من المفهوم دائمًا أن تسعى المعارضة في كثير من البلدان إلى تأسيس تنظيمات سرية، وذلك تحت ضغوط التضييق السياسي، أو لأهداف سياسية مختلفة؛ لكن أن تسعى قمة هرم السلطة في الدولة إلى أن تؤسس تنظيمًا سياسيًا سريًا، فهذا أمر لا يمكن فهمه بسهولة. هذا هو ما حدث مع ذلك في ستينيات القرن الماضي حين أسس الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر «التنظيم الطليعي» السري داخل «الاتحاد الاشتراكي» في مصر، وتنظيم «الطليعة العربية» السري داخل الأقطار العربية المختلفة.

لماذا أسّس عبد الناصر تلك التنظيمات؟ وما هي مبررات سريتها؟ وكيف كانت تعمل؟ ربما تخبرنا قصة تلك التنظيمات كثيرًا عن طبيعة النظام الناصري دون كثير من التحليل والتأويل.


التنظيم الطليعي السري (1963 – 1971)

تأسس تنظيم «طليعة الاشتراكيين» في عام 1963 كتنظيم سري داخل الاتحاد الاشتراكي العربي ذي الستة ملايين عضو آنذاك، وهو التنظيم السياسي الموحد الذي أسسه جمال عبد الناصر ليكون بديلًا عن الاتحاد الاشتراكي الذي كان قد تم تأسيسه في عام 1957 لقيادة الحياة السياسية في مصر، وكان هذا التنظيم السري تابعًا لعبد الناصر شخصيًا، ولم يكن للأعضاء الحق في أن يعلنوا انتماءهم له[1].

وفقًا لشهادة أحمد حمروش، أحد الضباط الأحرار ومؤرّخ ثورة يوليو، وكذلك شهادة سامي شرف، سكرتير جمال عبد الناصر، عُقد اجتماع تأسيس التنظيم الطليعي في منزل جمال عبد الناصر في يونيو/حزيران 1963، بعد أسابيع قليلة من جلسات مباحثات الوحدة بين مصر وسوريا، وحضره كل من علي صبري، رئيس الوزراء آنذاك، ومحمد حسنين هيكل، وأحمد فؤاد، الناشط الماركسي من تنظيم حدتو، وسامي شرف[2].

تتشابه فكرة تنظيم «طليعة الاشتراكيين» مع تنظيم «رابطة الشيوعيين اليوغسلاف» داخل الاتحاد الاشتراكي في يوغسلافيا، حيث تم إرسال صلاح الدسوقي، وهو أحد الضباط الأحرار ومحافظ القاهرة لاحقًا، إلى الخارج لدراسة التنظيمات المماثلة حتى يستفيد منها التنظيم في بناء آلياته في اختيار الأعضاء الجدد ووضعهم تحت الاختبار، واعتماد أساليب سرية محددة للتواصل بين الأعضاء[3].

المبرر الرسمي لسرية التنظيم الذي قدمه عبد الناصر في ذلك الوقت كان هو أن التنظيم الطليعي قريب جدًا من السلطة، فإذا أصبح علنيًا فهناك خطر أن يستغل أعضاؤه وضعهم لمصلحتهم الخاصة، وإلى تكتل القوى المختلفة ضدهم كأفراد وجماعة بما يحول دون أداء مهمتهم السياسية[4].

على عكس التنظيمات السياسية الطبيعية، بُني التنظيم الطليعي بكامله من أعلى إلى أسفل، حيث كانت كل لجنة قيادية تختار عناصر اللجان التابعة لها، واللجنة المركزية كان لها القول الفصل في قبول المرشحين من عدمه، وتوسّع التنظيم على هذا النحو حتى بلغت عضويته في عام 1971 حوالي 150 ألف عضو منتشرين في مختلف أرجاء البلاد. وقد حال تباين خلفيات الأعضاء الفكرية والثقافية وعدم انعقاد أي مؤتمرات ونقاشات داخلية موسعة دون تكوين أي تضامن جماعي فيما بينهم كما يفترض في أي تنظيم سياسي[5].

كانت في المقابل كتابة التقارير السرية عن اتجاهات الرأي العام والمعلومات والأخبار في مختلف المسائل هي أهم نشاط لأعضاء التنظيم الطليعي، وكان من الأهمية بمكان تقديم الأعضاء لكل المعلومات والأخبار حتى لو أساءت للمقربين من الأهل أو الأصدقاء[6].

في البداية، كان التنظيم الطليعي تتوزع وحداته التنظيمية إداريًا على قطاعات مختلفة كالصناعة والزراعة والصحافة والخدمات. لكن بعد 6 أشهر، رأى عبد الناصر ذو الخبرة القديمة في التنظيمات السرية خلال شبابه أن ذلك قد يُعرّض التنظيم للانكشاف، فطلب دراسة أسلوب عمل التنظيم وتحويله إلى نوعي وجغرافي معًا، أي بحسب طبيعة عمل العضو ومكان إقامته، ولكن استُثنِيَ من ذلك العاملون في مجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون والقضاء[7].

كانت التقارير المكتوبة من قبل الأعضاء تتناول كل ما بدا أن له أهمية حتى ولو متدنية، بدءًا من متابعة نشاط الشيوعيين والإخوان، وليس انتهاءً بالنكت والشائعات السياسية المتداولة. وكان أهم إنجاز نُسب إلى التنظيم في هذا الصدد، إسهام تقارير عناصره في محافظة الدقهلية في الكشف عن محاولة إحياء تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965[8].

تناولت التقارير أيضًا أحوال ومواقف المصريين في الخارج، وتصرفات المسئولين والموظفين الحكوميين، بدءًا من الوزراء والمحافظين، وصولاً إلى صغار الموظفين، ومختلف الأنشطة الثقافية التي يمكن أن تحمل دلالة كالمسرحيات والروايات والكتب، كما تناولت كذلك الثروات الشخصية للأفراد والعائلات، ولذلك تحول التنظيم في النهاية إلى جهاز سري للتجسس داخل الاتحاد الاشتراكي ومؤسسات الدولة خلق حالة من التوجس والرعب لدى الجميع[9].

كان عبد الناصر يطلب أحيانًا الاجتماع مع مقدمي التقارير، ولاسيما إذا تعلق الأمر بالموضوعات الأمنية والاقتصادية، وأحيانًا كان يوافق على ما يرفع إليه من تقارير الأعضاء، ويوقع عليها بتطبيق عقوبات كالحراسة القضائية أو الاعتقال أو الفصل من الوظيفة دون مساءلة[10]. كانت للتنظيم نشرة سرية اسمها «طليعة الاشتراكيين» تغطي المسائل التنظيمية، والموضوعات ذات الطابع السري والخاص، وكانت مرقمة بالتخريم، ولكل عضو رقم ولكل محافظة كود خاص، بحيث إذا ما سُربت نسخة عرف صاحبها فورًا وعوقب بالفصل من التنظيم[11].

بعد حل التنظيم على يد أنور السادات في عام 1971، تسرّب إلى أيدي الباحثين الكثير من تقارير التنظيم السرية، وأسماء العناصر في قوائم العضوية التي أكثر ما يلف الانتباه عند قراءتها هو ضمها لأسماء العديد من رجال الدولة البارزين لاحقًا في عهد مبارك، ومعظم الوجوه المعروفة لما يعرف اليوم بـ «النخبة المصرية» على المستوى الثقافي والسياسي، وأيضًا لاسم رمز شهير ومؤثر من رموز جماعة الإخوان المسلمين، وهو المهندس خيرت الشاطر.


تنظيم «الطليعة العربية» القومي (1965 – 1986)

في كتابه «الطليعة العربية: التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر» يقول السياسي المصري المعروف عبد الغفار شكر إن عبد الناصر دشّن ذلك التنظيم يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني بهدف تنظيم القواعد الشعبية العربية، وتكوين قيادات قادرة على تحريك الجماهير العربية[12].

مارس هذا التنظيم نشاطه لمدة 21 سنة، انتشر خلالها أعضاؤه في كل الأقطار العربية حاملين راية الفكر الناصري، ومبشرين بأفكاره وأهدافه، وبدأ نشاطه بالتركيز على قطاع الطلبة العرب في مصر وأوروبا وأمريكا[13]. وقد اجتذب تنظيم «الطليعة العربية» إلى عضويته شخصيات مؤثرة في العالم العربي، وكان منهم رؤساء جمهوريات، ورؤساء وزارات، ووزراء وأدباء وفنانون ونقابيون ومهنيون وعسكريون من مختلف الرتب[14].

اعتمد تنظيم الطليعة العربية صيغة تنظيمية خاصة، حيث اتخذت سرية الحركة وسرية التنظيم وسرية الأعضاء غطاءً علنيًا لنشاطها في كل بلد عربي، سواء كان هذا الغطاء حزبًا سياسيًا أو حركة شعبية أو منظمة جماهيرية، ولذلك لم تصدر أي بيانات سياسية أو منشورات باسمه، وهو ما وفر له ولأعضائه الحماية من هجمات الأمن، وبالرغم من اعتقال كثير من أعضائه، فإنهم لم يتهموا أبدًا بشكل رسمي بالانتماء إليه بحسب ما يقول عبد الغفار شكر[15].

بفضل نشاطها وجهود أعضائها نتج عن «الطليعة العربية» حركة سياسية ناصرية منظمة على شكل أحزاب قومية فاعلة في معظم الأقطار العربية، وأنشأ أعضاؤها بمبادراتهم الشخصية المستندة إلى رؤاهم الفكرية الناصرية مؤسسات بحثية وثقافية وإعلامية ومنظمات مدنية وحقوقية عديدة[16].

كانت الصلة منتظمة بين التنظيم الطليعي السري في مصر وتنظيم الطليعة العربية الذي كان يتحرك خارج مصر، وذلك من خلال أمانة الشئون العربية بالاتحاد الاشتراكي. ويمكن القول على حد تعبير حمادة حسني في كتابه «عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري 1963 – 1971» إن تنظيم الطليعة العربية كان أحد أجنحة طليعة الاشتراكيين، الاسم الرسمي للتنظيم الطليعي، حيث كان الربط والتنسيق قائمًا باستمرار، وكان التنسيق يتم في النشرات والتحليلات والتقارير والاستفادة من خبرات التنظيم الأم في القاهرة.

ولا يعد الربط بين التنظيمين شيئًا غريبًا بنهاية المطاف، حيث كان الرئيس عبد الناصر هو القائد الفعلي للتنظيمين، وكان كل المصريين من أعضاء أمانة الطليعة العربية أعضاء في الوقت ذاته في طليعة الاشتراكيين[17].


«ناصر»: النبي السري وشعبه السري

على حد تعبير شريف يونس، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في كتابه «نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية» كان التنظيم الطليعي هو ذروة التحقق الأعلى للنظام الجديد الذي دشنّه جمال عبد الناصر، حيث كان هو التجسيد الأنقى للشعب السري، وهو الشعب الذي يكتب تقاريره في صمت، عن إيمان كامل بالحكمة العليا للرئيس أو «نبي الشعب» بحسب يونس.

طريقة تأسيس التنظيمات الناصرية السرية من الأعلى، وأسلوب اختيار الأعضاء، والمهام والوظائف المنوط بها، كل هذا يشي بطبيعة وكنه تلك التنظيمات التي سعى مؤسسها إلى جعلها بمثابة حزب سلطوي سري ومصطنع،يقوم بنوع من الرقابة الشاملة والتحكم الكامل في المجتمع بشكل يحاكي ما كان يقوم به الحزب الاشتراكي الحاكم في ديستوبيا رواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل.

هنا تحولت السرية التي زعم أنها لمنع أعضائه من استغلال وجودهم التنظيمي فيه من أجل مصالحهم الخاصة، إلى وسيلة لبناء شبكات نفوذ واسعة وسلطة اجتماعية جديدة، تشكلت معها صفوة واعدة جديدة من النخبة البيروقراطية والسياسية والثقافية والاجتماعية، تصدرت المجال العام في مصر منذ ذلك الوقت، وأورثت مواقعها لجيل جديد من «الميديوكر» (أنصاف المواهب) الذين لم يقبلوا أن يزاحمهم أحد في تلك الصدارة حتى الآن.

المراجع
  1. شريف يونس، نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيدلوجيا الناصرية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012، ص 524
  2. حمادة حسني، عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري 1963 – 1971، مكتبة بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص48
  3. المصدر السابق ص49
  4. نداء الشعب، مصدر سابق ، ص525
  5. المصدر السابق ص 525 ،526
  6. عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري، مصدر سابق، ص 64
  7. المصدر السابق ص 65
  8. نداء الشعب، مصدر سابق ، ص527
  9. المصدر السابق ص 527، 529
  10. عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري، مصدر سابق، ص 74
  11. المصدر السابق ص 77
  12. عبد الغفار شكر، الطليعة العربية – التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2015
  13. المصدر السابق
  14. المصدر السابق
  15. المصدر السابق
  16. المصدر السابق
  17. عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري، مصدر سابق، ص 63