البداية حين قالت لي ابنتي ذات التسع سنوات: «بابا أنا عرفت (طوبة ورقة مقص) بالإنجليزي، اسمها Rock-Paper-Scissors، وبنعلبها أنا وأصحابي في المدرسة»، حينها جلست مليًّا أفكر في مثل هذه الألعاب التي كانت تنتشر بيننا كأطفال، في عصور «ما قبل الأندرويد»، حينما كان «جوجل بلاي» هو أيادينا، وكانت أصابعنا تُستخدم في ألعاب أذكى وأفضل اجتماعيًا وذهنيًا وتعليميًا من مثيلاتها السخيفة العنيفة الحالية، ومنها:

1. ألعاب التصفيق، وهي تعتمد على نغمات وموسيقى وحركات يدوية، ومنها «هنا مقص وهنا مقص» و«لاعبيني وألاعبك» و«سوسة سوسة كف عروسة».

2. ألعاب اليدين، مثل: «طوبة ورقة مقص» و«كيلو بامية» و«مصارعة الأصابع» و«مصارعة الذراعين» و«صلّح» و«سبّت صنم» و«أي (من آه: تصفيق حاد على اليدين)» و«سبت حد (سحب يديك قبل أن يلمسك خصمك عند جمعة)» و«بوم (سحب يديك قبل رقم 5 ومضاعفاته)» و«البِلي (جمع بلية)» و«هنا ولّا هنا؟» و«الأراجوز» و«خيال الظل» و«الطبق الطائر».

3. ألعاب طاولات وألواح، مثل: «شطرنج» و«طاولة» و«دومينو» و«بنك الحظ» و«مونوبولي» و«أونو» و«كونكت فور» و«بازل» و«روليت» و«بوكر».

4. ألعاب ورق، مثل: «إكس أو «Tic-Tac-Toy» و«أتوبيس كومبليت (stop it’s complete)»، و«كوتشينة» بمسمياتها المختلفة، مثل: «الطرنيب» و«الاستميشن» و«البصرة» و«الكومي».

يا عزيزي إنها تراث

تعد ألعاب اليدين والتصفيق جزءًا من التقاليد التراثية للأطفال والمجتمعات، فهي بمثابة رمز تراثي فولكلوري، وواحدة من أقدم التقاليد المتوارثة والمستمرة لأي أمة، وبعضها يتضمن رموزًا حياتية واجتماعية وسياسية، وفي حين لا يُعرف مخترعها، وهل كان طفلًا أم رجلًا بالغًا أم امرأة، إلا أن نيويورك تايمز ترى أن هذه الألعاب وُلدت من إبداع وبصيرة وخصوصية عقول الأطفال؛ فهم من يصممونها ويتناقلونها ويطورونها، وبخاصة الفتيات، ويمكن لهذه الألعاب أن تطوف بنا حضارات وثقافات العالم.

تتبّع أليكس أندريس (دكتور في الأدب الإنجليزي) تاريخ ألعاب الطاولات والألواح، حيث تشير نقوش جدران مقبرة الملكة نفرتاري إلى لعبها لعبة Senet، وهي إحدى ثلاث ألعاب ألواح مصرية، إلى جانب Mehen وHounds and Jackals.

كذلك عرف الإغريق لعبة Tabula أصل الطاولة، وأضاف الرومان لعبة Latrones أصل الشطرنج، وفي جميع أنحاء الشرق القديم –وبخاصة الصين والهند- لعب الناس ألعاب الألواح، ثم أُعيدت صياغتها بالأفاعي والسلالم (السلم والثعبان) عندما نقلها المستعمرون البريطانيون في العصر الفيكتوري، وحتى القرن السابع عشر كانت هذه الألعاب تقليدية بسيطة تتألف من مربعات أو مثلثات أو ثقوب.

بحلول نهاية القرن الثامن عشر (عصور الرأسمالية) غلب عليها الجانب التجاري والترويجي؛ لتجذب بألوانها وصورها «المستهلكين» وهم الفئة التي استحدثتها الرأسمالية، وكان أغلبها ألعاب سباقات، حيث يحرك اللاعبون القطع في مسارات محددة وفقًا للأرقام من الزهر وأشباهه، وتشمل مربعات آمنة ومربعات للجزاءات والمخاطر والاختصارات، وتنوعت في جمالها وسباقاتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى تطورت متأثرة بالرواية الشهيرة «حول العالم في ثمانين يومًا»، وحادثة صحافية أمريكية سافرت من نيويورك إلى الهند ثم عادت في ثلاثة وسبعين يومًا.

وبعد الثورة الفرنسية، ساهمت السياسة في تطوير ألعاب الورق والطاولات، فغيّر الثوار الفرنسيون «ملك» الشطرنج إلى العَلَم، وأعادوا تصميم أوراق «الكوتشينة»، مستبدلين بصور الملوك والملكات صورًا للقانون والسلام والحرية، وصُبغت الألواح بطابع سياسي، حيث يمر اللاعبون بالأحداث الثورية الكبرى، بدءًا من اقتحام «الباستيل» إلى الجمعية الوطنية للحرية. وفي لندن نُشرت لعبة قومية بريطانية تروي تاريخ العالم، ابتداءً من جنة عدن حتى تنتهي اللعبة عند فيكتوريا ملكة بريطانيا، وأنشأ السوفييت لعبة صحية يجمع اللاعبون في تقدمهم أطفالًا ومشردين، ليتلقوا العلاج من الزهري والسل وإدمان الكحول.

البُعد التاريخي

هناك ألعاب تصفيق أمريكية عدة، أشهرها Pat-a-cake، وMiss Mary Mack، يعتقد البعض أنها مجرد كلمات بلا معنى، لكن البعض الآخر يؤكد أنها تتمتع بخلفية عميقة تعود للعصور القديمة، ويعود بعضها لفترات حصاد المحاصيل أو الأعياد، حيث كان يرددها أطفال العبيد للتلهي عن أهوال الحياة اليومية، والعديد منها يتضمن رموزًا وأسرارًا، ومنها لعبة Miss Mary Mack، التي يشير اسمها إلى حاملة طائرات أمريكية تدعى Merrimack احترقت في إحدى المعارك المهمة في الحرب الأهلية الأمريكية عام 1862، ويقول البعض إن كلمات الأغنية تحمل رموزًا تشير للحزب الجمهوري وتحرير العبيد والحرب الأهلية.

ويمكن أن نرصد كذلك «Dene Games» وهي ألعاب تختبر المهارات الجسدية والعقلية استخدمتها «شعوب Dene» (شعوب كندية قديمة)؛ لإعداد مواطنيها لموسم الصيد وصيد الأسماك والسفر عبر الأراضي الجليدية، فهي تختبر قدراتهم البدنية على التحمل والسرعة ومقاومة الألم وخفة الحركة، فمثلًا: يعد الرجال أصابعهم لحمل الأسماك الثقيلة عن طريق لعبة «شد الأصابع»، حيث يقوم اللاعبون باستخدام أصابعهم كخطافات، وسحبها بأقصى جهد ممكن حتى يستسلم اللاعب الآخر، ولعبة «شد العصا»، بسحب عصا من قبضة الخصم؛ لمحاكاة اصطياد سمكة باليد، وهي رياضات تشبه ألعاب اليد، لكنها تتمتع بأهمية روحية وثقافية وتاريخية؛ إذ تربط السكان بتراثهم وثقافتهم، وتعد جزءًا من المناهج الدراسية الكندية؛ كوسيلة لنقل الثقافة والتاريخ، كما تشارك كألعاب رياضية في مسابقة Arctic Winter Games.

موسوعيًا وتوثيقيًا

جذب تراث هذه الألعاب شغف العديدين، وفي مقدمتهم الزوجان أيونا وبيتر أوبي، وهما من الفلكلوريين الرواد في دراسة ثقافة الطفولة؛ فقد وضعا العديد من الكتب التأريخية الموسوعية حول ألعاب الأطفال وأناشيدهم، وتعد أعمالهما بمثابة كنز أرشيفي تراثي نادر يضم حصيلة 40 عامًا من العمل البحثي الموسّع، من خلال موسوعات عدة، منها «قاموس أكسفورد للحضانة» (1951)، الذي يضم أكثر من 500 أغنية ونشيد وتهويدة، مصحوبة بتاريخها وتغيراتها، وكذلك «تقاليد ولغة تلاميذ المدارس» (1959)، و«ألعاب الأطفال في الشوارع والملاعب» (1969)، وهما كتابان يضمان مجموعة لا تُضاهى من أحاجي الأطفال وألعاب الغناء والتصفيق.

وفي فيلمها الوثائقي «هيا بنا نلعب: حياة وأوقات الآنسة ماري ماك»، ترصد «إيرين شاجال» تاريخ وانتشار ألعاب التصفيق؛ لتؤكد أنها تقاليد غنية من الأدب الشعبي، تعكس التاريخ والهوية الفريدة للمجتمع، وتوضح الخيال المشترك للأطفال وحيوية الإيقاعات والحركات، ويلفت فيلمها الانتباه إلى الأهمية الاجتماعية والإنسانية لألعاب التصفيق التي تعبر حواجز اللغة والمسافات؛ لتعبّر في تلقائية عن مجموعة واسعة من أنماط التصفيق والقوافي.

وفي كتابها «ألعاب الفتيات السوداوات» ترى «كيرا جاونت»، عالمة الموسيقى العرقية، أن الأطفال ينتبهون للموضوعات والمحادثات التي يسمعونها في مجتمعهم أو من أحاديث آبائهم، ويدمجونها بطريقة ذكية في ألعاب التصفيق التي يبتكرونها باستخدام كلمات ورموز حسية تتطرق لموضوعات ذات مغزى عميق، وترى أن ألعاب التصفيق تعد شكلًا من أشكال الموسيقى الشعبية السوداء، ونوعًا من الأفكار التي ساهمت في تشكيل هوية الأمريكيين من أصل أفريقي، وعبّرت عنهم وعن تميزهم، من خلال أصواتهم الموسيقية وحركاتهم الجسدية، وفي رأيها أنه يمكن من خلال هذه الألعاب عمل دراسات جنسانية لفهم كيفية تفاعل الرجال والنساء مع الموسيقى، في ظل أنها تنبع من الممارسات والتقاليد المنقولة ثقافيًا، وتلعب فيها اللغة الشفهية والحركة المتجسدة دورًا مهمًا في البناء الاجتماعي، وتقدم تجارب موسيقية وثقافية وشخصية تساهم في تشكيل الثقافة والفكر والهوية العرقية.

«ومن اليد ما نفع»

تتميز هذه الألعاب بعدة منافع عقلية وجسدية ومجتمعية مقارنة بألعاب الهاتف والفيديو، فبالرغم من أن الألعاب التكنولوجية الحديثة مكّنت من تكوين صداقات من خلال مشاركة اللعب وأخبار الألعاب، وربما تكون أكثر إمتاعًا وتنميةً للعقل، لكنها ربطت الناس بالشاشات والبرمجة وليس ببعضهم البعض. في الوقت نفسه تتميز ألعاب اليدين والتصفيق بتنوعها وسهولتها وبساطتها، وتساعد على تعلم وممارسة النغمات والإيقاعات بشكل مذهل ومتنوع، ويمكن تعديلها لابتكار إيقاع خاص أو كلمات خاصة أو أنشودة تهدف لتعليم أمر ديني أو تربوي، فضلًا عما توفره ممارستها من متعة وسعادة، وكلها أمور لا تحققها -غالبًا- ألعاب الهاتف والفيديو التي تبهر لكنها تفتقد شيئًا ما، ربما البساطة وإمكانية التعديل التي توفرها ألعاب اليدين، الأمر بسيط: تحتاج إلى يدين، وأحيانًا قلم وورق.

كما تتميز بقابليتها لتغيير الكلمات؛ لإضفاء مزيد من الخصوصية والابتكار، وتعتمد على الإيقاع والعمل الجماعي، والإستراتيجيات العقلية والحركية البسيطة، وتساهم في التسلية وزيادة المرح والتنافس، وتساعد في التدريب على التحكم والتوقع وسرعة رد الفعل وفهم لغة الجسد، والمناورة باليدين وخفة الحركة أو الثبات، وتزيد من قوة ومرونة اليد والأصابع، وتساعد على الابتكار وتعلّم الكلمات والأرقام والنغمات، كما تجمع الأطفال في المنازل والشوارع وساحات المدارس، وهو أمر نفتقده كثيرًا، في ظل أن الشوارع لم تعد آمنة، ولم تعد ساحات المدارس إلا «حَلَبات» للتنمر، ولم تعد المنازل تجمع أفرادها، بل كل من فيها يُحدِّق بهاتفه.

صحتك في ألعاب يدك

تزيد هذه الألعاب من مهارة التنسيق بين اليد والعين، وبين اليد والنغمات المسموعة، وهي بذلك تشبه مهارات الحواس الجديدة، مثل الكتابة وركوب الدراجة، والتي تتطلب نمطًا تنسيقيًا بين الرؤية والحركة؛ للتمكّن من هذه المهارات؛ إذ تُظهر الأبحاث أن ألعاب التصفيق تعمل على تحسين المهارات الحركية والمعرفية، ومهارات الاندماج الاجتماعي، وتساعد على تحسين خطوط الكتابة باليد، وتقليل الأخطاء الإملائية والكتابية، وعلاج مشاكل تنمية التعلّم، مثل عُسر القراءة، وضعف القدرات المعرفية والحركية؛ لأنها بمثابة أنشطة لتدريب الدماغ، وتنمية النشاط الحركي والمعرفي.

وقد وجدت دراسة عن تأثير التصفيق اليدوي أن ألعاب التصفيق تعمل على تعزيز نمو احتياجات الأطفال العاطفية، والاجتماعية، والفسيولوجية، والمعرفية، لتعمل كمرحلة انتقالية تقودهم إلى المراحل التالية من النمو، كما أن نشاط التصفيق اليدوي له تأثير إيجابي على البالغين، ويجعلهم أكثر تركيزًا وأقل توترًا؛ لأن التقنيات الحركية والإيقاعية لهذه الألعاب مرتبطة بالطفولة، والكثير من البالغين عند ممارستها يشعرون بمزيد من اليقظة والحيوية والسعادة.

من جانب آخر، فإن الألعاب الإلكترونية تشترك مع ألعاب اليدين والتصفيق فيما تُكسبه من مهارات لممارسيها؛ إذ وجدت دراسة بجامعة تورنتو أن ألعاب الفيديو العملية تعزز مهارات الحواس وتنسيق حركات اليد والجسد، وتساعد على تعلم نمط جديد للربط بين مهارات وقدرات الحواس الجسدية، وفي الوقت نفسه تتميز ألعاب اليدين والتصفيق بأنها لا تسبب أضرار الألعاب الإلكترونية التي تؤثر سلبًا على اليد، وتضعف المفصل والأصابع؛ بسبب الحركات المتكررة بإفراط، والأوضاع الخاطئة للمعصم، والضغط الطويل على أزرار الهاتف والماوس وJoystick لأوقات طويلة تقضيها يد اللاعب بنمط ثابت ووضعية جامدة بلا حركات مفيدة، كمثل التي توفرها ألعاب اليدين والتصفيق.

تعد ألعاب اليدين والتصفيق إبداعات إنسانية تساعدنا في الكشف عن رغباتنا، وتتمتع بثراء مجتمعي وتراثي، لذلك لا عجب في أن تكون جزءًا من التاريخ والحياة، لذا تذكر وأنت تتصفح «جوجل بلاي» في المرة القادمة أن يديك قادرتان على فعل أكثر من مجرد الضغط المتكرر والساذج على الأزرار.