بينما يعيش السودان في نشوة الإطاحة بالبشير، كثرت بطبيعة الحال سكاكين ذبحه حال وقوعه وزوال حكمه، فجرى الحديث عن فساده وسوء إدارته واحتكاره للسلطة، إلا أن أبرز ما خرج للتدليل على حالة الشطط التي بلغها الرئيس الأسبق في أواخر أيامه، جاء على لسانه صديقه الوفي، سابقًا، الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، بعدما أعلن أن البشير حاول إقناع جيشه بقتل ثلث الشعب لإخافة الآخرين.

وقال الفريق حميدتي، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع، في لقاء مصور، إن الرئيس المخلوع خلال آخر اجتماع دار بينه وبين قادته العسكريين، أكد لهم: «نحن مالكية، ولنا فتوى تبيح قتل ثلث المواطنين المحتجين ليعيش البقية بعزة»، وأنه أضاف بعدها: «المتشددون من المالكية يفتون بقتل 50 في المائة من المواطنين».

وكعادة أي بلد عربي تغيب عن السودان الأرقام الحكومية الرسمية التي لا يمكننا الاستناد إليها لمعرفة عدد سكان السودان الحالي، فقط تسعفنا بيانات أولية للأمم المتحدة قدَّرت عددهم هذا العام بـ 42.5 مليون نسمة، هدد البشير ثلثهم بالقتل، أي ما يزيد عن 14 مليون مواطن تقريبًا، وربما كان «الثلث» الذي يستحق عناية الرئيس المخلوع ليس الذي تظاهر ضده، وإنما الذي دخل تحت خط الفقر في ظل حكمه، وفقًا لإحصائية رسمية.


استغلال الفتوى

هذه الفتوى ليست بالجديدة على واقعنا العربي، وإنما استعملت خلال السنوات الفائتة كمبرر لسفك الدماء، خاصة في ظل أعوام الغليان التي مرَّت بها المنطقة مؤخرًا عبر ثورات الربيع العربي التي أزاحت عروشًا وهزَّت غيرها، لتخرج هذه الفتوى سيئة السمعة كلما دعت حاجة أحدهم أن يقتل بعضًا من شعبه.

في 2011،انتشر تسجيل صوتي لعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية الشيخ صالح اللحيدان، دعا فيها للجهاد ضد الرئيس السوري بشار الأسد واصفًا دولته بـ «الفاجرة الخبيثة الخطيرة الملحدة»، وطالب السوريين بمباغتة نظامه «ولو هلك من هلك منهم»، مضيفًا: «في مذهب مالك يجوز قتل الثلث ليسعد الثلثان».

وبعدها بعام، أدان الدكتور محمد مهنا، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الاشتباكات التي حدثت بين المتظاهرين وقوات الجيش فيما عُرف وقتها بـ «جمعة النهاية»، بعدما حاول عدد من المتظاهرين محاصرة وزارة الدفاع لإجبار أعضاء المجلس العسكري على الاستقالة، وأسفرت هذه الاشتباكات عن وقوع عشرات الإصابات، و طالب مهنا القوات المسلحة بأن تتصدى لهؤلاء الناس بـ «جيشها وسلاحها ودباباتها، حتى لو أدى ذلك إلى قتل ثلث مصر، لأن الإمام مالك رضي الله عنه يقول يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين».

وفي يناير/كانون الأول 2016،قال الداعية السعودي علي المالكي خلال لقاء تليفزيوني على قناة «روتانا خليجية»: «نحن اليوم في حاجة إلى توحيد الكلمة والصف.. والذي يراه الولي هو الصح»، وأردف: «ورد في كتب بعض أهل العلم، أنه لو رأى الولي أن يقتل ثلث الشعب من أجل أن تسلم البقية لأذن له الشارع الإسلامي»، وكان آخر استجلاب لها هو في الحالة السودانية.

ويقول شيخ الأزهر الأسبق الإمام محمد الخضر حسين في كتابه «موسوعة الأعمال الكاملة» إن بعض أهل العلم من غير المالكية ادَّعوا على مالك أنه اعتمد على المصالح المرسلة ليفتي بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين. ويضيف أن هذه الفتوى القديمة ظهرت في حياة أحد فقهاء الحنفية، وهو الشيخ علاء الدين الجمالي الذي بلغه أن السلطان سليم أمر بقتل جماعة خالفوا أمره في بيع الحرير، فطالبه بالرجوع عن هذا القرار، ولما سأله السلطان: «أما يحل قتل ثلث العالم لنظام الباقي؟» أجاب الشيخ علاء الدين: «نعم، ولكن إذا أدى الحال إلى خلل عظيم»، فعفا السلطان عن الجميع.


المالكية في السودان

يحكي أحمد قارح في رسالته عن القيروان ودورها في نشر المذهب المالكي أنه منذ القرن الثاني الهجري اختارت المغرب مذهب الإمام مالك دون غيره مذهبًا رسميًّا للبلاد، ومنها بدأ ينتشر في جنوب وغرب أفريقيا ومن ضمنهم السودان، الذي شهد وفود تجار وطلاب علم مغاربة كُثر على أرضه بحكم موقعه في طريق الحج إلى مكة، ما أعطى فرصة كبيرة للتواصل مع أهل السودان ونشر مذهبهم المالكي بين صفوفهم.

وانتشر المذهب المالكي من المغرب حتى السودان الغربي، نتيجة مراعاته لتقاليد وأعراف الشعوب، فهو مذهب عملي يعتد بالواقع ويتماشى مع طبيعة الفطرة في بساطتها ووضوحها، وإلى هذا المذهب نُسبت فتوى البشير.

وحول مدى التزام السودان بالتطبيق الحرفي لمذهب مالك في كل شئونه، أكد مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة السوداني، لـ «إضاءات»، أن هذا لم يحدث إلا في قانون الأحوال الشخصية، متبعًا: «لا أعتقد أن هناك تمسكًا بمذهب معين، لأن الإمام المهدي عند تحريره للسودان من الاستعمار وتأسيس أول دولة سودانية عام 1885 ألغى العمل بالمذاهب، والمهدية كسرت شوكة التمسك بالمذاهب، وأصبح الناس في حياتهم العادية لا يصنفون أنفسهم بمذهب محدد».

المفارقة أن كاشف هذا السر والمتحسر على مدى فظاعة البشير في تعامله مع شعبه، كان حتى الأمس القريب أكثر من صديق حميم ودرع واقية له، كما أنه متورط في جرائم إبادة بحق أبناء السودان.

هو الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) (43 عامًا)، الذي يمكن اعتباره الآن الرجل الثاني في المجلس الأمني، والرجل الأقوى عسكريًّا على الرغم من أنه أصغرهم سنًّا ولم ينضم للجيش النظامي أبدًا بعدما توقف عن التعليم منذ أن كان في الـ15 من عمره، وعمل في تجارة الإبل والقماش حتى برز اسمه كقائد لقوات الجنجويد التي كفلت للبشير سحق كل حركات التمرد في إقليم دارفور، لكن بعدما ارتكبت فظائع مروعة خلال عامي 2003 و2004 شملت إحراق قرى والاغتصاب وإعدام مدنيين بحسب منظمات حقوقية دولية، استدعت إدانة كبرى من مجلس الأمن وإحالة ملف دارفور لمحكمة الجنايات الدولية التي تجاهلت حصانته الدبلوماسية وأصدرت قرارها بتوقيف البشير كسابقة دولية تحدث لأول مرة.

وفي مسعى للالتفات حول الإدانة الدولية، أعادت الخرطوم هيكلة الميليشيات المغضوب عليها، وأطلقت عليها اسم «قوات الدعم السريع»، لتكون فرعًا نظاميًّا تحت لواء القوات المسلحة السودانية نظريًّا، إلا أنها بقيت بشكل عام هراوة البشير لقمع أي تمرد محتمل داخل الجيش أو خارجه، والغريب أنها لم تخرج قط لحظة اندلاع المظاهرات ضده.

وقال حميدتي في فيلم وثائقي أعدته الصحفية السودانية نعمة الباقر، إنه تبرأ من أفعال الجنجويد، مؤكدًا أن قواته عملت دائمًا بمعزل عنهم، وأن عمر البشير طلب منه مساعدة النظام في حربه ضد «المتمردين»، وفي مقابل ذلك تلقى وعودًا بالصرف على ميليشياته بسخاء.


الفتوى المكذوبة

يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل» عن القول بـ «قتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها من طريق المصالح»، إن هذه بدعة لا يجوز القول بها، ولا عهد بالشرع بقتل من ليس جانيًا لمصلحة غيره، فمصلحة القتل فاتت، ومصلحة غيره ليست أهم من مصلحته في حقه، فهذه مصلحة غريبة غير ملائمة لتصرف الشرع.

كما يؤكد الشنقيطي في كتابه «المصالح المرسلة» أنه بعد أن درس مذهب مالك زمنًا طويلًا، يستطيع أن يؤكد زيف هذا الادعاء، وأنه لم يروه عنه أيٌّ من أصحابه، ولا يوجد في شيءٍ من كتب مذهبه كما حقَّقه القرافي ومحمد بن الحسن البنَّاني وغيرهما.

من جانبه قال الشيخ مصطفاوي عبد الرحمن المالكي لـ «إضاءات» أن هذه الفتوى المزعومة لن تجدها في أي كتاب من كتب المالكية لا القديمة ولا الحديثة، وإنما نسبها الشافعية إلى مالك بدون سند، وأول من كتبها الجويني رحمه الله.

وأما عن وجود أي رأي فقهي يبرر قتل المتظاهرين ضد الحاكم، أكد الشيخ مصطفاوي أن قتل المتظاهرين حرام وإنْ كان واحدًا، وإن قتلَه قاتله عمدًا ففيه القصاص، ولم يُسمع قط عن أحد أجاز مثل ذلك في أيٍّ من المذاهب الأربعة.

كما أكد مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة السوداني، لـ «إضاءات»، أن هذا الكلام لا يصح أن يصدر في عالم يناضل من أجل احترام حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حق الحياة وحق التعبير وحق اختيار من يمثلك، واعتبر أن هذه الفتوى لا قيمة لها حتى ولو كانت صحيحة لأنها تتعارض مع نصوص قرآنية صريحة تحرم قتل النفس إلا بالحق، والحق يعني العدالة.