فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدول
ابن خلدون

في فيلم «ضد الحكومة» للمخرج الراحل عاطف الطيب، وقف المحامي «مصطفي خلف» أمام القاضي في مرافعته الأخيرة ليقول «أنا ومعي المستقبل كله نلوذ بكم، فأغيثونا» ليرسخ في وجدان المتفرج أن منصة القضاء هي الملاذ الأخير الذى لم تطوله بعد أيدي الفساد، إلا أن هذه الصورة الوردية التى رسمها تحطمت مع وقائع الفساد المتتالية التى تظهر على السطح، وتكشف أن الجهاز القضائي مثل أي جهاز إداري في الدولة طاله الفساد


وائل شلبي: القتل والانتحار وجهان لحادثة واحدة

كان آخر قضايا الفساد في السلك القضائي، قضية أمين مجلس الدولة وائل شلبي الذي لقي حتفه في محبسه بعد اعترافه بتورطه في واحدة من أكبر قضايا الفساد القضائي.وتبدأ فصول القضية بضبط الرقابة الإدارية لمدير مشتريات مجلس الدولة جمال اللبان، في يناير/ كانون الأول 2016، وبتفتيش منزله وجدت مبالغ كبيرة، قدرت بـ24 مليون جنيه مصري، وأربعة ملايين دولار أميركي، ومليوني يورو.قضية اللبان فتحت الباب لاتهام شلبي، خاصة وأن مدير المشتريات لا يمكن أن يبرم أي صفقة للمجلس دون موافقة الأمين العام للمجلس، وهو ما تسبب في تشكيل مجلس الدولة للجنة لمراجعة كافة الصفقات التى تم إبراهما خلال السنوات الخمس الأخيرة لمعرفة مدى مطابقتها للقانون، في الوقت الذى كانت النيابة تعمل على تفريغ مكالمات اللبان ليتم إثبات تورط شلبي في عدد من المشروعات والصفقات التى تتناولها القضية.وفي الساعات الأولى من شهر يناير / كانون الثاني 2017، نفذت الرقابة الإدارية إذن نيابة أمن الدولة العليا بضبط وإحضار المستشار وائل شلبي، على خلفية قضية الرشوة، وفي نفس اليوم كان شلبي على موعد مع الموت داخل محبسه حيث قالت الرواية الرسمية للسلطات، إن شلبي انتحر مستخدماً كوفية كان يرتديها، وهي الرواية التى لم تلق قبولا لدى الكثير من المتابعين.


شريف حافظ: من تخفيف الأحكام للرشوة الجنسية

من القاضي الشريف المدافع عن استقلال القضاء إلى القاضي المتهم بتلقي رشوة جنسية، هذا هو ملخص ما جرى مع المستشار شريف حافظ رئيس محكمة جنح مستأنف محرم بك، فالقاضي الذى ذاع صيته بعد حكمه بتخفيف حكم حبس الفتيات المعتقلات في القضية المعروفة إعلاميًا بـ«حركة 7 الصبح»؛ تعرض لتشويه سمعة منظم وصل إلى تسريب معلومات للصحف عن وجود 22 تسجيلاً جنسيًا له، وهو الأمر الذى ثبت بعد ذلك عدم صحته.وكان حافظ قد خفف حكم قضية فتيات «7 الصبح» إلى الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ في ديسمبر / كانون الأول 2013، وجاء ضمّن منطوق حكمه بـ«المحكمة تود أن ترسل رسالة للقاصي والداني أن القضاء المصري كان وسيظل دائمًا بعيدًا عن كل الأهواء ولا يخشى في الحق لومة لائم ولا يدور في حساباته إلا يوم الحساب الأكبر الذي ستتساوى فيه كل الرؤوس».إلا أن دوام حال شريف حافظ كان من المحال، بعد أن تم الإعلان في يونيو / حزيران 2016 عن رفع الحصانة القضائية عن حافظ وإحالته لمجلس تأديب لاتهامه بالتزوير في محضر قضائي مقابل رشوة جنسية، وهو الاتهام الذي لم يثبت عليه، ليتم الحكم ببراءته في يوليو/ تموز 2016.واستند الدفاع عن حافظ على خصومة معلنة بينه وبين المحامي العام الأول لنيابات الإسكندرية سعيد عبد المحسن، يرجح أن تكون السبب في تحريك الدعوى، بسبب رفض حافظ تدخل عبد المحسن لتأييد حكم الحبس الأول على فتيات «7 الصبح».


عبد الهادي: الطريق لنقابة المحامين يبدأ برشوة

وفي يوليو / تموز 2015 ألقى القبض على المستشار رامي عبد الهادي رئيس محكمة جنح مدينة نصر من إحدى القرى السياحية بعد اتهامه بتلقي رشوة جنسية مقابل إنهاء قضية منظورة أمامه.وبدأت وقائع القضية بعد تقديم سيدة سورية بلاغاً إلى الرقابة الإدارية تتهم فيه عبد الهادي بطلب رشوة جنسية منها مقابل إنهاء قضية ينظرها، وأرفقت ببلاغها نسخة من المكالمات الهاتفية المسجلة بينها وبينه.ورغم نفي عبد الهادي ما ورد من اتهام له، وقوله إنها «شائعة إخوانية» إلا أن مجلس القضاء الأعلى قام بالموافقة برفع الحصانة القضائية عنه، ليتم إلقاء القبض عليه ويتوصل إلى تسوية مع النيابة التى واجهته بالمكالمات تقضي بتقديم استقالته مقابل حفظ القضية وعدم حبسه.وهو ما تم بعد تدخل وزير العدل السابق أحمد الزند، كما تم إصدار قرار بحظر النشر في القضية، ليتقدم بأوراقه إلى نقابة المحامين في يناير / كانون الثاني 2017.


قاضي الحشيش: الكلب يكشف المستور في سيارة رئيس محكمة

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، كان المستشار طارق محمد زكي مصطفى رئيس محكمة جنح مستأنف ديرب نجم بالشرقية على موعد مع الكلب الذي قلب حياته رأساً على عقب،بعد اكتشافه كمية من الحشيش بلغت 693 «فرش» بوزن 173 كيلو و250 جراما، وذلك داخل نفق الشهيد أحمد حمدي بمحافظة السويس.وبحسب المحضر الخاص بالقضية تم إيقاف سيارة القاضي التى ضمت معه طالبة وسائقًا بأحد الأكمنة غرب نفق أحمد حمدي، تم تفتيش السيارة وقائياً بواسطة أحد كلاب الشرطة، الذى حاول تمزيق حقيبة جلدية، وجد بها كمية من الحشيش دفعت قوة الشرطة لتفتيش السيارة ليتم العثور على باقي الكمية.وطبقاً لأقوال الطالبة المتهمة في القضية، فإن القاضي اتفق على نقل المخدرات لصالح أحد الأشخاص قرب رأس سدر بجنوب سيناء، إلا أن القاضي نفى ذلك واتهم السائق والطالبة بحيازة المضبوطات، وحجزت القضية للحكم في أول أبريل/ نيسان القادم.


أبناء القضاة: فساد يحميه القانون

أحد أبواب الفساد المقنن داخل الجهاز القضائي هو تعيين أبناء القضاة ومنع غيرهم حتى وأن تفقوا، عملاً بقاعدة «من تربى في بيت القضاء أولى به».ورغم أن تعيين أبناء القضاة محل سخط من قبل الكثيرين أبرزهم أوائل خريجي كليات الحقوق، إلا أن وزير العدل السابق أحمد الزند قال في تصريحات سابقة أثناء توليه منصب رئيس نادي القضاة:

من يهاجم أبناء القضاة هم الحاقدون والكارهون ممن يرفض تعيينهم، وسيخيب آمالهم، وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة ولن تكون قوة فى مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها

وكانت جريدة الشروق المصرية قد كشفت في تقرير سابق لها عن استحواذ أبناء القضاة على نسبة 35 % من تعيينات النيابة في يوليو / تموز 2014، حيث كشفت الجريدة أن 168 من أبناء القضاة ضمن 485 شملهم القرار الجمهوري رقم 202 لسنة 2014، دون احتساب الأصهار وأبناء العمومة.


تزوير الانتخابات: أمل الديمقراطية الأخير ينهار

في عام 2007، كانت مصر على موعد مع تعديل جديد لدستور 1971، وهو التعديل الذي ألغى الإشراف القضائي على الانتخابات، وقصر حضور القضاة على اللجان العامة فقط.

وهي التعديلات التي رفضتها أغلب القوى السياسية حينها، باعتبارها إلغاء لضمانة عدم تزوير الانتخابات.

إلا أن الحقيقة أن وجود القضاة لم يكن ضمانة على الإشراف القضائي، وهو ما ورد على لسان المستشار محمود الخضيرى في ندوة بالإسكندرية في يوليو / تموز 2011 حيث أكد أن 300 قاض تعاونوا مع أمن الدولة في تزوير الانتخابات، وهي التصريحات التى تراجع عنها وقال عنها «زلة لسان» في دفاعه عن نفسه فيما يعرف بقضية إهانة القضاة.


مرتبات القضاة: الحد الأقصى لم يحم من الفساد

في العادة يبرر فساد الموظف العادي بضعف المرتبات في جهاز الدولة بصورة عامة، ورغم أن ذلك ليس مبررًا يمكن اعتماده في تبرير الفساد، إلا أن القضاة لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم بهذا المبرر، فمرتبات القضاة طبقاً لآخر تقرير نشر عنها في 2014 تترواح بين 20 -28 ألف جنيه للقضاة العاديين.

بينما تصل مرتبات قضاة النيابة الإدارية من 12 ألف جنيه، بينما تبدأ مرتبات قضاة مجلس الدولة من 16 ألف جنيه، بالإضافة إلى بدلات الانتداب وفقاً لقانون السلطة القضائية، وذلك دون ذكر لأي زيادات أقرها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال العامين السابقين.

ورغم وجود قانون ينص على وجود حد أقصى للأجور يقدر بـ 42 ألف جنيه، إلا أن القانون لم يطبق على القضاة بعد صدور فتوى من قسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة بعدم جواز تطبيق الحد الأقصى للأجور على القضاة.

الامتيازات الأخيرة، من مرتبات وبدلات جعلت قطاعًا كبيرًا من القضاة مطية سهلة للنظام الحاكم، كما أعطت لهم سلطة واسعة يمكن استخدامها في أي شيء حتى وإن كان الحصول على خدمات جنسية جبرية، أو نقل مخدرات مقابل الأموال دون الخوف من الأكمنة.

ويمكن القول إن هناك صورة القاضي الشريف النمطية التى تربى عليها المصريون، والتي جعلت من القضاء في الوجدان الجمعي للمصريين حصناً أخيرا يمكن اللجوء إليه من قوى الشر، الذى جعل القوى السياسية تنتفض من أجل دعم استقلال القضاة في الأزمة الشهيرة في 2006، إلا أن تلك ليست صحيحة، فالحقيقة أن الامتيازات المالية والمعنوية التى تم وضعها من أجل الحفاظ على هيبة المنصة هي من أسقطتها في بئر الفساد.

المراجع
  1. وائل شلبي.. أمين مجلس الدولة المصري "المنتحر"
  2. محامي المستشار شريف حافظ بعد برائته من التزوير: القضية هدفها التنكيل
  3. بالأرقام.. رواتب القضاة في كل الهيئات