ثمة حكايات مخفية في ثنايا حوادث التاريخ الكبرى، قد تصادفك إحداها إذا كنت ممن يحبون النبش في هوامش التاريخ، لكن أن تقع يديك على كتاب يجمع عددًا ضخمًا من تلك الحكايات، فتلك هي المنحة الإلهية الكبرى إذًا، وهكذا هو الحال مع كتاب «خريدة القاهرة» للدكتور حامد محمد حامد الصادر مؤخرًا عن دار الرواق للطباعة والنشر.

في «خريدة القاهرة» صاغ المؤلف قالبًا فريدًا من الحكايات؛ يأخذك من يديك ليمر بك على أحد المساجد الكبرى المصبوغ بفخامة العمران، وفجأة يدخل بك إلى زاوية صغيرة تقع إلى جوار المسجد الضخم، ربما لم تلحظ وجودها من قبل، وهنا تنساب الحكايات، وأجمل ما فيها التفاصيل، فيرسم بالكلمات لوحة زيتية ترى فيها الدراويش في زمن المماليك يرتدون أزياءهم الغريبة، مثل أبي الخير الكليباتي الذي صاحب الكلاب، وأظهر الكرامات، وفي مشهد آخر يصبح بطل الحكاية أحد القضاة ممن تعلو رءوسهم العمامات الضخمة، وهكذا عشرات الحكايات نحت فيها حامد شخصياته من واقع الحياة الحقيقية، ليرصد عن قرب ارتباطها بالأماكن، التي قد نزورها عشرات المرات وتسقط منا حكايات بهذا القدر من الثراء الإنساني.

كتاب كهذا جعلنا في «إضاءات» نتوجه إلى صاحبه، نسأله عمَّا وراء ذلك العمل، وكيف صاغت أنامله كل هذا البهاء، فإلى نص الحوار.

في مقاله «لماذا أكتب» قال جورج أورويل إن نقطة بدايته هي دائمًا الإحساس بالانحياز لشيء ما. فإلى أي شيء تنحاز في الكتابة بشكلٍ عام، وفي كتابك «خريدة القاهرة» على وجه التحديد؟

انحيازي للإنسان! إجابة كهذه تبدو شديدة «الكليشيهية» أو على الأقل بالغة السذاجة والمثالية، لكن ما أقصده أنني معنيٌّ في التاريخ بما هو بشري في مقابل التاريخ الرسمي، ومع هذا فلا أزعم قطعًا إمكانية اعتبار الكتاب بحال بحثًا في التاريخ الاجتماعي، والأمر ببساطة أنني حاولت النظر إلى الأماكن وبعض الأحداث والشخصيات التاريخية عبر منظار الأنثروبولوجيا.

باعتبار العنوان هو عتبة النص، ما السر وراء عَنونة كتابك بـ «خريدة القاهرة»؟

يمكنني أن أدَّعي الدروشة؛ فأقول إن هذا العنوان قد جاءني بلا مقدمات، فيما يشبه الفتح الإلهي، ما أنا متأكد منه بالفعل أنني كنت قد اتفقت مع الناشر منذ قرابة العامين على خطة الكتاب وخطوطه العريضة، ولم أتمكن أن أضع حرفًا واحدًا طوال هذه الفترة، رغم أن مادته ومصادره كانتا جاهزتين بالفعل، كان ينقصني روح الكتاب التي ستلملم شتات فصوله، وفور عثوري على العنوان بدأت الكتابة فورًا، فلم أجد وصفًا ملائمًا للقاهرة أكثر من كونها «خريدة»، أي لؤلؤة مكنونة، لا تبوح بكل أسرارها أبدًا، مهما بدا لك غير ذلك! 

 وبالطبع يجب أن نذكر أن الاسم مُستوحى من متن الخريدة البهية في علم التوحيد للشيخ أحمد الدردير، الذي سيرد طرف من حكايته في الكتاب.

ما هو المنهج الذي اتبعته في نقل حكايات الأماكن في القاهرة؟

«خريدة القاهرة» ليس كتاب تاريخ ولا آثار كما نوهت في مفتتحه، ولكنه كتاب يحاول أن يتلمس روح الأماكن عبر تتبع قصص ثانوية مسكوت عنها غالبًا حدثت في تلك الأماكن، بحيث تُصبح الأماكن مدخلًا لفهم التاريخ وتمثله ماديًّا، بحكم أنها شاهد العيان الوحيد على وقائعه، وعليه فإن تجربة الكتاب ذاتية تمامًا، والكتاب يقدم بهذا دعوة مفتوحة للقارئ لكي يبدأ في نسج علاقته الخاصة بالأماكن، علاقة قائمة على التفاعل والتواصل، وليس على مجرد التلقي أو سرد الحكايات والبيانات المكررة بالطريقة التي تقدمها منصة «ويكيبيديا» مثلًا.

هناك كتب كثيرة نقلت حكايات عن مدينة القاهرة، ما الذي كتبته هنا وتعتقد أنه سُكت عنه من قبل؟

أظن أنني اهتممت بالأساس بما هو على هامش التاريخ الرسمي، سواء على مستوى الأماكن أو الشخصيات، فلم أعبأ كثيرًا بالوقائع الكبرى أو بالشخصيات الشهيرة، وحتى الحكايات الشهيرة المكرورة للأماكن تجاهلت ذكرها، وأشعر دومًا أنه من الإجحاف البالغ أن نُقرن كل مكان بحكاية أو حكايتين، ونظل نكررهما إلى ما لا نهاية، أمر كهذا يُفقد الأماكن زخمها وحيويتها؛ كشاهد عيان على التاريخ عبر عمرها المديد.

على الرغم من خلفيتك العلمية كطبيب صيدلي، فقد أتيت إلى منطقة الحكي التاريخي، كيف حدث ذلك؟

يمكننا ببعض التحايل أن نجد علاقات بين أي شيئين في الدنيا، ولكن الأمر ببساطة هو أنني هاوٍ قديم لقراءة التاريخ وللقصة القصيرة في آن، ربما كانت المساعدة الوحيدة التي قدمتها لي دراستي العملية هي أنها دفعتني دفعًا لقراءة الأدب والتاريخ للشعور ببعض الاتزان والسكينة!

ربما ما أفادني حقًّا هو دراسة الأنثروبولوجي، من جديد أكرر أن «خريدة القاهرة» ليس بحثًا أنثروبولوجيًّا أو تاريخيًّا، ولكنني أزعم أنني كنت أنظر دومًا -بدون وعي أو سبق إصرار– أثناء القراءة والإعداد للكتاب عبر منظار الأنثروبولوجي محاولًا الوصول إلى روح الأماكن.

أي مِن المؤرخين تأثرت به في نقل حكايات كتابك؟

المقريزي بالطبع، في «خريدة القاهرة» حاولت أن أستلهم روح الخطط، أن أنظر إلى التاريخ عبر الأماكن، سحرتني فكرة تتبع حياة الأماكن منذ البدايات وحتى المَآلات.

وقد صاحبني أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي عبر كتاباته الماتعة، النجوم الزاهرة والمنهل الصافي على وجه التحديد، ثم عبد الرحمن الجبرتي وكتاباته التي هي مزيج من التاريخ والاجتماع معًا.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أنني اعتمدت كثيرًا على كتب التراجم التي تمنحك إشارات بالغة الدقة لمشاهير التاريخ وشخصياته الثانوية أيضًا، استفدت كثيرًا من إشارات قد تبدو عديمة القيمة كالصفات الشكلية أو الأمراض التي عانى منها شخص بعينه أو حياته الخاصة، لا أبالغ حين أقول إنني كنت أتلصص عبر كتب التراجم على حيوات الأشخاص الذين وردت أخبارهم عرضًا في كتب التاريخ، بالنسبة لي تفاصيل كهذه تعطي إضاءات هائلة على الأشخاص وعلى تفاعلهم مع الأماكن، وتكسر هيمنة التاريخ الرسمي بالنسبة لي، خاصة أن الأماكن كثيرًا ما تراوغنا، فيتماهى المكان مع منشئه ويعيد إنتاج تاريخه.

 يمكننا أن نضرب مثالًا هنا بمدرسة السلطان حسن، أعظم الآثار الإسلامية قاطبة، يحيلك مكان كهذا على الفور لأن تضع حسنًا في مرتبة أسطورية، لم يسبقه إليها أحد ممن حكموا مصر، وأزعم أن أحدًا ممن أرخوا للسلطان الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، لم يستطع الإفلات أبدًا من هيمنة مدرسته، في حين أنك لو حاولت أن تتخيل للحظة ما الذي ستكتبه عن حسن، إذا لم يكن قد بنى مدرسته تلك، فلن تجد اختلافًا كبيرًا عن إخوته من الحكام الضعاف الذين تولوا حكم مصر والشام بعد وفاة الناصر محمد بن قلاوون، وسيطر عليهم أمراؤهم الكبار.

ومن المهم هنا أن أشير إلى أنني استعنت بتجربة (QRCODE)، للتغلب على مشكلة الإشارة للمراجع، باعتبار أن الكتاب ليس كتابًا تاريخيًّا بالمعنى المتعارف عليه أكاديميًّا، فجاءت الاستعانة بتقنية (QRCODE)، التي تعني الإشارة بشكل عام إلى مصادر كل حكاية في نهاية الكتاب.

كيف ترى القاهرة بعد كل ما مرَّ عليها من أحداث؟

القاهرة كباقي المدن التي خلقها الله لا تكف عن التغيُّر والتبدل دومًا، المشكلة بالنسبة لي ليست في إثبات تغيُّر القاهرة بعد كل ما مرَّ عليها من أحداث، ولكني معنيٌّ بإدراك هذا التغيُّر، وكيف أسهمت تغيُّرات كتلك عبر التاريخ؛ لتجعلنا على الهيئة التي صرنا إليها اليوم.

كثيرًا ما يلح عليَّ ذلك المشهد الشهير من فيلم «ماتريكس»، عندما يسير كيانو ريفز بهدوء، وقد تجمدت المدينة من حوله بعد أن عرف أن ما يراه هو محض صورة خيالية لا أكثر، وبدوري كثيرًا ما أعتقد أنه لا يمكن التعويل كثيرًا على قاهرة اليوم بصورتها الحالية، ولا يمكن لأحد بحال أن يفهم القاهرة وأهلها دون الرجوع للحكايات التي أُسست ونمت عليها المدينة.

أي الأماكن تعتبرها دُرة التاج القاهري؟

 بالنسبة لي، السحر في القاهرة لا يتجلى في العمارة، بل فيما تكتنزه، لا يمكن أن نضع أيدينا على مكان بعينه ليصبح دُرة التاج القاهري، تصور كهذا يعارض فكرة الكتاب الذي يحتفي بالأماكن الهامشية، وأحيانًا بأماكن بادت ولم يعد لها وجود أصلًا اليوم، ففي «خريدة القاهرة» لا أحتكم لعلم الآثار ولا للعمارة، إنما للحكايات التي تُشكل في مجموعها روح القاهرة ودرتها الكامنة.

صدر لك كتاب سابق بعنوان «حدوتة مصرية»، فما حكايته؟

في أوائل الألفية كنت أكتب مقالًا أسبوعيًّا في موقع شبابي ذائع الصيت حينها هو موقع «بص وطل»، كنت أكتب ما ظننت حينها أنه «المعلوم من التاريخ بالضرورة»؛ سالكًا في هذا طريقة عبد الرحمن الرافعي ومدرسة التاريخ القومي، وقد جُمعت بعض هذه المقالات في كتاب «حدوتة مصرية»، عن الفترة بين الحملة الفرنسية ونهاية مشروع محمد علي باشا.

هل يعتبر كتاب «خريدة القاهرة» بداية مشروع مُخطط يتناول الأماكن في مصر من منظور حكيك للتاريخ؟

في الحقيقة ليس لديَّ مشروع كامل لكتابة تاريخ القاهرة عبر الحكايات، وغاية الأمر أن الحكايات تساعدني على الهرب من القبح الذي بات يسربل القاهرة كما نعرفها اليوم، لا يعني هذا بالطبع استدعاء الفكرة السلفية الساذجة عن كون الماضي أكثر جمالًا وصفاءً، وفي ظني أن الحكي يساعدني على رؤية الماضي بشكل أوضح، وعلى فهم الحاضر أيضًا.