كوكب المريخ، الكوكب الأحمر، ثاني أكثر كواكب المجموعة الشمسية دراسة – بالطبع بعد كوكبنا الأزرق – ولكننا لا نعلم تقريبًا أي شيء عن باطنه؛ فيلجأ علماء الفلك إلى النماذج والنظريات، ولكن دون أي أدلة حقيقية ملموسة حتى الآن.

منذ حوالي 4.5 مليار عام، تشكلت الكواكب الثمانية لنظامنا الشمسي. تكونت جميع الكواكب من تكتلات متفرقة من الصخور والجليد والحطام، والتي كانت تدور حول النجم الشاب حينها: الشمس. وبقفزة هائلة في الزمن إلى وقتنا الحاضر، نلاحظ أن هناك اختلافات واضحة بين الكواكب الداخلية القريبة من الشمس والكواكب الخارجية الأبعد.

تمتلك كل الكواكب الأرضية – عكس غازية – (عُطارد، الزهرة، الأرض، المريخ) تركيبًا صخريًا كثيفًا، مع وجود كوكب واحد فقط قادر على دعم الحياة. أما باقي الكواكب الغازية العملاقة (المُشترى، زحل، أورانوس، نبتون) تتكون في المقام الأول من الغازات، وتصل إلى أحجام هائلة. ليظل السؤال الذي حيّر علماء الفلك: كيف تشكلت وتطورت هذه الكواكب الداخلية؟

المسبار الفضائي إنسايت (InSight) وتعني البصيرة، يُشتق الاسم من العبارة الإنجليزية (Interior Exploration using Seismic Investigations, Geodesy and Heat Transport) والتي تعني الاستكشاف الباطني باستخدام التقصي الزلازلي والطبقات السطحية والنقل الحراري، وهو تابع للبرنامج الاستكشافي لوكالة الفضاء الدولية ناسا، قد يجيب عن بعض تلك الأسئلة.

بالطبع هناك برامج استكشافية سابقة للكوكب الأحمر، لكن ما يميز المسبار إنسايت أنه ليس مجرد مهمة استكشافية لسطح المريخ، بل لباطنه، حيث سيسعى للإجابة على أحد الأسئلة الجوهرية في علوم الكواكب والمجموعة الشمسية، وهو فهم العمليات التي شكلت الكواكب الصخرية الداخلية للنظام الشمسي (بما في ذلك الأرض) قبل أكثر من أربعة مليارات عام.


لماذا المريخ؟

تقصّت المهمات السابقة إلى كوكب المريخ سطح الكوكب من خلال فحص خصائص مثل الأخاديد والبراكين والصخور والتربة والمناخ، ولكن لم يحاول أحد استكشاف أولى مراحل تطور الكوكب، اللبنات الأساسية التي لا يمكن العثور عليها إلا بالنظر إلى ما هو أعمق من مجرد السطح.

ولأن المريخ يملك نشاطًا جيولوجيًا أقل من الأرض (على سبيل المثال لا يملك المريخ الصفائح التكتونية، هي نظرية علمية تصف الحركات الكبرى لغلاف الأرض الصخري)، فهو يحتفظ فعليًا بسجلٍ أكثر اكتمالًا لتاريخه في كتل البناء الأساسية الخاصة به: اللب، والغطاء، والقشرة.

فمن خلال دراسة كل من الحجم والسمك والكثافة والهيكل العام لمركز وغطاء وقشرة الكوكب الأحمر، وكذلك معدل تسرب الحرارة من باطنه، ستوفر مهمة المسبار إنسايت لمحات عن العمليات التطورية لكل الكواكب الصخرية الداخلية في النظام الشمسي.

فمن حيث العمليات الأساسية التي تدخل في تشكيل الكواكب، يعتبر كوكب المريخ كوكبًا معتدلًا؛ لأنه كبير بما يكفي ليخضع للتسخين الداخلي الأولي والتمايز (انفصال القشرة والغطاء واللب)، وهي العمليات التي شكلت الكواكب الأرضية جميعًا. ورغم ذلك، فهو صغير بما يكفي ليحتفظ ببصمات هذه العمليات على مدار الأربعة مليارات عام التالية. فضمن مخططاته الهيكلية، قد يحتوي المريخ على السجل الأكثر عمقًا ودقة لهذه العمليات في النظام الشمسي.


المسبار إنسايت

يعتبر مسبار إنسايت التابع لناسا مسبارًا ثابتًا، مصمم خصيصًا لدراسة باطن الكوكب الأحمر؛ حيث سيظل في مكانه، ليس مثل المهمات السابقة الشهيرة التابعة لناسا مثل كوريوسيتي روفر، و سبيريت، و أبورتيونيتي. إذ إن البقاء في مكانه أمر ضروري من أجل أهدافه العلمية الرئيسية، والتي تشمل تعلم المزيد عن تكوين المريخ، ونشاطه التكتوني.

وبحسب ما أعلنت ناسا، بلغت تكلفة المهمة الإجمالية حوالي 814 مليون دولار. ووقع الاختيار على موقع هبوط المسبار إنسايت في الأرض المنبسطة الاستوائية إليسيوم بلانيتيا (Elysium Planitia). وبما أن الغرض من المهمة دراسة باطن كوكب المريخ، فسيتطلب ذلك سطحًا ناعمًا ومستويًا. وتم اختيار هذا الموقع لاعتبارات هبوط المسبار بأمان.


الإطلاق

تم إطلاق المركبة الفضائية التي تحمل المسبار إنسايت تحت سماء ما قبل الفجر من قاعدة فاندنبرج الجوية على الساحل الرئيسي لكاليفورنيا في 5 مايو 2018 الساعة 4:05 صباحًا بتوقيت المحيط الهادي (7:05 صباحًا بالتوقيت الشرقي).

أُطلق المسبار إنسايت من مجمع الإطلاق 3 على صاروخ (Atlas V-401)، ويعد واحدًا من أكبر الصواريخ المتوفرة لمثل هذه المهمات بين الكواكب. وهو نفس نوع الصاروخ الذي أطلق المركبة المدارية لاستكشاف المريخ (Reconnaissance Orbiter) في مارس عام 2005.


سبعة أشهر

في رحلته إلى كوكب المريخ، ابتعد المسبار إنسايت عن الأرض بسرعة 6200 ميل في الساعة (10000 كيلومتر في الساعة). وقد تعقب ملاحو المهمة المركبة الفضائية بشكل شبه مستمر منذ لحظة إطلاقها؛ إذ قام الفريق بتعديل مسار الرحلة عدة مرات خلال سفر المسبار في الفضاء للتأكد من أنه يسير بالسرعة المنسابة وفي الاتجاه الصحيح. واستغرقت الرحلة إلى المريخ حوالي سبعة أشهر، ليقطع المسبار إنسايت مسافة 301 مليون ميل (485 مليون كيلومتر) من الأرض إلى الكوكب الأحمر.


مرحلة الهبوط

وهي أخطر وأصعب مراحل المهمة؛ احتاج المسبار إنسايت أن ينجو من هذه المرحلة المروعة من دخول غلاف المريخ، والنزول ثم الهبوط على السطح بسلام. ففي حوالي 7 دقائق، تعين على المسبار إنسايت التقليل من سرعته التي تبلغ 14100 ميل في الساعة (22692 كيلومتر في الساعة)، ليدخل لغلاف المريخ حتى يتوقف تمامًا على السطح.

وبما أن الغلاف الجوي للمريخ أخف بمائة مرة من غلاف كوكب الأرض، فإن تباطؤ المركبة الفضائية يعد أكثر المهمات صعوبة وخطورة. وللنجاح في هذه المهمة، يُستخدم درعًا حرارية لحماية المسبار،ثم تقوم المركبة الفضائية بفتح مظلة الهبوط، والتخلص من درعها الحرارية وبسط أرجلها. وبعد أن يصل المسبار إلى سرعة هبوط معقولة، يتخلص من المظلة، لتبدأ 12 دافعة نارية في العمل أسفل مركبة الهبوط، وما يسبب الإبطاء الأخير للمسبار قبل الهبوط بسلام على أرض إليسيوم بلانيتيا.

وصل المسبار إنسايت بسلام إلى سطح كوكب المريخ في الساعة 11:52:59 صباحًا بتوقيت المحيط الهادي (2:52:59 مساءً بالتوقيت الشرقي) في 26 نوفمبر من عام 2018.


المهمة العلمية على سطح المريخ

يبدأ المسبار إنسايت عمله على السطح بمجرد هبوطه في الموقع إليسيوم بلانيتيا، ولكن لا يبدأ جمع البيانات العلمية بالكامل حتى حوالي 10 أسابيع بعد الهبوط. وهذا لأن الأدوات والأهداف العلمية للمسبار مختلفة تمامًا عن باقي المهمات السابقة على سطح المريخ. فيمكن تشبيه الأنشطة العلمية للمسبار بالماراثون أكثر من سباق سرعة. كما يجب أن يختار فريق المسبار بعناية مكان وضع الأدوات العلمية الثمينة، والتي ستكون الأولى في رحلتنا إلى مركز الكوكب الأحمر.

حيث سينشر مقياس الزلازل ويحفر حُجرًا لمسبار الحرارة. وسيقوم أيضًا بتنفيذ سلسلة من تجارب العلوم الراديوية لاستكمال دراسات البنية الداخلية للمريخ. ومن المتوقع أن تستمر المهمة لمدة سنتين أرضيتين.

لماذا تم اختيار موقع الهبوط في إليسيوم بلانيتيا؟

ناسا، المريخ، إنسايت، مسبار
ناسا، المريخ، إنسايت، مسبار

موقع هبوط المسبار هو إليسيوم بلانيتيا، وهي أرض سهلية مسطحة، ولكن لم يتم اختيارها بناءً على مميزاتها، بقدر اختيارها لدواعي الأمان والهبوط بسلام؛ فالغرض الأساسي من المهمة هو دراسة باطن الكوكب وليس مجرد السطح. وبالتالي عند عملية اختيار موقع الهبوط، لم يكن من المهم ما هو على السطح كما كان مهمًا بالسنبة للمهمات السابقة والتي ركزت على جيولوجيا الكوكب. وبلانيتيا هي المصطلح اللاتيني للسطح المستو المنبسط السهل، أما إليسيوم تأتي من الاسم اليوناني القديم للجنة.

يقع موقع الهبوط في الجزء الغربي من إليسيوم بلانيتيا، متمركزًا عند خط عرض 4.5 درجة شمالًا وخط طول 135.9 درجة شرقًا. يقع هذا الموقع على بعد 373 ميلًا (600 كيلومتر) من موقع هبوط كوريوسيتي روفر.

يلتقط المسبار إنسايت الصور البانورامية 360 درجة في جميع الاتجاهات في موقع هبوطه. إذ توقع العلماء سطحًا مستويًا، وعدم وجود تلال قريبة، وعدد قليل من الصخور الكبيرة. معتمدين في ذلك على صور عالية الجودة مأخوذة من المدار كجزء من التقييمات الدقيقة لاختيار موقع الهبوط.

راعى الفريق أن يكون موقع الهبوط قريبًا بدرجة كافية من خط الاستواء. وهو ما يضمن أن المصفوفة الشمسية للمسبار ستوفر القدر الكافي من الطاقة في جميع أوقات العام، وليبقى المسبار دافئًا. كما يجب أن يكون منخفضًا بما يكفي ليوفر مسافة كبيرة من الغلاف الجوي أعلاه للهبوط الأمن؛ فالمركبة الفضائية تعتمد على الغلاف الجوي للتباطؤ أثناء هبوطها.

ولعبت الكاميرا الخاصة بمستكشف المريخ المداري دورًا مهمًا للغاية في تقييم المواقع المرشحة لهبوط المسبار إنسايت على سطح المريخ؛ إذ التقطت حوالي 150 صورة لهذه المواقع، لتساعد الفريق في اختيار الموقع الأمثل.

ليس أمامنا الآن سوى الانتظار حتى يبدأ المسبار في مهمته العلمية، وكشف الكثير من أسرار ماضي منزلنا الأبدي، مجموعتنا الشمسية.