لطالما ردد المستشرقون، لاسيما اليهود منهم، مقولة إن الإسلام دين متأثر أو مُقتبس من اليهودية ومصادرها الدينية المقدسة، وفي مقدمتها التوراة والتلمود، مبررين مقولتهم هذه بوجود تشابه بين ما جاء به الإسلام وبعض ما هو موجود في اليهودية، معتبرين أن هذا التشابه دليل على تأثر الإسلام بالديانة الأسبق عليه وهي اليهودية؛ إذ طوروا نظرية «التأثير والتأثر» التي تقول بضرورة تأثر الدين الأحدث بالدين الأقدم عليه، وطبقوها بشكل تعسفي على الإسلام ومصادره، وفي مقدمتها القرآن الكريم.

مع ذلك، فان ظهور فرقة «اليهودية القرائية» في العصر الوسيط يدحض هذه الدعوى الاستشراقية؛ إذ أثبتت هذه الفرقة وعوامل ظهروها أن اليهودية هي التي تأثرت بالإسلام وليس العكس. نشأت هذه الفرقة على نسق إسلامي بحت متأثرة بالفكر الديني الإسلامي على مستوى العقائد والتشريعات، وحتى على مستوى ممارسة الطقوس، لدرجة وصفها الباحثون بأنها «يهودية على قوام إسلامي»، في حين اعتبرها حاخامات اليهود قديمًا وحديثًا فرقةً إسلاميةً انتحلت صفة اليهودية، وأخرجوها من ملل اليهود واعتبروا معتنقيها خوارج.


كيف ظهرت وتأثرت بالإسلام؟

ظهرت اليهودية القرائية في القرن التاسع الميلادي على يد الحاخام عنان بن داوود * الذي أعلن انشقاقه على اليهودية التقليدية الحاخامية التي كانت تتسمك بالتلمود وبكل المرويات الشفوية الدينية اليهودية؛ وذلك نظرًا لتذمر الطبقات اليهوديّة من عوام الناس من سيطرة الحاخامات على شؤون الدين. وُصفت القرائية بأنها «فرقة يهودية تمثل احتجاج الفرد وضميره الحر ضد عبء السلطة المركزية والتقاليد الجامدة»، فقد أطلقوا على القرائين في بعض الكتابات «بروتستانت اليهوديّة»[1].

نشأت اليهودية القرائية في بيئة «صراع ديني» سواء «داخلي» بين الفرق الدينية اليهودية وبعضها البعض، أو صراع «خارجي»، تمثل في وجود صراع أو جدل ديني بين اليهودية والإسلام؛ إذ كان الإسلام الدين الأكثر قوة وانتشارًا في فترة ظهور القرّائية. لذلك، فإن القرّائية تعرضت لحرب شديدة من جانب اليهودية الحاخامية التقليدية التي قادها ممثل اليهودية الحاخامية الأول في هذه الفترة الحاخام التلمودي سعديا جاؤون الفيومي، وتكفل بالرد عليهم دينيًا في كتابه المعروف باسم «الأمانات والاعتقادات» ورسالته الثانيّة المعروفة باسم «الرّد على المتحامل»[2].

لذلك تأثرت اليهودية القرائية بشدة بالإسلام، وكانت من ضمن أسباب ذلك هو نظرتهم الإيجابية وموقفهم الجيد أحيانًا من الإسلام؛ إذ يرون أن نظرة الإسلام إلى الله هي أقرب إلى اليهودية منها إلى النصرانية، ويعدون الإسلام أصفى وحدانية من النصرانية، إضافة إلى أن القرائية نشأت في بيئة ثقافية إسلامية مزدهرة فكريًا ودينيًا اتسمت بالتسامح الكبير تجاه أتباع الديانات الأخرى؛ الأمر الذي أعطى فرصة لليهود وغيرهم للتأثر بالثقافة الإسلامية [3].

وقد وصل تأثير الاسلام على القرائين إلى حد التأثير على عقيدتهم وتحول الكثير منهم إلى الإسلام، مثلما ذكر صموئيل (السموأل) بن يحيى المغربي، وهو أحد كبار الحاخامات اليهود الذين أعلنوا إسلامهم؛ إذ قال، إن أكثر القرائين خرج إلى دين الإسلام ولم يبق منهم إلا نفر يسير لأنهم أقرب للاستعداد لقبول الإسلام من اليهود التلموديين [4].


يهودية على الفكر المعتزلي الإسلامي

كانت أكثر مظاهر تأثر القرّائين بالإسلام هي تأثرهم بالفكر المعتزلي وعلم الكلام الإسلامي، وقد تبدّى ذلك في أن القرّائين قد جعلوا النص المقدَّس المكتوب، أي العهد القديم، المرجع الأول والأخير في الأمور الدينية كافة والمنبع لكل عقيدة أو قانون، مثلما هو الحال عند المعتزلة المسلمين الذين اعتبروا القرآن الكريم أصل كل المفاهيم الدينية ومعظم العقائد والتشريعات، وركزوا على تطوير أصول فقهية لاستنباط الأحكام منه، وقلّدهم القراؤون في ذلك تقليدًا كبيرًا [5].

كما دعا القرّاؤون إلى ترك أي مرويات شفوية أخرى خارج الكتاب اليهودي المقدس، واعتبروه هو الأساس، وأعطوه كل العناية في التدقيق والتفسير وإعمال العقل فيه، مثلما نادى المعتزلة المسلمون أيضًا إلى إعمال العقل وترك الجمود وعدم الأخذ بالحديث النبوى الشريف مصدرًا للعقائد، وأن القرآن الكريم يستغني بنفسه عن التكملة بأي مصدر تشريعي آخر [6].

وفيما يتعلق بـصفات «الألوهية»، نادى القراؤون اليهود بنفس ما نادى به المعتزلة المسلمون، معتبرين أن بعض الصفات هي صفات معنوية بحتة ولا يجوز اعتبارها صفات حسية مادية، وكان هدف القرائين من ذلك هو ما يمكن تسميته «عقلنة» المعتقدات اليهودية. وقد كان علماء المسلمون يسمون القرائين بـ«أهل العدل والتوحيد» تمامًا كما سُمّي المعتزلة من المسلمين [7].

كما استعمل اليهود القراؤون نفس أسلوب الجدل والتفكير لدى المعتزلة الذي يُسمى «علم الكلام» وهو أسلوب فلسفي جدلي اعتنقه القراؤون لمساعدتهم في الجدل مع التلموديين من جانب، ولمحاولتهم وضع مذهبهم الجديد في نسق أو إطار إسلامي متماسك من جانب آخر [8].


موقفها من الصهيونية وإسرائيل

جاء موقف اليهودية القرّائيّة الرافض للصهيونيّة متسقًا مع موقف بقيّة الطوائف والفرق اليهودية التى قطنت العالمين العربي والإسلامي الرافضين للحركة الصهيونية، إذ لم تكن الصهيونية تخاطبهم بل كانت تخاطب يهود أوروبا وخصوصًا يهود شرق القارة، إضافة إلى أن القرّائين لم يكونوا معنيين بما يُسمى «المسألة اليهودية The Jewish Question» وأسباب نشوئها، كونهم عاشوا في محيط إسلامي متسامح مع اندماج فيه إلى حد كبير، وهو معاكس لما عاناه يهود أوروبا الشرقية في حينه، لذلك فإن القرائين عبروا صراحة عن رفضهم للصهيونية التي رأوا أنها تعطى فرصة للحاخامات الأرثوذكس للسيطرة على اليهودية [9].

وكان للقرائين في مصر وتركيا نشاط ملحوظ ضد الصهيونية، إلا أن الأخيرة نجحت من خلال بعض الحيل والوسائل السياسية والدعائية والأمنية في جلب بضع آلاف منهم وإدخالهم عنوة لإسرائيل بل وإجبارهم على الصمت بعد أن هددتهم بتصفية أقاربهم من اليهود القرائين خارج إسرائيل. ولم يهاجر إلى إسرائيل عن اقتناع أو عن رغبة حقيقية سوى مجموعة من البسطاء من اليهود القرائين، وكان معظم اليهود القرائين في مصر يؤمنون باندماجهم في الشعب المصري وبإمكانية أن يكونوا جسرًا حقيقيًا بين الشرق والغرب [10].

في هذا الصدد، يقول د. جعفر هادي حسن، الباحث العراقي المختص في الفرق اليهودية بجامعة اكسفورد، إن تأثير الصهيونية على القرائين خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين كان قليلًا جدًا، خاصة في مصر التي كان يزورها الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان لمحاولة إقناع القرائين بالانضمام للصهيونية والهجرة إلى إسرائيل بحكم ما يُعرف باسم «قانون العودة» الإسرائيلي الذي ابتدعته الصهيونية، وهو ما لم يفلح فيه. وحينما نشأت إسرائيل، ألّح عليهم حاخامهم ألا يهاجروا أبدًا وأن مصر بلدهم [11].

مع ذلك، فعند قيام إسرائيل، هاجر إليها كثير من القرائين بسبب أن الدعاية الصهيونية والسياسية التي انتهجتها بعض الحكومات العربية والمبنية على عدم إدراك الاختلافات بين اليهود التلموديين واليهود القرّائين جعلت معظم القرائين يهاجرون من البلاد العربية إلى إسرائيل وغيرها من الدول الغربية [12].


* عنان بن داوود: حاخام يهودي عراقي، وينسب إليه تأسيس فرقة العنانية עננים وكذلك القرائية، ويقال إنه تأثر بفكر العالم المسلم أبو حنيفة النعمان خلال فترة تواجدهما في السجن، من أشهر مؤلفاته كتاب الأوامر والنواهي بالآرامية (سفر هامتسفوت) سنة 770م، ويعد من الكتب الفقهية والتشريعية اليهودية المهمة (انظر: Leon Neomy; Anan Ben David; ; Encyclopedia Judaica, Kete Publishing House Ltdk; Jerusalem, vol 2, 2007. p 126-127).
المراجع
  1. محمد خليفة حسن(د)، تاريخ الديانة اليهودية، بدون ناشر، القاهرة، 1996، ص213.
  2. محمد جلاء إدريس (د)، التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، دراسة نقدية مقارنة لطائفة اليهود القرائين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993، ص32.
  3. نفس المرجع، ص43-36.
  4. جعفر هادي حسن، تاريخ اليهود القرائين منذ ظهورهم حتى العاصر الحاضر، دار العارف للنشر، الطبعة الثانية، بيروت 2014، ص70.
  5. نفس المرجع، ص101-105.
  6. نفس المرجع، ص35.
  7. محمد جلاء إدريس، المرجع السابق، ص123.
  8. جعفر هادي حسن، المرجع السابق، ص105.
  9. جعفر هادي حسن، المرجع السابق، ص235.
  10. نفس المرجع، ص235-236.
  11. نفس المرجع، ص235.
  12. جعفر هادي حسن، المرجع السابق، ص245.