لم يتفق المؤرخون على عام ميلاد المسيح، فبحسب ما ورد في إنجيل متى ولوقا، أن المسيح وُلد أيام حكم الإمبراطور «هيردوس» فلسطين أي قبل عام 3 ق.م، بينما حدد إنجيل يوحنا مولده بين عامي 1 – 3 ق.م، وأما «إكلمنت السكندري» وهو مُبشر بالمسيحية في 211م ويُذكر من ضمن الشهداء في تاريخ المسيحية، فاعتبر أن المسيح ولد في السابع عشر من نوفمبر من العالم الثالث ق.م.

ولد المسيح من نسل عائلة يهودية، في بيت لحم في فلسطين، وبعدها حدثت الحكاية الشهيرة وهي هروب العائلة المقدسة إلى مصر، خوفًا من بطش الإمبراطور الروماني «هيردوس»، وبعد موته قُسِّمت فلسطين بين أبنائه الثلاثة، فقرر الإمبراطور «أوغسطوس» الروماني أن تكون منطقة يهوذا والسامرة وإدوميا لأرخيلاوس، ومنطقة الجليل وبيريا لهيرودوس أنتيباس، ومنطقة الشمال الشرقي لبحيرة الجليل لفيليبوس.

لم يُمنح «أرخيلاوس» السلطة الكاملة على مقاطعته، لما له من تاريخ وحشي أدى إلى نفيه إلى بلاد الغال، فحلَّ محله موظف روماني يُسمى «الوالي» وكان مسئولًا أمام حاكم سوريا، وتتابع الولاة بانتظام على حكم مقاطعة «اليهودية» وهي مقاطعة Judea وعاصمتها أورشاليم، وهي مقاطعة قامت على جزء من أراضي مملكة يهوذا قديمًا Judah، وفق التقسيمات الأقدم للمملكة السلوقية[1].

عندما عادت العائلة المقدسة إلى فلسطين لم تذهب إلى بيت لحم، فبُلِّغ يوسف النجار في الحلم عن طريق ملاك بأن يذهب إلى الجليل، خوفًا من بطش «أرخيلاوس» في بيت لحم، ومن هنا بدأت حياة المسيح تأخذ شكلًا إعجازيًّا آخر، فكان المسيح من نسل الملك داود، وهو مَنْ تنبأ به إشعياء النبي في سفره، بأنه المُخلِّص الذي سيأتي ليجمع اليهود مرة أخرى ويقودهم، ومع ذلك لم يؤمن به كل اليهود، فالفرق اليهودية آنذاك كان لها نفوذ وسيطرة كبيرة على الهيكل وعلى مقاليد الحياة، سواء الاقتصادية أو الدينية أو الاجتماعية، فمعنى أن يؤمنوا به هو زوال سلطانهم، ولكن إذا كان المسيح يهوديًّا في الأصل، فأي فرق يهودية انتسب لها المسيح في ذلك الوقت.

اختلفت الفرق اليهودية في ذلك الوقت في العقيدة وفي الطقوس التي كانوا يمارسونها، ومن أشهر الفرق التي انتشرت في زمن المسيح الفريسيون والصدوقيون والأسينيون.

فرقة الفريسيين

امتد نشاط الفريسيين في الفترة من القرن الثاني ق.م، حتى بدايات القرن الأول الميلادي، وليس هناك رأي حاسم حول معنى تسمية الفريسيين، فاللفظ العبري للفرقة هو «פרושים» يعني المنعزلين، وهو ما يشير إلى انعزالهم عن فرقة الصدوقيين أو الذين عاشوا حياتهم زاهدين وبمعزل عن الاهتمامات الدنيوية.

وتُجمع كل الكتابات التلمودية على أن الفريسيين هم مؤسسو الأدب التلمودي، كما أكد الربي «لويس جاكوب» في كتابه « The Jewish Religion» أن هناك إشارات عديدة في العهد الجديد عنهم تصفهم بالمنافقين، فكانوا يهتمون بالطقوس دون أن يكون لهذا الاهتمام أي تأثير على النفس.

ذكر لنا الربي «نورمان سولومان» في كتابه «Judaism, A very short history» أن معتقدات الفريسيين كانت متوافقة مع العقل، فآمنوا بالعناية الإلهية، وحرية الإرادة، والبعث واحترام الكبير والقضاء والقدر، كما وضح بروفسور «ليستر جرابي»، أستاذ الأديان واللاهوت في جامعة «هُل» بالولايات المتحدة، أنهم يعتقدون خلود الروح، فالروح الطيبة تنتقل إلى جسد آخر، والروح الشريرة تواجه عقابًا أبديًّا، ويؤمنون بوجود الملائكة والأرواح على عكس الصدوقيين، فنقرأ في أعمال الرسل (23: 8): «لأَنَّ الصَّدُّوقِيينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَلا مَلاَكٌ وَلا رُوحٌ، وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَيُقِرُّونَ بِكُلِّ ذلِكَ».

 وكانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، ولذلك قبل الناس تعاليمهم الخاصة بالصلاة والقرابين، وهذه الفرقة تطورت فيما بعد إلى ما عُرِف باليهودية الربانية، نسبة إلى اللفظ الذي كان يطلق على معلمي هذه الفرقة، فكان يطلق على الواحد منهم لفظ «רבי» – «רבן»، بمعنى المعلم أو القائد، ومن هنا جاءت تسمية ربانيين، واستمر وجودهم القوي خلال العصر الإسلامي، ولا زالت أفكارهم وتعالميهم باقية حتى اليوم.

 لكن رؤية الأناجيل لهم كانت مختلفة، فتصوِّر الأناجيل الفريسيين على أنهم شكليون وكذابون ومنافقون ويبالغون في التركيز على التفاصيل، ولا يهتمون بشيء قدر اهتمامهم بتعليم كيفية تقسيم العشور والطهارة الكهنوتية والالتزام براحة يوم السبت.

وأشار «ليستر جرابي» إلى بعض الاختلافات التي ذكرها يوسيفوس المؤرخ اليوناني الشهير بين الفريسيين والصدوقيين، فالفريسيون كانوا يحترمون تعاليم ووصايا شيوخهم، ويؤمنون بالثواب والعقاب بعد الموت، وكانوا يحظون بتأييد واسع بين الناس بسبب تفسيرهم الدقيق للنصوص المقدسة، وكانت لديهم سمعة طيبة في التنبؤ بالمستقبل، أما الصدوقيون فكانوا يسمحون للصغار بالجدال مع شيوخهم ولم يؤمنوا بأي شيء غير مكتوب في العهد القديم. مع الإشارة إلى أن العهد القديم ربما لم يكن قد اكتمل في الوقت الذي عاشت فيه الفرقتان بعد.

توسع حديث الفريسيين ليشمل الجن والعفاريت، واعتبروا أنهم يأتمرون بأمر الشيطان ويقومون على خدمته، حسب ما ذكره دكتور «حسن ظاظا»، المتخصص في الدراسات اليهودية، في كتابه الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه.

فرقة الصدوقيين

يرجح أن سبب تسمية الفرقة بهذا الاسم نسبة إلى الكاهن «صادوق» الذي عاش في عصر الملك داود وعيَّنه «سليمان» كاهنًا أكبر فيما بعد، حسبما ورد في سِفر الملوك الأول (1، 2: 35)، وبعد ذلك أكد النبي حزقيال توارث منصب الكاهن الأكبر في أبناء صادوق، فمن المحتمل أن تكون هذه الفرقة قد ربطت نفسها بأسرة الكاهن صادوق، كما ذكر الربي «لويس جاكوب».

تعامل الصدوقيون مع ظاهر نص العهد القديم، وأنكروا الحياة بعد الموت، كما وضح ذلك الربي «نورمان سولومان»، والإنسان عندهم مخير يستطيع فعل الخير أو الشر، ووصف «يوسيفوس» تعامل الصدوقيين بينهم بالفظاظة والحدة.

قال الباحث «هنري. س. عبودي»، في كتابه «معجم الحضارات السامية»، إن الأخبار التي وردت عنهم تدل على أنهم كانوا يضعون بعض الاعتبارات السياسية فوق الاعتبارات الدينية، وتقرَّب أغلبهم إلى الثقافة الهلنستية، وسعوا للتقرب إلى الحكَّام على حساب العامة.

أما موقف الأناجيل أو العهد الجديد من فرقة الصدوقيين، فكان موقفًا معاديًا من الصدوقيين والفريسيين على حد سواء، إذ إنه خلال القرن الأول الميلادي كانت هاتان الفرقتان تسعيان بشكل دائم لوقف الدعوة المسيحية ومحاكمة من يقوم بها ومعاقبته؛ ومثال ذلك ما جرى مع بطرس ويوحنا (أعمال الرسل 4 – 5)، وما حدث بعد ذلك مع بولس (أعمال الرسل 22 – 23)، وإن كانت الأناجيل تعطي الفريسيين المكانة الأكبر في عدائها مع المسيح، عليه السلام (إنجيل مرقس 8: 11 – 12: 13 – 17).

أكد دكتور أحمد عبد المقصود الجندي، أستاذ دراسات نقد العهد القديم بجامعة القاهرة، في كتابه محاضرات في الديانة اليهودية أن العهد الجديد يشير في مواضع كثيرة إلى أنه خلال النصف الأول من القرن الأول الميلادي كان للصدوقيين الزعامة الدينية بترؤسهم أمور الكهنوت (أعمال الرسل 5: 17 – 39)، لكن هذا الأمر تغيَّر في بداية النصف الثاني من القرن نفسه؛ حيث تقاسمت الفرقتان الزعامة (أعمال الرسل 22 – 23). ويظهر العهد الجديد (أعمال الرسل 23: 8) أن الصدوقيين كانوا ينكرون البعث والملائكة ووجود الأرواح.

وتأثر الصدوقيون بالفلسفة اليونانية الأبيقورية، واتُّهموا في العديد من المرات بالهرطقة، كما جاء في كتاب حياة المسيح، لعباس محمود العقاد.

الفرقة الأسينية

من الصعب التعرف على أصل تسمية هذه الفرقة وماذا تعني، فبعض الباحثين مثل البروفسور محمد خليفة حسن ذكر في كتابه «تاريخ الديانة اليهودية» أن الكلمة تُردُّ إلى اللفظ الآرامي « ܚܣܝܐ حاسيا»، أي الأتقياء، ويردها آخرون، مثل «ليستر جرابي»، إلى اللفظ الآرامي «ܐܣܝܐ آسيا» بمعنى الأطباء أو المعالجين، فيما أشار آخرون إلى احتمال اشتقاق الاسم من الجذر الآرامي «חשא صمت» فيكون المعنى الصامتين، وذلك على أساس أن الفرقة كان لها تقاليد سرية؛ فقد كانوا لا ينقلون تعاليمهم للآخرين، كما ورد في Encyclopedia Biblica، العدد الحادي عشر، لكاتبها «Julicher».

بدأ نشاط الفرقة في نهاية القرن الثاني ق.م، فنجد إشارات لهذه الفرقة في كتابات الفيلسوف اليهودي «فيلون»، وفي كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس، والكاتب الروماني «بليني» (24 – 75 م)، فيقول عنهم بليني: «إنهم طائفة مختلفة عن كل طوائف العالم، فليس لديهم نساء، وهم ينكرون الرغبة الجنسية، ولا يمتلكون مالًا، وليس لديهم رفيق سوى سعف النخيل»، وسكن الأسينيون مكانًا سماه «بليني» عين جدي، المعروف حاليًّا «بخربة قمران[2]» ويقع في الجزء الشمالي من الشاطئ الغربي للبحر الميت، كما وضحه «جرابي» في كتابه السابق ذكره.

كما وصفهم البروفسور «جدعون بوهاك»، أستاذ الفلسفة اليهودية في جامعة تل أبيب، في مقال له تحت عنوان «الأسينيون» في كتاب The Oxford Dictionary of the Jewish Religion، إنهم كانوا يتقاسمون المال والمأكل بينهم ويلبسون ثيابًا بيضاء، وكانوا يشكلون مجتمعًا شديد الانغلاق على نفسه، وكان محظورًا عليهم أن ينقلوا تعاليمهم لأحد من خارج فرقتهم، وكان من الضروري عند رغبة أحد في الانضمام إليهم أن يمر بفترة اختبار وامتحان، وكان عدد أفراد الفرقة أربعة آلاف رجل، وكانوا يعملون كحرفيين، خاصة في مهنة الزراعة، ولا يحلفون أو يقسمون ولا يحتفظون بعبيد.

ويذكر «جرابي» أن أهم ما اعتقدوه هو إيمانهم بخلود الروح، وصلاة خاصة للشمس، وكذا الاستحمام قبل الأكل، وكانوا يُعيدون الاستحمام إذا مسَّ غريب طعامهم، ويدرسون كتابات القدماء وعلم الطب، ويحفظون أسماء الملائكة، ولا يبصق الواحد منهم على يمينه أو في وجود أحد، ويمارسون التنبؤ بالمستقبل، والبعض منهم يتزوج من أجل التناسل فحسب، وإن كان الأصل عدم الزواج، ويذكر Alexei M. Sivertsev    أستاذ اليهودية الربانية في جامعة ديبول بشيكاغو، في كتابه Households, Sects, and the Origins of Rabbinic Judaism، ينسبون كل شيء إلى الله ويؤمنون بخلود الروح، ويتسم أسلوب حياتهم بالتقشف، ويبالغون في مسألة التطهر، يؤمنون بقدوم المسيح المخلص عند نهاية العالم؛ حيث ينتصر الخير على الشر بعد صراع بينهما في الكون في قلب الإنسان، ويعتقدون أن الروح الطيبة سوف تنتقل بعد الموت إلى جنة نورانية في أقصى الغرب، وأما الأرواح الشريرة فتسقط في مستقر كئيب، حيث تلاقي عقابًا لا ينتهي، تركزت اهتماماتهم على التعمق في معرفة أسرار المستقبل بكل تفاصيله، ولذلك كان الحديث عن الملائكة والأفكار الأخروية من الموضوعات الأساسية عندهم.

دعوة المسيح

لكل حدث جلل أسباب ومقدمات تمهد لحدوثه، فلابد لنا أن نتعرف كيف كان حال العصر الذي ظهر فيه المسيح – عليه السلام – فكان هناك سببان بارزان آنذاك، الأول: تحجر الأشكال والأوضاع في الدين والاجتماع، والثاني: سوء العلاقة بين الأمم والطوائف التي سكنت في بقعة واحدة وهي الشرق الأدنى.

ذكر عباس محمود العقاد في كتابه «حياة المسيح» أنه في ذلك الوقت تفشى الاهتمام بالمظاهر دون الاهتمام بالروح والنفس، وغرق السادة في الترف وغرق العبيد في الشقاء، وفسدت حياة هؤلاء وهؤلاء، أصبح نظام المجتمع خاليًا من المعنى والغاية.

يأتي إلى هؤلاء البشير المنتظر، فماذا يقول لهم إن لم يقل لهم إن الله رب بني الإنسان وإنه هو ابن الإنسان، وإن الحب أفضل الفضائل وأفضل الحب حب الأعداء، وإن ملكوت السماوات لا تفتحه الأموال، وإن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وإن المجد الذي يتنازعه طلابه لا يستحق الطلب، وإن المجد الذي يستحق أن يطلب لا موضع فيه للنزاع. وقبول المسيح باستهزاء وقسوة من قبل معظم اليهود وخاصة الفريسيين والصدوقيين.

بدأ الباحثون مقارنة دعوة المسيح ومعجزاته المشهورة، بمعتقدات وأفكار الأسينيين، فقالوا إنه خرج منهم، خاصة أن النبي يوحنا المعمدان (وهو النبي يحيى في الإسلام) قام بتعميد المسيح في بحيرة الأردن التي سكن بجوارها الفرقة، وأن يوحنا المعمدان نفسه كان من أتباع هذه الفرقة، كما ورد في كتاب «معجم الحضارات السامية» لهنري عبودي، ولكن ذلك الادعاء لم يكن له أدلة كافية تؤكده.

ويمكننا القول إن المسيح يهودي خرج ليعيد مسار اليهود للطريق المستقيم بعد بُعدهم عنه، واتخاذ المظاهر دينًا لهم بدل من دين «يهوه»، وبهذا يكون جاء بعهد جديد يُكمل العهد القديم الذي لم يعد يناسب ذلك العصر، ولكنهم لم يؤمنوا بمسيحهم المخلص الذي تنبأ به «إشعياء» أكثر من مرة، وادعوا أنه رجل مجنون مخرف يريد أن يأخذ السلطة منهم.

أكثر الفرق عداءً للمسيح

أثناء جولات المسيح في أورشاليم أرسل الفريسيون – باعتبارهم «حراس الشريعة» – والصدوقيون – باعتبارهم «حراس الهيكل» – أناسًا لتقديم تقرير شامل عن جولاته، وهؤلاء كانوا يتجادلون مع المسيح باستمرار، وصارت المواجهات الكلامية بينهم وبينه متواترة، وهاجموا تعاليمه واتهموه بأنه يبيح التراخي، ومن أهم أقوال المسيح: «ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ» مرقس (7: 14 – 15)، وعندما سأله التلاميذ عن معنى ذلك، قال: «إنه من داخل قلوب البشر تأتي الأفكار الشريرة، زنا وفسق وقتل وسرقة وطمع، وتجديف وعين شريرة، إن كل هذه الشرور تأتي من الداخل، وهى تنجس الإنسان».

يؤكد بروفسور جون بوس «John B. Noss» أستاذ الفلسفة في جامعة فرنكلين في الولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه «Man’s religions»، أن أكثر ما أغضب الفريسيين هي الحرية التي فسر بها المسيح الشرعية، والأنبياء من دون احترام المأثور، وفي أكثر الأحيان كانت الصيغة التي يستخدمها إنجيل متى في تدوين «موعظة الجبل» تؤكد تحرير المسيح من القديم المتوارث، كما تظهر في خطاب المسيح: «سمعتم أنه قيل للأقدمين … ولكنني أقول لكم».

باختصار كان للمسيح سلطته المنبعثة من الداخل، ومن هنا بدأ الفريسيون ينشرون الشائعات عن المسيح وعن قدرته على جذب الناس بعيدًا عن خط التفكير الفريسي، وهو ما اعتبروه دليلًا على أنه فيه مسٌّ من روح شريرة، وأنه شخص موهوم يسير ضد وحي الرب ومناقض لموسى ومضلل للناس، وهكذا انتشرت الشائعة في الناصرة وبدأ الناس يرتدون عنه.

لم يتوقف المسيح، فكان له موقف آخر في الهيكل، عندما قلب موائد الصيارفة وطرد تجار الحمام وكل من كانوا يبيعون ويشترون الأشياء في ساحة الهيكل، وصاح: «ألا يقول الكتاب المقدس إن بيتي سيدعى بيت الصلاة لكل الأمم، ولكنكم جعلتموه كهفًا للصوص»، وصرح المسيح بأن «ملكوت الرب ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» (متى 21: 31 – 43).

ومن هنا بدأ العزم على التخلص من المسيح، فتتفق الأناجيل على أن المسيح عرف أن المعارضة، والمعارضة المتمثلة بشكل رئيس في الفرقة الفريسية وعدد قليل من كهنة الصدوقيين ذوي النفوذ القوي في الهيكل، سوف يدبرون أمر موته، وأنه قد هيأ نفسه لذلك، ولم يتنبأ فقط المسيح بموته بل عرف من سيخونه، ويظهر هذا واضحًا في العشاء الأخير، فيذكر إنجيل مرقس (14: 22 – 23)، «وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسر، وأعطاهم وقال: خذوا كُلوا هذا جسدي، ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم، فشربوا منها كلهم، وقال لهم: هذا هو دمي».

وبعدئذٍ، وهو في بستان جتسماني وشى به يهوذا الأسخروطي إلى جمع من الرجال المدججين بالسيوف والهراوات، فاشترك كلٌّ من بيلاطيس الحاكم الروماني وزعماء اليهود المتمثلين في الفريسيين – بشكل كبير – وبعض الصدوقيين، اشتركوا في فِعل التوقيف؛ في ذلك الوقت كانت السلطة الرومانية تعيش في خوف من أعمال التخريب والعصيان، وكان المسيح في نظرهم من مسببي العصيان وقتها.

بعد ذلك أُحضِر المسيح إلى السنهدرين (المجلس القضائي اليهودي الأعلى)، وبعد الاستجواب جرى تسليمه إلى «بيلاطيس» بوصفه شخصًا خطيرًا من الوجهة السياسية، أُرسل بعدها إلى هيرودوس أنتيباس باعتباره حاكم الجليل، ولكن هيرودوس أعاد يسوع إلى بيلاطيس مرة أخرى، ليعرضه على العامة ليختاروا؛ هل سيكون السجين الذي سيُطلق سراحه هذا العام، ولكن الجماهير نادت صائحة بإطلاق سراح «بارابس» وكان يُعرف عنه أنه متمرد عنيف.

وكما ورد في الأناجيل، سُلِّم «يسوع» لحرس الجنود الرومان ليصلب، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، حين تخلى عنه كل أتباعه إلا النساء (والدته ومريم المجدلية)، نبس من أجلهم بالدعاء: «يا أبتِ اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون»، وصاح بصوت مرتفع: «إلهي، إلهي، لماذا تخليت عني»، فكانت نهاية يسوع على الأرض.

المراجع
  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، الكتاب الخامس، ص 223.
  2. منذ عام 1947م حتى عام 1956م تم اكتشاف لفائف القمران على الساحل الغربي من البحر الميت، جنوب اريحا، تتكون من 800 مخطوطة، وهي عبارة عن أسفار العهد القديم بالعبرية القديمة، والعديد من الأسفار حتى غير القانونية منها، وأيضًا وثائق خاصة بالمجتمع الأسيني الطائفي، وكتبت تلك المخطوطات في القرن الثالث حتى القرن الأول قبل الميلاد، ولا ترتبط المخطوطات بشكل مباشر بالمسيح أو بالمسيحية الأولى، وألفها فرقة الأسينين.