||انظروا إلى من كان قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فارضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكم فمن لم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد، وهو راد على الله وهو على حد الشرك بالله||

جعفر الصادق (الكافي 1/ 67)

***

من بين الفرق الإسلامية، امتاز الشيعة والخوارج بتكوين مجتمعاتهم الخاصة على هامش السواد الأعظم من الأمة الإسلامية. ولكن بينما انحصر وجود الخوارج في بقاع معزولة نظرًا للصدام العسكري المستمر بينهم وبين الدولة الرسمية، اتخذ الشيعة، الإمامية تحديدا، وفقا لمبدأ التقية، مسار العمل السري في وجه الاضطهاد الشديد من قبل الدولة الرسمية، خاصة بعد فاجعة كربلاء التي كان لها أثرها على الأمة الإسلامية كلها وليس فقط على الشيعة. وقد ظهر ذلك الخيار السياسي بالعمل السري والعزوف عن أي صدام مباشر في رفض الإمام محمد الباقر (الإمام الخامس) المشاركة في ثورة أخيه زيد، وقد نجح ابنه جعفر الصادق (الإمام السادس) في تنظيم الشيعة وحماية الطائفة من الذوبان في التيار العام.

ولكن اختفاء محمد بن الحسن العسكري الطفل الصغير الذي صار بوفاة أبيه الحسن العسكري وريث الإمامة، ونشأة الاعتقاد بغيبته، مثَّل خطورة كبيرة على استمرار الطائفة وآفاقها السياسية، نظرًا للدور الكبير الذي يلعبه الإمام في النظرية الشيعية. كان وجود سفراء لهم اتصال خاص بالإمام حلًا وسطًا، استمر منذ الغيبة 260 هـ إلى وفاة السفير الرابع الذي رفض الاستخلاف من بعده علي بن محمد السمري سنة 329 هـ. فقد ادعى عثمان بن سعيد العمري اتصالًا سريًا بالإمام الغائب والمهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري وقيامًا بواجبات الإمام وعلى رأسها تحصيل الخمس، ثم ورث السفارة بعده ابنه محمد بن عثمان ثم الحسين بن روح النوبختي.

وبوفاة علي السمري ورفضه الاستخلاف سنة 329 هـ بدأت الغيبة الكبرى، التي لم تكن فقط غيبة للإمام، بل غيبة للطائفة بأثرها حيث توقفت الطائفة عن محاولة القيام بأي واجب مما تعتقد اختصاص الإمام بإقامته، وعلى رأس تلك الواجبات: التشريع والولاية السياسية وإقامة الجمع وأخذ الخمس، مما أدى إلى نشأة ما عرف بـ “نظرية الانتظار”، فيقول النعماني في الغيبة صـ57:

||إن أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى واختياره لا من خلقه ولا باختيارهم فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ورد مورد الظالمين والمنافقين الحالين في ناره||

كانت أولى محاولات مواجهة ذلك التحدي هو نشأة الأصوليين، وهم الفقهاء الذين رأوا أن من حقهم الاجتهاد في الأحكام الشرعية وعدم الاقتصار على نصوص الأئمة وتشريعاتهم المباشرة، وكان على رأس هؤلاء الحسن بن عقيل النعماني الذي ألف “الممسك بحبل آل الرسول” ثم شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي صاحب “المبسوط والخلاف في الفقه” (ت 460 هـ). رأى الشيخ المفيد (ت: 413 هـ) كذلك أن الفقيه يمكن أن يلي إقامة الحدود للسلطان الجائر لما في ذلك من تحقيق مصلحة المسلمين، كما رأى جواز أخذ الزكاة، كما رأى ابن المطهر الحلي (ت: 726 هـ) جواز أخذ الخمس وولاية الحدود من غير إجبار. وقد رجع الشيعة في القرنين السادس والسابع الهجريين إلى إقامة الجمع بعد أن كانوا قد توقفوا عن ذلك منذ غيبة الإمام.

***

||اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه|| الكركي (رسائل الكركي 1/ 142)

لم يدخل الفقيه مع كل ذلك إلى الساحة السياسية، التي كانت تمثل منطقة حراما بالنسبة لمن يتبنون نظرية الانتظار والتقية، حتى كانت دعوة الشاهطهماسب بن إسماعيل الصفوي للشيخ علي بن الحسين الكركي (ت 940 هـ) لتحمل الواجبات الشرعية للدولة معه، وقد مثلت تلك المشاركة من الكركي إرهاصا لنشأة نظرية ولاية الفقيه في ثوبها الكامل، حيث رأى الكركي أن للفقيه النيابة العامة عن الإمام في كل ما كان يقوم به من الواجبات. لكن الظهور الأول لمصطلح ولاية الفقيه، وللنظرية في ثوبها السياسي شبه المكتمل، تأخر إلى القرن الثالث عشر الهجري، بعدما ألف المحقق أحمد بن محمد النراقي (ت 1244 هـ) كتابه “عوائد الأيام” الذي أفرد فيه نظرية ولاية الفقيه بمبحث مستقل.

وعلى الرغم من الدور الكبير الذي كان يمكن للفكرة أن تؤديه في استمرار الطائفة والحفاظ على خصوصيتها السياسية، إلا أن النظرية لم تحظ مع ذلك بتأييد واسع في الأوساط الفقهية الشيعية خاصة العربية منها، التي رأت في أغلبها أن الولاية ينبغي أن تظل محصورة في الجانب الشرعي دون السياسي. فعلى الرغم من أن التيار الشيرازي الذي نشأ بين عقدي الخمسينات والستينات، كان من أوائل من نادوا حديثا بولاية الفقيه، إلا أن التيار قد دخل في صدام كبير مع نظام الولي الفقيه في إيران على الرغم من العلاقات الودية في البداية، حيث رأى التيار أن الولاية ينبغي أن تكون للفقهاء عامة وليست محصورة في شخص بعينه. كما أن ظهور التيار الإصلاحي الذي يميل إلى الشورى أو الديموقراطية يمثل التحدي الأكبر للنظرية ونظامها، وهو ما تجلى بوضوح منذ الصدام المبكر بين الخميني وأستاذه الشريعتمداري الذي تعرض للإقامة الجبرية والمعاملة المهينة والقاسية من قبل النظام، ثم في إقصاء التلميذ الأقرب منتظري والذي كان من المقرر أن يكون وريثا للخميني نفسه.

***

||لا يجوز أن يحكم فرد واحد أو طبقة واحدة فللشعب أن ينتخب ممثليه في البرلمان بالاقتراع الحر، وعندما يقر البرلمان القوانين لا بد أن يراعي رأي الأكثرية انطلاقا من عدم جواز مخالفة هذه القوانين للإسلام، لأن الأكثرية الساحقة من أهل البلاد من المسلمين|| آية الله الشريعتمداري

يعيد تقدم عمر المرشد الأعلى والولي الفقيه في إيران خامنئي طرح ذلك الجدل من جديد، مع تصاعد الأصوات المطالبة بإلغاء المنصب أو تقليص صلاحياته الواسعة. ويمثل أفول شمس تلك النظرية لحظة فارقة في تاريخ الشيعة كطائفة إن لم يكن كفرقة عقائدية، حيث أن القبول بالنظام الديموقراطي من قبل المرجعية الشيعية إذا ما انتهت نظرية ولاية الفقيه، وتعرضت المرجعية بعقائدها التقليدية عن الغيبة والرجعة للإحراج، يعني نهاية التمايز السياسي للطائفة.


اقرأ المزيد:

التيارات الدينية المتنافسة في التشيع المعاصر (1)

التيارات الدينية المتنافسة في التشيع المعاصر (2)