اتجهت أنظار الدولة المصرية في القرن التاسع عشر خلال عهد الأسرة العلوية إلى أفريقيا، وبوجه خاص إلى منطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي، وذلك بعد إهمال طويل. تحولت الطبيعة الاستعمارية الأوروبية في العالم وفي أفريقيا في تلك الأثناء من المرحلة التجارية،التي كان الأوروبيون يكتفون خلالها بإقامة مراكز تجارية على شواطئ البلدان، إلى المرحلة الصناعية التي كانت تتطلب الاستيلاء على الموارد الطبيعية والمواد الخام اللازمة للصناعة، على نحو دفع القوى الأوروبية للمزيد من التوغل في عمق القارة الأفريقية[1].

خلال هذا السباق الاستعماري المهدِّد للمصالح المصرية، أرسل محمد علي باشا وأبناؤه الذين حكموا بعده العديد من الحملات الاستكشافية إلى أعالي النيل والساحل الأفريقي على البحر الأحمر. تلت تلك الحملات الاستكشافية حملات توسعية لضم أراضٍ جديدة، على نحو كادت أن تتحول معه حدود المصالح التاريخية الحيوية لمصر الممتدة في أفريقيا وصولًا إلى منابع النيل، إلى حدود سياسية للدولة المصرية لولا اصطدام المصريين في ذلك الوقت بدولة الحبشة، التي هدد إمبراطورها تيودور الثاني خلال صراعه مع المصريين بتحويل مجرى النيل، ودارت بين جيش الإمبراطور وجيش الخديوي إسماعيل معارك عدة.

حماية النفوذ المصري أم إلغاء الرق؟

توفرت لدى والي مصر محمد علي باشا العديد من الأسباب لتوسيع حدود ولايته السياسية جنوبًا والتقدم نحو الأراضي الأفريقية، من أهمها رغبة الأخير في تجنيد السودانيين في الجيش المصري، ورغبته في اكتشاف مناجم الذهب والمعادن، والقبض على فلول المماليك الهاربين من مصر، وتكوين احتكارات اقتصادية وتجارية على مناطق جغرافية أوسع على النحو الذي سار عليه في مصر[2].

لا تخفى دواعي الاهتمام المصري بمنطقة القرن الأفريقي ومنطقة حوض النيل بوجه خاص في هذا السياق، وذلك بسبب المصالح الحيوية المصرية المرتبطة بمنابع النيل، وأمن وسلامة الملاحة البحرية في مضيق باب المندب الذي يتحكم في مرور التجارة البحرية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، والمخاوف المشروعة للإدارة المصرية خلال القرن التاسع عشر من السباق الاستعماري الأوروبي الجاري على أراضي القارة.

في إطار حركة إلغاء الرق، والمزاعم الأوروبية الاستعمارية للتدخل العسكري لوقف تجارة الرقيق في أفريقيا، استفاد الخديوي إسماعيل من تلك المسألة لتثبيت سيادة دولته على أقاليمها الممتدة جنوبًا في أفريقيا على سواحل البحر الأحمر وحوض النيل، بحجة القضاء على تجارة الرقيق.

بجانب سيطرة إسماعيل على موانئ مصوع وسواكن على الساحل السوداني والإريتري في هذا السياق، سعى إسماعيل للحصول أيضًا على ميناء زيلع على الساحل الصومالي من الباب العالي، مقابل دفع 15.000 جنيه سنويًّا إلى الأستانة، وكان الاستيلاء على زيلع أمرًا في غاية الأهمية لإسماعيل، لأنه يضع كل الساحل الأفريقي للبحر الأحمر تحت السيادة المصرية[3].

في إطار تلك السياسة التوسعية سعى الخديوي كذلك للسيطرة على إقليم بوجوس التابع للحبشة الذي تحول إلى قاعدة للاعتداء والسلب والنهب على المناطق التابعة للسيادة المصرية حوله.

أثار التوسع المصري في ذلك الحين مخاوف حكام الحبشة، وتدهورت العلاقات بين البلدين ، خصوصًا بعد حدث الاستيلاء على إقليم بوجوس، الذي اعتبرته الحبشة اعتداءً على أملاكها.

الحملة العسكرية المصرية الأولى على الحبشة

  أدولف سورن أرندروب
أدولف سورن أرندروب

لتعزيز حماية المناطق الواقعة تحت سيطرته من هجمات الأحباش أرسل الخديوي إسماعيل حملة عسكرية إلى محافظة مصوع المصرية على الساحل الإريتري، تحت قيادة الدنماركي أدولف سورن أرندروب المعروف بـ «أرندروب بك»، وكان الأخير ملازمًا في المدفعية الدنماركية جاء إلى مصر، وتعرَّف به ستون باشا رئيس أركان الجيش المصري أمريكي الأصل، الذي أعجب بأرندروب، وعينه في الجيش المصري في وظيفة نائب أميرالاي، ورُقِّي لاحقًا إلى رتبة أميرالاي[4].

عُهد إلى أرندروب بك بقيادة الحملة التي أُعدِّت للذهاب جنوبًا، وانضم إليه فيها الكونت زيشي النمساوي وأراكيل نوبار، محافظ مصوَّع ابن أخي نوبار باشا رئيس نظار مصر (رئيس الوزراء)، وكانت تتألف من ٣٢٠٠ مقاتل، معهم بطاريتان من المدافع.

في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1875، أرسل أرندروب رسالة إلى الإمبراطور يوحنا الرابع، يطلب فيها من الأخير أن يجعل من نهر الجاش حدًّا فاصلًا بين الحدود المصرية والحبشية. لكي لا يختلط الأمر على يوحنا، وضح أرندروب للأخير أن غرضه هو رسم الحدود بين الدولتين فقط، لا التعدي والامتلاك، ولكن كان رد يوحنا عدائيًّا للغاية، حيث قام بسجن الرسولين. على إثر ذلك، زحفت الحملة إلى منطقة المحاسين في جنوب سنهيت.

حشد يوحنا جيشًا من حوالي 30 ألف مقاتل لمواجهة حملة أرندروب، والتقى الطرفان في منطقة «جونديت» في 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1875، وانتهت المعركة بمقتل أرندروب بك وأراكيل بك نوبار محافظ مصوع ومعظم أفراد الحملة المصرية.

الحملة المصرية الثانية

منزنجر باشا
منزنجر باشا

تولى منزنجر باشا الحملة العسكرية المصرية الثانية علي الحبشة، والأخير هو سويسري الأصل كان يعمل قنصلًا لدى فرنسا في محافظة مصوع، حيث تحرك على رأس قوة قليلة العدد من الجنود بصحبة زعيم محلي على خلاف مع الإمبراطور يوحنا يدعى الرأس «بورو».

ترك منزنجر معظم جنوده في منطقة «تاجورة»، واتجه إلى رأس «جيلاجيفو» الذي يبعد عن تاجورة غربًا بخمسة عشر ميلًا، في طريقه إلى بحيرة «أوسا» الواقعة في الجنوب الشرقي من الحبشة، التي وصل إليها في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1875. في الليلة التالية، هجم الأحباش في منتصف الليل على خيمة منزنجر، وقتلوا منزنجر باشا وزوجته ومعظم رجاله.

الحملة المصرية الثالثة

ردًّا على الإهانة البالغة التي لحقت بالقوات الخديوية، جهز الخديوي إسماعيل حملة عسكرية ثالثة مكونة من حوالي 15.000 ألف مقاتل، وتحركت الحملة إلى السويس تحت قيادة السردار راتب باشا للركوب على متن السفينة الحربية المصرية «الدقهلية»، ووصلت الحملة إلى ميناء مصوع في 14 ديسمبر/كانون الأول.

 يقول المؤرخ إلياس الأيوبي في كتابه «تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا من سنة ١٨٦٣م إلى ١٨٧٩م» إنه لكي تتكون عند القارئ فكرة صحيحة عن صعوبات تلك الحملة، يكفي العلم أن الكلام على ظهر السفينة «الدقهلية» كان يدور بالعربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والتركية والإيطالية والنرويجية وغيرها، كأن تلك السفينة برج بابل ثانٍ، وذلك بسبب اختلاف جنسيات الضباط المكونة منهم هيئة القيادة، وجنسيات تابعيهم وخادميهم[5].

بعد وصول الحملة، زحفت القوات المصرية إلى بلدة «قورع»، وأخذت في إقامة الاستحكامات العسكرية المنيعة، اندلعت هناك معركة هائلة يوم 7 مارس/آذار 1876 انتهت بهزيمة الجيش المصري، وأُسر ما يقرب من 250 فردًا من أفراد الحملة.

سعى رئيس القلم التركي بديوان الجهادية محمد رفعت بك الذي كان في عداد أولئك الأسرى آنذاك، في عقد الصلح مع الملك يوحنا، على أن ينسحب الجنود المصريون من الحبشة، ويعيد الإمبراطور يوحنا الأسرى المصريين إلى بلادهم، ويفتح طريق التجارة بين مصوع والحبشة، وبنهاية المطاف نجحت تلك المساعي وعُقد الصلح.

كان هناك العديد من العوامل في هذا السياق أدت إلى فشل الحملات المصرية إل الحبشة، من أبرزها غياب الخرائط الجغرافية الدقيقة والمسح الطوبوغرافي للأراضي الحبشية وعرة الطرق والمسالك، بجانب ضعف هيئة الأركان العسكرية المكونة بشكل كبير من ضباط أمريكيين من القوات الكونفدرالية المهزومة في الحرب الأهلية الأمريكية.

ألقت تلك الحملات العسكرية بظلال كثيفة على العلاقات المصرية الإثيوبية مستمرة إلى يومنا هذا، وغرست بذور خلاف دائم تجلَّى فيما بعد على وجه خاص في قضية حصة مصر في مياه نهر النيل التي كفلتها لها الاتفاقيات الدولية التاريخية، وترفضها إثيوبيا حتى اليوم بحجة أنها وُقعت في عهد الاستعمار الإيطالي.


المراجع
  1. محمود حلمي مصطفى، دور الضباط الأمريكيين في الحملة المصرية الحبشية (1875 – 1876) وخروجهم من الجيش المصري، ورقة منشورة في الندوة العلمية الأولى – التاريخ العسكري والدور الحربي لجنوب مصر عبر العصور، جامعة أسيوط، أبريل، 1996.
  2. عبد العيم خلاف، كشوف مصر الجغرافية في عهد إسماعيل، الهيئة المصرية العامة لكتاب، 1999.
  3.  محمود حلمي مصطفى، دور الضباط الأمريكيين في الحملة المصرية الحبشية، مصدر سابق.
  4. عبد الله حسين، السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الأول)، مؤسسة هنداوي.
  5. إلياس الأيوبي، تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا من سنة ١٨٦٣م إلى ١٨٧٩م، مؤسسة هنداوي.