الزمان عام 1648م، في إستانبول، حاضرة الدولة العثمانية، التي كانت آنذاك  إمبراطورية مترامية الأطراف، تسيطر على مصر والشام والعراق والحجاز وأجزاء من القوقاز، وسواحل شمالي أفريقيا، والجزء الجنوبي الشرقي من قارة أوروبا، لا سيَّما شبه جزيرة البلقان، وصولًا إلى أوكرانيا وبولندا شمالًا، لكن كان يتربَّص بها العديد من المشكلات الداخلية ونوازع الاضطراب التي تمثل خطرًا وجوديًّا عليها.

شهدت إستانبول في ذلك العام مصيرًا بائسًا للغاية لسلطانٍ كانت حياته فصولًا تراجيدية مؤلمة هو السلطان إبراهيم الأول بن السلطان أحمد، فقد اعتلى العرش العثماني عام 1640م / 1050هـ لأنه آخر أميرٍ بقي من النسل العثماني، وكان شابًّا لم يتجاوز عمره 24 عامًا، ولا يملك أية خبرة ذات بالٍ في الحياة تؤهله لهذا المنصب الحساس، حيث قضى جُلَّ حياته سجينًا، محتقنًا بالصدمات النفسية من جراء تلك العزلة البشعة، ومقتل 4 من إخوته في صراعاتٍ سياسية مريرة. 

أطاح انقلابٌ عسكري نفَّذته بعض فرق الجنود الإنكشارية – أبرز فرق الجيش العثماني المقاتلة آنذاك – بالسلطان إبراهيم الذي كان على وشك أن يشن حملة تطهير ضد الإنكشاريين بعد أن ضاق ذرعًا بما يُحدثونه من اضطرابات وخلخلة في نظام الدولة. وقد استغلَّ المتمردون إسرافه الشديد في الإنفاق الشخصي وإغداقه الهدايا  الثمينة على جواريه المحظيات، ليؤلَّبوا الرأي العام ضده.

 قُتِل الصدر الأعظم أحمد باشا، ثم لحقَ به بعد أيامٍ السلطان إبراهيم، حيث لم يكتفِ المتآمرون بسجنه، ومبايعة ابنه محمد ذي السنوات السبع سلطانًا، فقد خشوْا أن يحدث انقلاب مضاد يطيح بهم، ويعيده إلى العرش، لتدور عليهم دائرة الانتقام، فاستصدروا فتوى من شيخ الإسلام – أكبر منصب ديني في الدولة العثمانية – بجواز قتله لدرء الفتنة! وكان الصادم أن السلطانة أم السلطان، كان لها دورٌ خطير في ذلك الانقلاب ضد ابنها الذي حاول تحجيم نفوذها السياسي الهائل في الدولة.

هكذا كانت البداية الدموية المضطربة لعصر السلطان العثماني محمد الرابع (1648م – 1687م) والذي سيكون من أطول السلاطين العثمانيين حكمًا، وسيشهد عصره تقلباتٍ كبرى، حيث سيبدأ باضطراباتٍ عاصفة في السنوات الثلاث الأولى كان بطلتها السلطانة الجدة كوسم سلطان، ثم خمس سنواتٍ من محاولاتٍ لضبط الأوضاع وإعادة ماكينة الدولة المتعثرة للدوران، على يد السلطانة الأم خديجة تارخان، والتي ستتوَّج بتدشين عصرٍ قصير لكنه مهم من عودة الحيوية السياسية والعسكرية للدولة العثمانية، هو عصر آل كوبريللي، وبالأخص عندما اعتلى منصب الصدر الأعظم – بمثابة رئيس الوزراء في العهد العثماني – محمد باشا كوبريللي (1656م-1661م) ثم ابنه أحمد فاضل كوبريللي (1661م- 1676م).

اقرأ: عندما دفعت أمريكا الجزية للدولة العثمانية

كوسم وخديجة: العرش العثماني بين سلطانتيْن

يحلو للبعض تسمية تلك الحقبة من التاريخ العثماني الوسيط باسم سلطنة الحريم، حيث لعبت نساء البلاط العثماني أدوارًا سياسية كبرى، كان أبرزها ما فعلته السلطانتان الوالدتان كوسِم سلطان، وخصمتها وقاتلتها لاحقًا خديجة تارخان أو تورهان.

وُلدَت السلطانة كوسِم عام 1589م، وكانت من أصلٍ يوناني. تميَّزت كوسِم بجمالٍ وذكاءٍ فائقيْن، مما أهلَّها لتكون أحظى زوجات السلطان العثماني أحمد، والذي تُوفِّي عام 1617م. استخدمت السلطانة كوسِم نفوذَها الكبير لتدفع بأخي زوجها الراحل، مصطفى الأول إلى العرش، وكان مريضًا عقليًّا.

أرادت كوسِم من خلال وجوده غير الفعَّال في سدة الحكم أن تخلو لها الأجواء لبسط هيمنتها على سياسة الدولة، لكن لم تمر 3 أشهر حتى عُزِل من المنصب لعجزه، واعتلى العرش السلطان عثمان الثاني وهو من أبناء السلطان أحمد من زوجةٍ أخرى غير كوسم، وكان رغم شبابه المبكر، طموحًا قويًّا، فأبعد كوسِم عن التأثير، ثم أراد تحجيم طغيان نفوذ العسكر الإنكشاريين، لا سيَّما بعد تسبب عدم انضباطهم في فشل حملة بولندا عام 1621م، فعلِم الإنكشارية بمخططاته فانقلبوا عليه وقتلوه عام 1622م.

اقرأ: عمَّات فاطميات: حكايات «الكَيد العظيم»

عام 1623م عادت كوسِم سلطان للواجهة مع اعتلاء ابنها مراد الرابع عرش إستانبول، وظلت هي الوصية على العرش لخمسة أعوام كاملة، وفي يدها الحل والعقد، حتى كبر مُراد، وانفرد بالسلطان، وفرض قبضته الحديدية على الجميع حتى الإنكشاريين، وحافظ لأمه كوسِم على وضع سياسي خاص، وتوفي 1640م، لتلعب كوسِم دورًا مهمًّا في تنصيب أخيه – وابنها – إبراهيم الأول، وظلت في سنوات حكمه الأولى تحاول لعب نفس أدوارها، حتى ضاق بها إبراهيم ذرعًا كما ذكرنا للتو. وكان أقوى أوراق كوسِم على الأرض هو دعم من أجنحةٍ قوية في الإنكشارية اشترت ولاءهم بما بذلت من أموالها الوفيرة.

يذكر البروفسور التركي أحمد آق كوندوز في كتابه «الدولة العثمانية المجهولة» أن السلطانة كوسم قد لعبت دورًا كبيرًا في قرار ابنها السلطان إبراهيم بإعدام الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا، رغمَ سنواتٍ من خدمته الفعَّالة في المنصب، والتي نجح خلالها في تحسين الأوضاع الإدارية والاقتصادية للدولة، وذلك لتتخلَّص من نفوذه الكبير، وتخلو لها الساحة للزج برجالها المخلصين، والتحكم في المشهد.

ولا يتردد البروفسور كوندوز في اتهام كوسم بأنها كانت وراء أبرز الخطوات السلبية التي أقدم عليها ابنها السلطان، ولعلَّ هذا يفسر رغبة السلطان إبراهيم في تحجيم نفوذها عبر إبعادها عن القصر عام 1644م. ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن السلطانة كوسِم كانت في البروتوكول الرسمي العثماني ثاني أبرز شخصية في الترتيب بعد السلطان مباشرة، وقبل ولي العهد الصغير، وقبل الصدر الأعظم.

اقرأ: علي سعاوي: مفكر إسلامي في عصر التنظيمات العثمانية.

أما السلطانة خديجة تارخان فقد كانت أبرز زوجات السلطان المغدور إبراهيم الأول. وُلِدت خديجة عام 1627م من أصولٍ أوكرانية، ولا يُعرف الكثير عن طفولتها المبكرة، ولا كيف أصبحت جارية، ثم وصلت إلى البلاط العثماني.

 أصبحت خديجة ملء السمع والبصر في الدولة العثمانية بينما كانت لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها، عندما وضعت مولودها الأول من السلطان إبراهيم، وهو محمد الذي سيصبح لاحقًا السلطان محمد الرابع. تنفَّست الدولة العثمانية بمختلف كياناتها الصعداء مع ولادة محمد، لأن والده إبراهيم كان آخر من بقيَ من الأمراء العثمانيين على قيد الحياة، ولو مات قبل ولادة محمد، لانقطع النسل العثماني. 

عام 1648م، قُتِل إبراهيمُ كما ذكرنا، وأصبح محمد ذو السنوات الست من عمره هو السلطان، وفرضت السلطانة كوسِم نفسَها وصيةً على العرش، وتلقَّبت بالسلطانة الجدَّة، مع أن التقليد العثماني في الأوضاع المشابهة كان يقضي بأن تكون الوصيَّة هي أمه خديجة تارخان، التي أصبحت السلطانة الأم، فأضافَ هذا مزيدًا من الحطب في نار العداوة بين المرأتيْن، فقد كانت خديجة تتلظَّى حقدًا على كوسِم التي لم تتورعْ عن قتل ابنها إبراهيم زوج خديجة من أجل السلطة.

يروي المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن الأمور لم تسِر على ما رامَتْ كوسِم في السنوات التالية لانقلاب عام 1648م، ففي الشهور الأولى تصاعدت أصواتٌ عديدة تطالب بالثأر للسلطان المغدور إبراهيم، وشهدت إستانبول وغيرها صداماتٍ مسلحة بين فرسان السباهي المُعارضة والأجنحة الإنكشارية الانقلابية، حسمها المنقلبون بصعوبة بالغة.

قُتل الصدر الأعظم صوفي محمد بعد 9 أشهر في المنصب – ولعل السبب في هذا المصير هو محاولته أن يسحب الوصاية على عرش السلطان الصغير محمد إلى أحد قادة الدولة الرجال – وخلفه أحد قادة الإنكشارية وهو قرة مراد باشا، والذي كان من صنائع السلطانة كوسِم، ورغم دهائه وقوته، فإنَّه عجز عن السيطرة على الأمور، وعلى فساد وتمردات قادة الإنكشارية المنافسين له، فاستقال بعد سنة، ولم ينجح خلفه في الاستمرار إلا لعامٍ واحد.

في صيف عام 1651م، بدأت نذر الثورة تلوح في أفق الشارع العثماني الذي ضجَّ من تلاعبات السلطانة كوسم، وفساد رجالها من قادة الإنكشارية، وصراعاتهم على الثروة والنفوذ، وكان للسلطانة الأم خديجة تارخان دور بارز في تأليب الرأي العام ضد كوسِم ورجالها، لا سيَّما وقد تسبَّبت صراعاتهم وفسادهم في تباطؤ الحملة العسكرية العثمانية على جزيرة كريت التابعة لجمهورية البندقية والتي بدأت عام 1645م.

قررت السلطانة الجدة أن تضرب بقوة وقسوة مجددًا، ودبَّرت مؤامرة لاغتيال حفيدها السلطان محمد الرابع، وإحلال حفيدٍ آخر هو سليمان من أمٍ غير خديجة، لتضرب نفوذ خديجة في مقتل، ويسهل عليها التخلص منها. لكن كانت خديجة الشابة قليلة التجربة أمهر في لعبة الشطرنج الدموية تلك، حيث نقلت لها عيونُها أنباء المؤامرة، فبثَّتها بين الجماهير، فاندلعت الثورة، وأمرت خديجة أنصارها في القصر باستغلال هذا الزخم الشعبي، واعتقلت السلطانة كوسِم ذات الـ 62 عامًا، وأعدمتها شنقًا في الثاني من سبتمبر/أيلول 1651م.

وقد ظلَّ الشارع العثماني ملتهبًا في إستانبول بعد التخلص من السلطانة كوسِم داعيًا إلى التخلص من كافة رجال كوسِم لا سيَّما من قادة الإنكشارية، والذين كان عصرهم البائد يُسمَّى عصر الأغَوَات (جمع أغا)، وبدأ رجال خديجة تارخان في ملاحقتهم في كل مكان.

نائبة السلطنة 

يذكر البروفسور أحمد آق كوندوز في كتاب «الدولة العثمانية المجهولة» أنه بعد أحداث عام 1651م، أصبحت خديجة تارخان ذات الـ 24 عامًا الوصية على العرش العثماني، ونائبة السلطنة، والمتصرف الأهم في شئون الدولة، وقد استفتحت عهدها بإعدام 38 من أغوات الإنكشارية من المحسوبين على كوسِم، وصُودرَت أموالهم، وعُثِر بحوزة واحدٍ منهم فقط على أكثر من 5 ملايين قطعة نقدية، بينما كانت الخزانة العثمانية نفسها شبه فارغة.

ركَّزت خديجة ورجالها على الملف الاقتصادي المنهار، فأوكلت الصدارة العظمى إلى تارهونجو أحمد باشا، والذي أصدر لائحة اقتصادية لإنقاذ الخزانة، لكنه لم يحقق نجاحًا مُرضيًا واستقال بعد أشهر. 

 وفي كتابه، عدَّد المؤرخ يلماز أوزتونا أسماء 10 من كبار رجال الدولة العثمانية الذين تعاقبوا على منصب الصدارة العظمى شديد البؤس في ذلك الوقت العصيب، في خلال سنواتٍ خمس من 1651م إلى 1656م، وعجزوا جميعًا عن إنقاذ اقتصاد وسياسة الدولة المتزعزعة، وكان الإعدام مصير بعضهم. وزاد الطين بلة أن جمهورية البندقية استغلَّت الأزمة العثمانية، وأرسلت أسطولها لإغلاق مضيق الدردنيل الحيوي عام 1654م، لكن نجح الأسطول العثماني-الجزائري المشترك في هزيمته، لكنه أعاد احتلال المضيق عام 1656م، فسبَّب هذا احتقانًا شديدًا في الشارع العثماني.

دفعت أجواء عام 1656م العصيبة بالسلطانة الأم خديجة تارخان إلى البحث مجدَّدا عن رجلٍ قوي يصلح لمنصب الصدارة العظمى وسط تلك التحديات الصعبة داخليًّا وخارجيًّا. دارت مشاورات حامية بين السلطانة، وخاصة رجالها، لا سيَّما أهم مستشاريها قاسم باشا ذي الثمانين عامًا، والذي اقترح عليها اسم الأمير العجوز ذي الأصل الإيطالي محمد باشا كوبريللي، فاجتمعت به خديجة تارخان فورًا، وقبلت شروطه الصعبة لتولي المنصب، وعلى رأسها إطلاق يده بشكلٍ تام في صلاحيات إدارة الدولة، وأن يُسمح له باستخدام القبضة الحديدية داخليًّا وخارجيًّا، وأن يصبح هو الرجل الثاني في الدولة بعد السلطان الذي أصبح بالغًا في عمر الرابعة عشرة، فأُعلِن رسميًّا استلامه للسلطة، وإنهاء فترة نيابة السلطانة الأم خديجة تارخان.

السلطانة تُنهي سلطنة الحريم

على مدى 27 عامًا بعد رضاها طواعيةً بالتنازل عن الوصاية على العرش، ونيابة السلطنة، وحتى وفاتها 1683م، التزمت السلطانة خديجة تارخان بعدم تكرار مأساة خصمتها القتيلة كوسِم، فلم تتدخلْ في شئون السياسة، لا سيَّما وقد أثبت محمد كوبريللي باشا ومن بعده ابنه أحمد فاضل كوبريللي سلامة رهانها على آل كوبريللي، فنجحوا بقبضةٍ حازمة في ضبط الأحوال الاقتصادية والسياسية والداخلية في الدولة العثمانية، وإلحاق الهزيمة بجمهورية البندقية في البحر، ثم في حسم معركة كريت عام 1669م بعد 24 عامًا من القتال في تلك الجزيرة الحيوية في البحر المتوسط، ثم إعادة الفورة العسكرية العثمانية في شرقي ووسط أوروبا، ودفع حدود الدولة العثمانية مع الإمبراطورية النمساوية إلى حدود عاصمتها فيينا.

حرصت السلطانة خديجة حتى وفاتها في عام 1683م في إبعاد نساء البلاط عن التدخل في السياسة، وكسب ولاءات رجال السياسة والجيش، وذلك للحيلولة دون تكرار أنموذج السلطانة كوسِم، واكتفت في غالب الأحيان ببذل النصائح لابنها السلطان محمد الرابع، وبالمساهمة في العديد من الأعمال الخيرية البارزة لخدمة المجتمع العثماني، ولذا فقد حظيتْ بشعبية جارفة لدى كافة أطياف الشارع العثماني، وقد اعتبر عصرها هو ختام عصر سلطنة الحريم في التاريخ السياسي العثماني، والذي كان ذروته هو عهد السلطانة كوسِم، وبدايته في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي في عهد السلطان سليمان القانوني وزوجته روكسيلانا صاحبة النفوذ الكبير آنذاك.