتذة جامعة ومديرو عموم ووكلاء وزارة وبرلمانيون ونواب وزراء ومستشارون برئاسة الجمهورية، وأعضاء في تنظيم الضباط الأحرار!

يحكي أنه تمنى لو وُلد فلاحًا يسرح في الغيطان على كيفه، وينام في الوقت الذي يريده، لكن «ملعون أبو المدنية، وملعون أبو السياسة، وملعون أي نظام يأخذ الناس بالشبهات ويسجنهم بدون حُكم من القاضي»، ويضيف: اا يوجد في أوروبا مواطن مسجون لأنه ضد سياسة تاتشر، أو لأن وجهة نظره تختلف مع وجهة نظر ميتران، لأن هناك كل مواطن له رأي، وكل صاحب رأي محترم حتى لو كان رأيه يخالف رأي الحكومة، ولكن ما العمل والميلاد نفسه قسمة ونصيب؟

ويشرح أنه تمنى لو كان ما خاضه سجنًا لأن المسجون له حقوق تنظمها اللوائح، «ولكننا أشبه بالمخطوفين، فلا أحد يعرف مكاننا، ولا حقوق لنا، ولا أحد يعرف متى الخروج من هذه الكارثة».

بعد نقله لسجن الواحات واجهته معضلة كبرى، وهي أن المعتقلين تم توزيعهم على العنابر وفقاً لانتمائهم الحزبي، وهنا ظهرت مشكلة المستقلين غير المنتمين لأي تنظيم مثله، وهنا ابتكر السعدني اسماً ساخراً لتنظيم وهمي سماه «زمش» لمواجهة حالة عدم الانتماء، وهي الحروف الثلاثة الأولى لجملة «زي ما انتَ شايف»، ضم فيه كل غير المنضمين لأي حزب بلغ عددهم 25 عضواً، والعجيب أن الأمن تعامل مع هذا التنظيم بجدية، وحققوا معه بشأنه قبل خروجه من السجن.

وفي أحد أيام سجن الواحات الثقيلة تلقوا ضيفًا رهيبًا هو وكيل مصلحة السجون اللواء إسماعيل همت (ظهر اسمه كثيرًا في قضايا تعذيب متنوعة، مثلما اعترف عليه رفعت السعيد الرئيس الراحل لحزب التجمع، وتورطه في تصفية القيادي الشيوعي شهدي عطية داخل السجن، وهي القضية التي أثارت جدلاً دوليًا وأجبرت الرئيس عبدالناصر على إحالته للتقاعد)، المهم أن سيادة اللواء همت أمر بإخراج المساجين من زنازينهم ضربًا بالأحزمة والكرابيج السوداني، ثم حلقوا رؤوسهم زيرو، قبل أن يجبروهم على السجود أمامه عرايا! قبل أن يمر شاويش أمعن بضربهم بشومته على مؤخراتهم، بينما الضيف يقهقه جذلاً، ثم انتقى بعض المعتقلين وأمر بجلدهم حتى فقدوا الوعي، وهي المواقف التي جلبت للسعدني موجة ضحك لم يملك مقاومتها!

وبالرغم من الإهانات المتتالية التي تعرض لها السعدني في السجن، فإنه حرص على الإشادة بمأموره واعتبره ضابطاً محترماً، لم يتورط في جرائم قتل كغيره، لذا حرص على زيارته بعدها أكثر مرة، وشرح له المأمور حينها أنه لم يكن قادراً على الظهور بمظهره الحقيقي وإلا كان مصيره السجن بدوره!

بعد عامين تقريبًا، خرج السعدني ليجد أسرته قد اضطرت للتخلي عن شقتها السكنية ولجأت لبيت والده، الذي أصابه انفجار بالمخ أرقده بين الحياة والموت على الفراش، وابنته هالة أصيبت بشلل احتاجت لـ15 عاماً من العمليات المتتالية كي تبرأ منه.

ولكن هذا لم يمنعه من تكرار التجربة مجددًا عام 1971، وهذه المرة كانت في سجن القناطر، ذي الأسوار الغليظة والأبراج المزودة بالكشافات والحراس، والذي يتميز بأشجار الجميز العتيقة التي تحفُّ به من كل جانب، وبالفئران الضخمة التي تقرض المكاتب والمقاعد وأبواب الزنازين، قبل أن يصطادها المسجونون القدامى ويشوونها على النار، طعمها أفضل مرة من لحم «وارد المقابر» الذي تجلبه الإدارة بصحبة طبيخ هو «مزيج من أعشاب وتراب وطين».

يقول السعدني: بعد أن ترددتُ على جميع السجون الحربية والمدنية، وبعد أن ذقت جميع أنواع الصفعات والشلاليت، ومارست الأشغال الشاقة في صحراء الواحات، أستطيع أن أقول إن السجن ليس رادعًا وليس وسيلة للعقاب، وإنما يعتبره عملية قتل للمسجون على مراحل، إنها الموت نفسه ولكن بالتقسيط المريح.

مصطفى أمين: صانع السوط الذي ألهب ظهره

يا حمزة يا ابن البسيوني :: أعوانك يوماً جلدوني
كتبوا في جسدي ملحمة :: بسياط الباغي المأفون
لا دين لهم.. ولسيدهم :: والظلم يعيش بلا دين
الشاعر محمود شوير

يحكي مصطفى أمين في ثلاثية كُتبه «سنة أولى سجن»، «سنة تانية سجن»، «سنة تالتة سجن»، أنه تنقل بين عدة سجون؛ القبة السجن الحربي، الاستئناف ثم سجن القناطر الخيرية، ثم ليمان طرة، في البداية كان ممنوعاً عليه القلم والورقة حتى لو كان ورق تواليت، وعلى الرغم من ذلك فكان يحتال على الأمر بمعاونة بعض السجناء ليكتب رسائل يهربها إلى أخيه علي أمين وصديقه سعيد فريحة، ولما خرج من السجن عكف على جمع معظمها، ونشرها في كتاب كبير من 3 أجزاء.

يقول: قُبض عليّ في عهد النحاس سنة 1951 ستاً وعشرين مرة، ولكني كنت أدفع كفالة وأخرج من السجن، ولم يفكر أن يدبر لي تهمة أو يحاكمني على جريمة أنا بريء منها، ويؤكد كلامه بأن الفريق عزيز المصري باشا (الأب الروحي لثورة يوليو) قُبض عليه عام 1941 كان يُصرف له 10 جنيهات في اليوم لخدمة مصاريفه، وخُصص لها ضابط شرطة يقوم بخدمته في السجن، كان يشتري له الإفطار من جروبي والغداء من سميراميس والعشاء من «شبرد»!

أما الدكتور محمد حسين هيكل فلقد سُجن عام 1924 لأنه كان يهاجم سعد زغلول رئيس الحكمة، فوضع بالسجن، وسُمح له وهو خلف القضبان أن يشرف على رئاسة تحرير جريدته؛ يقابل المحررين ويصحح البروفات ويدير جريدته.

ولكن في عهد الثورة الجديد الذي لطالما بشّر أمين بمقدمه، يشرح أنه لما وفد جاء رجال الأمن إلى منزله للقبض عليه، تصور في بادئ الأمر أنهم مجرد تـأمين لقدوم عبدالناصر لزيارته! فلقد كانت علاقته بالرجل بالغة القوة ودائمي الاتصال ببعضهما، وعندما حدث من قبل وألقي القبض عليه دون علمه، تدخل ناصر وأمر بالإفراج عنه فوراً، لكن لما وضعوا القيد الحديدي في يده وأركبوه سيارة يحرسها عشرات من رجال الأمن، أيقن أن الأمر هذه المرة جدي، ويقول إنه تمنى حينها لو يُرسل خطابًا إلى توأمه يقول له: «احذر أن تعود إل القاهرة! ابقَ في لندن، وجودك في لندن سوف يفيدني، ما دمت مُطلق السراح فلن يستطيعوا قتلي».

اتُهم أمين بأنه يعمل خدمة أمريكا ويقدم أسرار البلد إليها، ويضيف أن المحققين ضغطوا على السفرجي والسائق والسكرتيرة من أجل أن ينتزعوا منهم اعترافاً ضده وفشلوا، ثم لجؤوا إلى التحقيق مع محررات الجريدة، وبعدها منعوا عنه الأكل والشرب، حاول المقاومة قليلاً ولما فشل شرب مياه «التواليت»، وعندنا عرفوا فرّغوا الإناء من مكانه فشرب بوله!

وهو في سجن المخابرات عرّوه من ثيابه وصلبوه في الجدار وانهالوا عليه بالضربات وراحوا ينتزعون شعر جسده، ولما رأى ذلك الفريق حمزة البسيوني، قائد السجن الحربي، اعتبر أن هذا «دلع» وأمر بترحيله إلى السجن الحربي ليرى التعذيب الحقيقي على أصوله، وهناك قال له: «أنا في السجن الحربي القانون والنيابة والمحكمة»، ثم كشف له أن لا أحد يحاسبه على جثث مسجونيه، وأنه دفن كثيرًا من المسجونين في صحراء مدينة نصر، وأنه كلما دفن واحداً منهم تلقى خطاب شكر من المسؤولين أما هو فيمنح القاتل ترقية استثنائية.

هناك استقبله ميمى وليلى وهما كلبان ضخمان أطلقهما عليه البسيوني على سبيل التحية لينهشا لحمه ويمزقا ملابسه، وبعدها اختاروه لأن يكون خادمًا لكلاب المعسكر، وكانت مهتمهم العناية بها وملاعبتها وغسلها يومياً بالماء والصابون، وعندما ماتت واحدة منها راح البسيوني يبكي عليها ويتقبل العزاء من الضباط، ثم أمر بضرب حرّاس الليل مائة جلدة وحبس كل واحد منهم سنة!

لاحظ أيضًا أن ولدًا صغيرًا كان يدخل الزنازين بصحبة كلبين وبعض الحراس، يأمر بتعذيب من يشاء من المحبوسين بالضرب أو بنهش الكلاب، كان يُدعى «البيه الصغير»، عرف فيما بعد أنه ابن أخت حمزة البسيوني، وكان طالبًا بالإعدادي!

يقول: بقيتُ في السجن الحربي شهرين ونصف الشهر، وأسرتي لا تعرف أين أنا، لا أنا حي تزوره، ولا ميت تبكيه، ويدور أهلي عليّ في الجهات يسألون عني، فيكون الجواب الوحيد: «لا نعلم عنه شيئاً»، والمثير للتعجب أن غرف التعذيب كان معلقًا فيها لافتة كبرى مكتوبًا عليها «الله»، وكان بعض الحراس بعد أن ينتهوا من التعذيب يذهبون للصلاة، بدعوى أن «دي نقرة.. ودي نقرة»!

يضيف مصطفى أنه أرسل خطاباً للرئيس عبدالناصر يستعرض له ما وقع عليه من تعذيب ويحذره من جهاز المخابرات الفاسد الذي يخفي عليه الحقاق، ويرجوه أن ينقذ مصر من هذه العصابة، وهو ما لم يحدث بالطبع إلا بعد النكسة.

تم إلغاء مُسمى عيد الأم الذي اقترح أخوه فكرته وجعلوه «عيد الأسرة»، كما حُذف اسمه من ترويسة «أخبار اليوم» كمؤسس لها، ومن تتر فيلم «معبودة الجماهير» كمؤلف له، كما مُنعت الصحف من الحديث عن قضيته إلا من منطلق الإدانة، وإذا همس موظف بالأخبار لصديقه بأنه مقتنع ببراءة مصطفى أمين سُجن معه!

يقول: في بعض الأحيان كنت أشعر أنني تعرضت لهذه التجربة بصفتي صحفياً، وأنني صحفي منتدب لعمل تحقيق في حياة لم يعرفها أحد مثل معرفتي لها، ولقد كنت أنسى أنني الضحية وأمشي وقتي أتفرج وأشاهد وأبحث، كأنني جئت في مهمة صحفية تقتضي أن أكتشف دنيا جديدة مجهولة.

في أحد الأيام زاره هيكل وأخبره أن الرئيس «لا يزال يحبه»!، وأنه يرتب لإعادته للحياة تدريجياً عبر نقله من السجن إلى مستشفى يقضي به بعض الوقت ثم يخرج منه إلى الحياة العادية فالصحافة، ولم يصدقه أمين، بل هاجمه في كتبه أكثر من مرة واتهمه بالكذب عليه، بل وأنه سرق مشروعاته لتطوير مبنى «أخبار اليوم» ونفذها في الأهرام، مؤكدًا أن ما بناه هيكل هو هرم جديد ليدفن فيه الصحافة، لأنه يتصور أنها بحاجة إلى طوب أكثر، بينما هي في حاجة إلى حرية أكثر.

ويُلاحظ في الكتاب تصاعد نبرة السخط التي كانت تكتنفه عن الرئيس عبدالناصر، في البداية كان يلتمس له الأعذار وأنه بالتأكيد سيتدخل ليفرج عنه، ولما لم يحدث وناله ما نال من تعذيب وإهانة بالسجن زاد انتقاده لشخص الرئيس، يقول: الشعب كله مسجون، كله محكوم عليه بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة المؤبدة، ليس فينا أحد بريء، كلنا شركاء في الجريمة، كلنا اشتركنا في صنع السلاسل التي قيدنا بها، في صنع السوط الذي ألهب ظهورنا، في صنع الصنم الذي حكم علينا بالاستعباد، جريمتنا كانت كبيرة، ولهذا كان عقابنا هائلاً.

وبالرغم من هذا، أخبره هيكل في لقاء تالٍ أن الرئيس كان قد أصدر قراراً بالإفراج عنه يوم 23 يوليو 1967 لكن نكسة يونيو اضطرته لتأجيل هذا القرار، لكنه جاهز ومؤكد، وهو الأمر الذي لم يتم أبدًا في عهد عبدالناصر، وإنما أُفرج عنه في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عام 1974م، بعد 9 أعوام قضاها خلف القضبان.

الشاعر محمود شاوير

هيكل.. الأستاذ سجينًا

ديك اليوم لقيت سجان :: ماسك مسجون راميه ع الأرض
وحاطط جزمته الحيان :: على قلب السجين بالعرض
كأنه ماجور بيعجن :: ولسه غشيم بيتعلم
وصاحبنا اللي هو راميه :: نايم في الأرض ومسلم
جبان والذل في طبعه :: وياما شاف هوان ياما
وطنا كده وده شرعه :: مافيش مسجون وله كرامة
أحمد فؤاد نجم، ديوان «صور من الحياة والسجن»

تطرق محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» بشكل سريع إلى تجربة السجن التي ألمّت به في عهد السادات، يحكي أنه حوالي الساعة الثانية صباحًا يوم 3 سبتمبر، تم القبض عليه خلال إقامته بشقته في الإسكندرية بعد ما أكد له الضابط أنه لن يغيب «أكثر من يوم أو يومين»، وعندما خرج من الشقة وجد العمارة كلها محاصرة بثلة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة، وهو ما دفعه لإخبار الضباط بأنه لم يكن هناك داع لهذه القوة لاعتقاله، وكانت تكفيه إشارة تليفونية ليحضر، وكان سيفعلها، لكن كل هذا «انفلات أعصاب»، كما وصف اعتقالات سبتمبر كلها فيما بعد.

في مديرية الأمن بالإسكندرية اكتشف أن الأمر جلل، فهناك المئات من الجنود يحيطون بعشرات السيارات التي تحمل غيره من المعتقلين، تعرف منهم على برلمانيين وقياديين عماليين وقضاة، وبانضمامه انطلق الموكب إلى القاهرة حتى بلغوا منطقة سجون طرة، وهناك أودعوهم في سجن جديد بُني بمعونة أمريكية، كان الاسم المقترح لها حينها «سجن السلام»، حيث صودر كل ما معه من أورق ونقود وأدوية.

يقول: التفت حولي ونحن ما زلنا في صالة استقبال السجن، فإذا مصر كلها تقريبًا، هنالك شخصيات بارزة في الحياة العامة، وساسة مشاهير واقتصاديون، ومقفون وأيضًا رجال دين.

كان يعتقد أنه ستتوفر له «معاملة خاصة»، ولكن اتضح له فورًا أنه واهم بعد ما اقتاده الحراس إلى الزنزانة رقم 14، حيث زامله 9 آخرين لـ3 أشهر تقريبًا، ووفروا له مرتبة مطاط وبطانية، وحينما حاول جندي تزويده بالطعام رفضه فورًا لأن «منظر المعروض عليّ كان كافيًا لصدِّ أي شهية»، لكنه كان عليه بعد فترة أن يتكيف مع الظروف الجديدة؛ فالشاي والقهوة ممنوعان، وأيضًا كميات المياه محدودة، كما أن النافذة المغلقة بالقضبان لم تكن توفر لهم حماية كافية من غارات الذباب نهارًا والناموس ليلاً.

يقول: أكثر ما ساعدني في التجربة الجديدة هو شعور أحسست به منذ اللحظة الأولى للقبض علي، وهو شعور الصحفي أولاً وأخيرًا، لقد وجدت هذا الشعور يعطيني نوعًا من الانسلاخ عن الواقع، أحسست أنني مُراقب يتابع الأحداث أكبر مما هو ضحية من ضحايها، وكنت شديد الثقة، حتى في تلك اللحظات الأولى، أنني سأكتب في يومٍ من الأيام قصة كل ما جرى.

احتفل هيكل بعيد ميلاده الـ58 خلف القضبان، وظلَّ طوال سجنه يشك في أن السادات قد يسعى لتصفيته جسديًا، لكن العجيب أنه لما بلغه يوم 7 أكتوبر نبأ اغتيال السادات اختلى بنفسه في زنزانته وأجهش في البكاء.