إن كان حاكمها عالمًا حازمًا أصيل الرأي، عالي الهمّة، رفيع المقصد، قويم الطبع، ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم، ومهّد لها طرق اليسار والثروة، وفتح لها أبوابًا للتفنن في الصنائع، والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة.

جمال الدين الأفغاني في «العروة الوثقى»


رأينا أن العصر المملوكي قد تميز بثنائية الفقيه والسلطان مع غياب الخليفة عن المشهد بالكلية رغم وجوده الصوري، لكنه كان عصرًا حيويًا، كوّن الفقهاء أو «رجال العمامة» فيه فئة لا يُستهان بها في غَلِّ يد السلطات كلما أرادت أن تخرق «شروط» التغلب إلى الاستبداد الكلي، في حين سمحت فيه هذه السلطات أن تحتكم جماهير العامة إلى القضاة من مذاهب الفقه الأربعة، فضلًا عن اعتمادها عليهم في الجهاز الإداري للدولة.


العثمانيون في الأقطار العربية

غير أن دخول العثمانيين إلى الأقطار العربية أدى إلى تغيّر كبير في المرجعية القضائية. فالمماليك سمحوا بتعدد المذاهب الفقهية وحرية العامة في مذهبها المرجعي للفصل والتقاضي؛ الأمر الذي لم يقبله العثمانيون، وجعلوا المرجعية القضائية للمذهب الحنفي وحده، وهو المذهب الذي دانوا له منذ عصر التأسيس في القرن الثامن الهجري. وإن ظلت المناصب العلمية والثقافية على حالها قسمة بين فقهاء المذاهب الأربعة، بل إننا نجد بعض فقهاء الشيعة الإمامية يتولون مناصب التدريس في مناطق نفوذهم في جنوب لبنان في ذلك العصر، بموافقة من العثمانيين.

لم يقبل العثمانيون تعدد المذاهب الفقهية الذي سمح به المماليك، وجعلوا المرجعية القضائية للمذهب الحنفي وحده.

كان فرض «أليسق العثماني»، الذي تم إطلاقه إجمالا على كل القواعد والترتيبات التي لا تستند إلى أساس شرعي، والتي أدخلها العثمانيون، دليلاً آخر على تراجع مكانة الفقهاء «المحليين» على الأقل، بل سرعان ما أرسل العثمانيون مفتون من المذهب الحنفي إلى بلاد الشام، وإن تأخّر هذا الإجراء في مصر، نظرًا للثورة التي قامت في ثلاثينيات القرن العاشر ضد الضرائب العثمانية، وضد تغير البنية الإدراية التي اعتاد عليها المصريون في العصر المملوكي.

وعلى الرغم من إرسال العثمانيين للمفتين إلى مصر فيما بعد، فإن وجود الأزهر استطاع أن يحفظ وحدة الجهاز الديني في مصر، وعلى هذا النحو فإن شيخ الجامع الأزهر أصبح رأس الجهاز الديني في مصر قاطبة، ولم يكن لمنصب المفتي شأن إزاءه.


مؤسسة «شيخ الإسلام» والمسألة السياسية

حين أنشأ السلطان العثماني سليمان القانوني «قانون نامه» في القرن العاشر الهجري، وأدى بمقتضاه إلى تنظيم مؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة القضاء، صار منصب «شيخ الإسلام» –وهو منصب المفتي الأكبر– جزءًا من الهيئة الإدارية للدولة، وصار له ديوان خاصّ به، وله مساعدون، وأضحى المنصب فيما بعد مُتخمًا بالهيراركية البيروقراطية [التراتبية] التي جاهدت للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها.

أدى الإدراج الهيكلي للمؤسسة القضائية في دولاب الدولة، وتوريث المناصب الدينية، إلى جمود حدا بها إلى الدفاع المطلق عن أيديولوجيا الدولة.

كانت مسألة «التغلّب» بالنسبة للعثمانيين قد حُسمت لصالحهم حين فتحوا القسطنطينية في خمسينيات القرن التاسع الهجري، وحين توغلوا لنشر الإسلام في شرق وقلب القارة الأوربية، وحين صار البحران المتوسط والأحمر تحت السيادة العثمانية الكاملة بعد القضاء على التهديدات البحرية الأوربية من البرتغاليين والإسبان والبنادقة وغيرهم؛ لذا لم تعد مسألة الشرعية محلّ تساؤل لدى الفقهاء، ودانت الأقطار العربية من العراق إلى الجزائر، ومن الشام إلى اليمن إلى العثمانيين دون جلبة تُذكر لمدة أربعة قرون متواصلة، وإن اختلفت بعض الأقطار عن بعضها في نظر السلطنة العثمانية، خاصة مصر.

لكن ذلك الإدراج الهيكلي للمؤسسة القضائية في دولاب الدولة، وبتوريث المناصب الدينية، أدى إلى نوع تكلس وجمود حدا بها إلى الدفاع المطلق عن أيديولوجيا الدولة دون أخذ في الاعتبار لمستجدات العصور. وحين ظهرت دعوات الإصلاح السياسي والمؤسساتي في الدولة العثمانية في القرنين السابع عشر، مثل دعوة قوجيه بك التي وجهها للسلطان مراد الرابع في عام (1040هـ/1630م) ناقدا الجهل والجمود في وقته، وتوارث المناصب العلمية، واهتمام العلماء بالبروتوكلات والتشريفات، لم يجد بدًا من الدعوة إلى العودة إلى التقاليد القديمة التي كان يراها أكثر حيوية، وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاهتمام بالعملية التعليمية والتربوية، والابتعاد عن الرشا والمحسوبية في تولية هذه المناصب.

وفي القرن التاسع عشر الميلادي أمام التقدم العسكري والصناعي الأوربي، كانت المؤسسة الدينية التقليدية «الحكومية» أول عائق أمامه بالاتفاق مع الانكشارية تارة، والذين كانوا قد صاروا عبئًا على الدولة حين نجحوا في خلع السلطان سليم الثالث (1789 – 1808م)، أو بتحريك أذرعها وشبكاتها البيروقراطية والدعائية وحتى الصوفية، بالرغم من تفهم عدد من السلاطين العثمانيين لأهمية تجديد هذه المؤسسات البالية، كما حدث في عصر «التنظيمات» في أوائل القرن التاسع عشر وما تلاه، وكذلك في عصر السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909م) الذي نجح في بعض ذلك.


الفقيه وأيديولوجيا الحفاظ على مؤسسات الدولة

والحق أن الحفاظ على الدولة التقليدية كان قد صار بالفعل أيديولوجية راسخة لكل من يعمل في إطار هذه الدولة ودواوينها. وحين نقرأ الفكر السياسي العثماني الذي كتبه في مجمله طبقة «الكُتَّاب» نجد أن «صفة هيمنة الدولة عن نفسها في الفكر السياسي (جلية). ففي مرحلة عريضة تمتد من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، لم يستطع أي من الكُتّاب ممن كتبوا في مجال الفكر السياسي العثماني منذ طورسون بك (ت: 1490م) حتى الدفتردار صاري محمد باشا (ت: 1717م) أن يطوِّر فكرة جديدة تختلف عن الأفكار التي وضعها المفكرون المسلمون الأوائل عربًا أو فرسًا. فلم يكن للفكر السياسي العثماني ­­‌«دولة» مثل دولة أفلاطون، ومدينة مثل مدينة الفارابي الفاضلة، ولا أحكام سلطانية مثل التي وضعها الماوردي، ولا كتاب السياسة مثل «سياست نامه» الذي وضعه نظام الملك، ولا مُقدمة ابن خلدون؛ لأن السمة الأساسية لهذا الفكر لم تكن فلسفية، وإنما براغماتية».

وقف جمال الدين الأفغاني على حقيقة أن «شيوخ الإسلام» في الدولة العثمانية دون المستوى، حين تناول حاشية السلطان عبد الحميد منتقصًا من قدرهم وعلمهم وتقليديتهم.

وحين تقف مع مشاهير «شيوخ الإسلام» في الدولة العثمانية، خاصة أبو السعود أفندي في القرن العاشر الهجري (ت: 1574م) في عصر السلطان سليمان القانوني، وأبو الهدى الصيّادي الحلبي (ت: 1909م) في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، تجد سهام النقد موجهة لكلا الرجلين بسبب تكلس المؤسسة الدينية، رغم أن الرجلين كانا من أهل العلم، والكلمة النافذة عند السلطانين الآنفين. لقد رأى الوزير الأعظم لطفي باشا (ت: 1563م) مظاهر الضعف والخلل التي لمسها في أجهزة الدولة أثناء صدارته العظمى، وقد كان أول رجل استشعر علامات التفكك في النظام العثماني، وكان من الجرأة حتى يُصرّح أن شيخ الإسلام أبا السعود أفندي وبعض كبار العلماء في عصره لا يملكون علمًا يعدل ما بلغوه من شهرة. وتلك الحقيقة ذاتها التي وقف عليها جمال الدين الأفغاني حين تناول حاشية السلطان عبد الحميد منتقصًا من قدرهم وعلمهم وتقليديتهم، وعلى رأسهم أبو الهدى الصيّادي.

والحق أن منصب «شيخ الإسلام»، وهو أهم وأعلى المناصب الدينية في الدولة العثمانية لا يزال بحاجة إلى دراسات موسّعة، خاصة دور هؤلاء الشيوخ في المسألة السياسية وشرعية السلاطين. ولحد سنة إخراج موسوعة «الدولة العثمانية تاريخ وحضارة» الصادرة عن مركز «إرسيكا» بإشراف الدكتور أكمل الدين أوغلي في العام 1999م، كانت ثلاث دراسات متخصصة فقط قد كُتبت عن منصب «شيخ الإسلام» كما يقرر الدكتور محمد إبشيرلي الأستاذ بكلية الآداب جامعة اسطنبول.

وقد وقفتُ على واحدة من هذه الدراسات الثلاث التي أشار إليها د إبشيرلي، وهي دراسة أكرم كيدو «مؤسسة شيخ الإسلام في الدولة العثمانية» فرأيتها مختصرة، خاصة في العلاقة بين السلاطين والشيوخ من وجهة الشرعية القانونية للسلاطين، ولا تعدو كونها تجميعًا لمواد متفرقة تحت عناوين موضوعية مختلفة، غير أن هذه المادة تعطي لنا دلالة قاطعة على قوة هذا المنصب، ومحوريته في السياسة العثمانية، وعلى الأدوار السياسية التي قام بها شيوخ الإسلام، حتى إن فتاواهم كانت سلاحًا سياسيًا فاتكًا في بعض الفترات.

واجه الفقيه في العصر العثماني تحديات أهمها مسألة وضع الدولة ومؤسساتها والحفاظ عليها، حتى صار هذا الحفاظ بمثابة العائق أمام عملية «التحديث».

ومن هنا نرى أن الفقيه في العصر العثماني، خاصة في مركز صناعة القرار في اسطنبول بدءًا من منتصف القرن السادس عشر الميلادي كان يواجه تحديات حقيقة، أهمها على الدوام مسألة «وضع الدولة ومؤسساتها»، والحفاظ على تقاليدها القديمة، حتى صار هذا الحفاظ على الشكل التقليدي بمثابة العائق البيروقراطي، لكن وجد هؤلاء أنفسهم عاجزين عن مسايرة عملية “التحديث”، التي ما لبثت أن صارت حقيقة على النمط الأوربي، والتي استولت على الأوقاف التي كانت المعين الأساسي لهؤلاء الفقهاء قبيل انتهاء الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وسرعان ما تراجع دور الفقيه في هذا الدور الأخير من عصر الدولة العثمانية.

أمام هذا الجمود في المؤسسة القضائية والدينية، وهو الأمر الذي انعكس بالسلب على المسألة السياسية برمتها، كانت دعوات الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وجمال الدين القاسمي وغيرهم تصدح في أرجاء الدولة العثمانية مطالبة بضرورة التجديد والإصلاح في كل شيء حتى في حاشية السلطان ذاتها، تلك الحاشية التي انتقدها الأفغاني فهلك بسببها كما قيل، لكن القطار كان قد فات، نظرًا لذلك الجمود الذي حدا بالاتحاديين الأتراك إلى الانقلاب على العثمانيين حين استسلم آخرهم عبد المجيد لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى حين دخلوا اسطنبول، وحين دفنت هذه الخلافة مع مؤتمر لوزان في أول يناير من عام 1923هـ، ثم بإعلان العلمانية والدولة القومية التركية في العام التالي 1924م. هنالك وقف الفقيه حائرًا، لا يُنازع خليفة ذا بيعة شرعية أو سلطانًا متغلبًا هذه المرة وإنما وقف الفقيه وحيدًا باحثًا عنهما، لكن النظام العالمي الحديث كان قد فرض قانونه، ونشأت الدولة القومية من رحم هذا الفضاء الجديد، ولا شك أن دور الفقيه قد تقزّم في ظل هذه الدولة منذ مائة عام وإلى اليوم!

إن العلاقة بين السلطان والفقيه في العصر العثماني تحتاج إلى دراسات مستفيضة، لتجيب على تلك الجدلية التي طرحها وجيه كوثراني في «الفقيه والسلطان» في التجربتين الصفوية والعثمانية، حيث رأى أن تكلّس الفقيه وجموده ومحاربته للاجتهاد كان سببًا قويًا من أسباب تخلف الإدارة العثمانية كاملة بسبب رفض دعوات الإصلاح، وذلك رأي بحاجة إلى مزيد بحث وتحري.

المراجع
  1. محمد إبشيرلي: نُظم الدولة العثمانية، ضمن كتاب الدولة العثمانية .. تاريخ وحضارة، إشراف أكمل الدين إحسان أوغلو، منشورات مؤسسة إرسيكا – اسطنبول، 1999م.
  2. وجيه كوثراني: الفقيه والسلطان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الرابعة – بيروت، 2015م.
  3. أكرم كيدو: مؤسسة شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، ترجمة هاشم الأيوبي، منشورات جروس برس – طرابلس، لبنان، 1992م.
  4. خالد زيادة: الكاتب والسلطان .. من الفقيه إلى المثقف، الدار المصرية اللبنانية – القاهرة، 2013م.
  5. خالد زيادة: من المماليك إلى العثمانيين .. الفقيه في مرحلة الانتقال بين عصرين، مجلة الاجتهاد، العدد الرابع – بيروت، 1989م.