في «نوفل لوشاتو» بشمال فرنسا، كان الخميني محط أنظار العالم، ولم يكن يُنظر إليه حينها كإسلامي أصولي يشكل خطرًا على القيم الغربية، ولكن كـ«مهاتما غاندي» آخر، عجوز يحاول أن يزيح ديكتاتورًا راسخًا عن عرشه الطاووسي من خلال «شرائط كاسيت» أقامت الدنيا وأقعدتها في إيران التي تبعد أكثر من 5000 كم عن فرنسا.

كان الخميني قبل أن يكون شخصًا ذا سلطة في إيران يؤكد أمرين سيلتزم بهما إذا نجحت الثورة، أولهما قطع تصدير النفط إلى الكيان الصهيوني الإسرائيلي المتآمر على الإسلام، وهو الأمر البديهي، أما الذي أتى بجديد واسترعى الانتباه آنذاك أن الرجل قال إن إيران ستقطع تصدير النفط إلى جنوب أفريقيا بسبب اضطهاد «الإخوة السود» وعدم شرعية ذلك النظام كالكيان الصهيوني.

كانت إيران أكبر مورد نفطي لجنوب أفريقيا، فقد كان نظام الفصل العنصري يستورد 90% من النفط من إيران، ورغم عقوبات الأمم المتحدة وضغطها على نظام الآبارتايد باستمرار، لم يستطع الشاه أن يكون مشاركًا في تلك العقوبات ضد الدجاجة التي تبيض له ذهبًا، هكذا بدا أن الخميني شخصًا ذا آراء تقدمية، ولم يكن يُتهم يومها بالنفاق مثلما اعتادت وسائل الإعلام الغربية أن تصفه في ما بعد حين يتحدث عن قضايا تتقاطع مع أجندات حقوق الإنسان والأقليات.

وبنجاح الثورة، تسارعت الأحداث لتصنع منه الرجل الذي يُمارس السياسة بـ«صوابية» أو «نفاق» كما دأب الإعلام الأمريكي على تغطية تحركاته.

حُرمة النساء والسود

21 أكتوبر 1979م، ربما يكون أحد الأيام التي تنطلق من خلالها مسارات تاريخية ما زالت تشكل اللحظة الراهنة، ففي ذلك اليوم، قرر الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» استضافة الشاه «محمد رضا بهلوي» للعلاج في الولايات المتحدة.

في ذلك اليوم، قررت مجموعة من الطلاب الثوريين المُتحمسين اقتحام مقر السفارة الأمريكية والاعتصام بها اعتراضًا على قرار كارتر، وهي الخطوة التي سرعان ما طورتها حمى الثورة إلى احتجاز للعاملين بالسفارة استمر لمدة 444 يومًا جعلت العالم على فوهة بركان، كانت شوارع طهران تدوي فيها بهتاف «مرگ بر آمريكا\ الموت لأمريكا».

حين علم الرجل الأكبر في إيران يومها «روح الله الخميني» بتلك الحادثة، رفضها، وأمر مستشاره «إبراهيم يزدي» بالتوجه إلى مقر السفارة وإثناء الشباب عما يعتزمون فعله، وبمجرد أن قطع «يزدي» مسافة الطريق ووصل إلى هناك، علم من خلال الراديو أن الخميني يبارك حركة الشباب، وبدا مدهوشًا ولا يعلم لماذا جاء من الأساس.

كان الخميني قد قرر الانضمام لحركة الشباب واستغلالها وإدارتها بشخصه وبكاريزمته الإعلامية، وقرر أن يلعب بأجندة الصوابية السياسية ليُقدم صورة أخرى عن تلك الحادثة التي بدأت توصم الثورة عالميًا بالإرهاب، وخلق صورة تشرعن حقوق الشعب الإيراني في احتجاز هؤلاء «الجواسيس».

حين اقتحم الطلاب السفارة وجدوا الكثير من الأوراق التي مزقها الموظفون بالسفارة، وقاموا بمهمة مستحيلة في تجميعها وتكوينها من أول وجديد لتظهر كوثائق تُدين السفارة الأمريكية في طهران وأنها دومًا ما عملت ضد الشعب الإيراني.

نجحت تلك المهمة المستحيلة، وصنع الطلاب من نثار الورق وثائق تدين المُحتجزين بأنهم كانوا جواسيس، وقال الخُميني إنه سيسعى إلى محاكمتهم أمام محاكم إسلامية كما يُحاكم الجاسوس في الإسلام.

70 أمريكيًا كان عدد الرهائن وكان الخميني والطلاب يطالبون بتسليم الشاه للشعب الإيراني، وبمحاكمة من يُثبت تجسسه من هؤلاء الرهائن، الذين كان بينهم سود ونساء، أمكن للخميني أن يستثمرهم في تحريك المشهد قليلًا.

قرر الخُميني أن يُلقي حجرًا في الماء الراكدة، وفي صباح الثلاثاء 20 نوفمبر، بعد أسبوعين من بدء الأزمة، أطلق سراح 13 رهينة؛ 5 من النساء، و8 من السود، ولكنه أبقى امرأتين وشخصًا أسود ضمن الرهائن للشك في جاسوسيتهم.

قال الخميني إن الإسلام يحترم المرأة ويقدرها كثيرًا على عكس ما يُروج الغرب، كما أنه رأى في السود إخوة مضطهدين من الشيطان الأبيض الأمريكي، وأن مجيئهم إلى إيران كان خطأً وعلى غير إرادتهم، فلطالما عاملهم السيد الأبيض كعبيد.

حبذ الخميني مخاطبة الإعلام الغربي على مدار الأزمة من خلال صوت أنثوي، فقد كان للمرأة دور فاعل بالفعل في الثورة الإيرانية، بل كانت واجهة الطلاب وحركتهم في احتجاز الرهائن هي فتاة ذات 19 عامًا، ستصبح أول امرأة تحوز منصب نائب رئيس الجمهورية في تاريخ إيران في ما بعد، هي «معصومة ابتكار».

في الـ19 من عمرها، كانت الآنسة «ابتكار» حديث العالم، فتاة إيرانية ذات وجه جميل القسمات، متجهم طول الوقت، تتحدث إلى العالم بلكنة سكان الساحل الشرقي الأمريكي، حيث قضت طفولتها في فيلادلفيا مع أسرتها، حين كان أبوها يُكمل دراساته في أمريكا، وحين عادت إلى إيران، قررت أن تتسلق سور السفارة مع الطلاب، ولتمثل واحدًا من أكبر مخاوف الرهائن طيلة فترة احتجازهم.

كانت الآنسة «ابتكار» متشبعة بالفكر الثوري الراديكالي ولكن على طريقتها، فلطالما دأبت على أن تُكيل اللكمات إلى نفاق الإعلام الغربي والأمريكي وتُذكرهم بما فعلوه في إيران وشعبها في عهد الشاه، وتستنكر لماذا يُلام الطلاب على احتجازهم جواسيس الإمبريالية الأمريكية، لذلك أحبها الخُميني وبارك خطواتها، وكرهها الرهائن أيما كره.

كانت فظيعة وفظة، كانت أكثر من نكرة، وقد عاملتنا كالقمامة بعد أن تعلمت في بلدنا.

هكذا وصفها باري روزين أحد الرهائن، وفي المسلسل الوثائقي «رهائن» الذي أنتجته شبكة «إتش بي أو» عن أحداث تلك الفترة الساخنة، لم يتورع أحد الرهائن الآخرين هو مايكل ميترينكو عن وصفها بكل صراحة في أحد حواراته بأنها «عاهرة».

على الرغم من كل ذلك، كانت «معصومة» هي الوجه الجميل الذي يؤكد دور المرأة في الثورة، الذي استخدمه الخُميني لطمأنة أسر الرهائن في الولايات المتحدة عن أخبارهم التي كانت تُعلنها أولًا بأول، وكان واحدًا من تلك النشرات التي انتظرها أهالي الرهائن دومًا هو احتفالات الكريسماس.

«كريسماس» في أرض الأئمة

في اليوم الـ52 من الاحتجاز، 25 ديسمبر/كانون الأول 1979م، أذاع التلفزيون الإيراني احتفال الكريسماس للرهائن في السفارة، «فديننا وثورتنا تحترم شعائر كل الأديان» كان هذا كلام الخميني كما ادعى.

جاء القساوسة ويليام كوفين وويليام هوارد وتوماس جومبلتون من الولايات المتحدة على إثر تلك الدعوة وأحسنت الحكومة الإيرانية استقبالهم، فضلًا عن رئيس أساقفة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالجزائر ليون إتيان دوفال.

كان دورهم الرئيس هو إقامة شعائر الاحتفال بالكريسماس، بينما ستنقله إيران على شاشاتها وتبثه للعالم لطمأنة الأسر على ذويهم المُحتجزين، وأنه على الرغم من اتهامهم بالجاسوسية، فإن إيران تُحسن استقبالهم، وحين عاد القساوسة إلى الوطن، أكدوا أن الرهائن في صحة جيدة، ولكنهم يعانون بعض الارتباك والعصبية وهي نتيجة طبيعية لحالة الأسر.

في ذلك العرض الذي أخرجه الخُميني ببراعة، كان حريصًا على التركيز على مشاهد الصلاة، وتصوير مائدة الطعام التي تحوي كل صنوف الطعام كما لو أنك في نيويورك، وبالطبع، كان يتوسطها «ديك حبشي» كما هي عادة الاحتفال بالكريسماس.

بين كريسماس وآخر، كانت عملية «مخلب العقاب» الفاشلة، التي حاولت الإدارة الأمريكية تنفيذها من أجل تحرير الرهائن عسكريًا، لكن «الله أرسل معجزته لتنصرنا، عاصفة رملية، أودت بحياة الغاصبين» بحسب ما قال الخميني.

بعد فشل العملية في أبريل 1980م، أمر الخميني بنقل الرهائن إلى سجن في أقاصي صحراء إيران.

ومن أبريل 1980م إلى ديسمبر من نفس العام، اختفت الأفلام المصورة للرهائن وأخبارهم، وكانت تلك الـ8 أشهر، هي أطول فترة لم ترَ فيها الأسر الأمريكية ذويها المحتجزين، لكن الخُميني مرة أخرى استغل الكريسماس لإظهار الرهائن لذويهم، الذين صلوا جميعًا في مشهد سينمائي مؤثر مع محتجزيهم متمنين أن تنتهي الأزمة، وكانت تلك المشاهد المؤثرة، تستشعر بالفعل أن الأزمة قد اقتربت من نهايتها حتى انتهت تمامًا في الدقائق الأولى من حكم رونالد ريغان يوم 20 يناير 1981.

حصلت إيران على ما تُريد وما تفاوضت عليه إلا شيئًا واحدًا هو رأس «محمد رضا بهلوي» الذي كان قد توفي قبلها بعام، ودفنه صديقه «أنور السادات» في بلاده، بعدما أقام له جنازة عسكرية لم يحضرها وفد أمريكي رسمي.

إرث الصوابية السياسية

انتهت أزمة الرهائن، ولم يجن الخُميني منها سوى أن صورته أصبحت أكثر سوءًا في الإعلام الغربي والأمريكي، ولكنه كان يُقابل تلك الاتهامات بالنفاق بأفعال تفضح نفاق «الإنسان الأبيض» والإمبريالية الأمريكية التي سماها «الشيطان الأكبر».

في عام 1984م في اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري، أصدرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية طابع بريد يحمل صورة «مالكوم إكس» رمز حركة السود والنضال في أمريكا، قبل أن تصدر الولايات المتحدة طابعًا مماثلًا لإكس بعد 15 عامًا من هذا التاريخ، كانت تلك الخطوة من إيران تهدف إلى إحراج المجتمع الأمريكي وحكومته التي كانت قد اختارت القس «مارتن لوثر كينج» كرمز لنضال السود في أمريكا، بحراكه «السلمي» وظل مالكوم إكس موضع شك كسياسي راديكالي مثل «فريد هامبتون» والفهود السود، لذلك اعتزت إيران بإكس، بوصفه مناضلًا ضد الشيطان الأكبر «الأبيض» وفي نفس الوقت ناشطًا مسلمًا.

وفي عام 1979م كان الخُميني قد أوفى بوعده بالفعل الذي قطعه على نفسه، وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع جنوب أفريقيا، ولكنه لم يعش لليوم الذي زار فيه «نيلسون مانديلا» كأول رئيس جنوب إفريقي إيران، بعد سقوط نظام الفصل العنصري، وحصل على الدكتوراه الفخرية من كلية الحقوق بطهران.

في خلال جلسته تحدث «مانديلا» الذي كان نجمًا عالميًا آنذاك عن الإمام الخميني ووصفه بـ«قائده» وأسهب في الحديث عن مبادئه الداعية إلى التضامن والمحبة ونصرة المظلومين، وأنه من أعظم رجال التاريخ، وقد كان هذا هو الإرث الذي أراده الخميني لنفسه.