حكاية جديدة لتيمة لا تتقادم

هناك أفلام كثيرة تتقادم وتفقد صلتها بالواقع بمرور الزمن، لا أعتقد أن se7en منهم، لأنه في جوهره فيلم لا يسقط بالتقادم، يُمكن ببعض التغيير استعادته في أزمنة تالية، فقط لن يكون الفيلم نفسه.
أندرو كيفين ووكر

في عام 1995 تعاون المُخرج الثلاثيني الشاب «ديفيد فينشر» مع سيناريست مغمور من «بنسلفانيا» يُدعى «أندرو ووكر»، لصُنع ما سيصير أيقونة سينمائية حاضرة في الثقافة الشعبية الأمريكية والعالمية وهو فيلم se7en. الذي يدور حول قاتل مُتسلسل يختار ضحاياه وفق الخطايا السبع المسيحية.

يصف «ووكر» الأفلام التي يكتبها بسينما الانزعاج Cinema of discomfort لأنها لا تقدم لغزًا بوليسيًا أو حبكة مشوقة وحسب، إنما يتحول فيها القاتل من مُجرم إلى فيلسوف يُقدم رؤية مُتكاملة لمُجتمعه قبل أن يستل سكينه ويبدأ القتل.

مشهد من فيلم «se7en»

يولد الانزعاج لكون تلك الرؤية ليست مجرد هلوسة جنونية أو دموية، إنما تحمل شيئًا من المنطق، يتفاقم القلق لا لكونك قد تصير ضحية لقاتل مُخيف، إنما لكون جنونه منطقيًا. المزعج أن منظور القاتل قد يتسرب إليك لترى مُجتمعك بالصورة ذاتها، لذلك كانت نهاية se7en أيقونية عندما أجبر القاتل مُمثل القانون أن يرى العالم بعينيه، أن يهبط لقاع الجنون ذاته ويصير مثله.

يقول القاتل في se7en:

كم نحن دمى سخيفة مريضة / أي مسرح صغير مقزز نرقص عليه / يا لها من متعة، نرقص ونتضاجع / لا نهتم بشيء في العالم / لا نعرف أننا لا شيء / نحن لسنا ما كان يقصده الإله عندما خلقنا.

لا يبدو ذلك المونولوج الشكسبيري توطئة لمُمارسة القتل، إنما هذيان نتشاركه جميعًا، كلنا نشعر أننا دمى لا تتحكم بمصائرها، لا نحيا وفق الخطة الإلهية أو السيناريوهات التي أعدتنا لها الطفولة والصبا، لا نهتم بما يكفي للشرور التي تحدث حولنا. وحتى لو اهتممنا، لا وزن لنا في مُخطط الأشياء الأعظم لنغير شيئًا.

ما صنع أسطورة قاتل se7en أنه لم يكتفِ بترديد ما نُردده جميعًا، إنما قرر أنه لا يستطيع التسامح مع ذلك، وأن حبل الإنقاذ لمُجتمع غارق في لا مُبالاته هو العنف الأخلاقي، أو استدعاء الغضب الإلهي، لذلك يصير القاتل أداة بطش إلهية، تبالغ في دمويتها لإيقاظ الغافلين. لأنه يُبالي بما يكفي لأجلنا.

منذ أيام طرحت نتفليكس the killer الذي يُعد التعاون الثاني بين «ديفيد فينشر» و«أندرو ووكر» في فيلم متكامل بعد ربع قرن من se7en، الذي يُقدم أيضًا قاتلًا يمتلك فلسفة يرى بها ذاته والعالم.

في العملين لا يتلصص القاتل على ضحيته وحسب بحثًا عن ثغرة ينفذ منها، إنما يتلصص على مُجتمع وثقافة كاملة، بحثًا عن الشروط التي أنتجته، وخلقته على ما هو عليه. لذلك لا يحمل القاتل في كلا العملين اسمًا، هو مجهول لأنه يمثل ثقافته كاملة، لأنه يُمكن أن يكون أيًا منا، يصير سؤال المقال كيف تغيرت الثقافة وشروطها التي خلقت قاتل «فينشر & ووكر» في ربع قرن من se7en إلى the killer؟

القتل كمهنة رأسمالية

منهجي عملي بارد، لا أنحاز لأي قضية، لا أمتلك رأيًا، لا تحتاج لإقناعي بقضيتك، تحتاج فقط دفع أجري، لا أخدم رب أو بلد أو علم، كفاءتي منبعها حقيقة بسيطة….أنني حقًا لا أبالي.
the killer

في دراسة عام 2004 بعنوان «الأخلاق والسياسة في فيلم se7en» يتفحص الباحث «ستيفن ميليجان» ظروف كتابة الفيلم، في أواخر الثمانينيات، حيث ازدهر مُصطلح «القاتل المُتسلسل» في الميديا الأمريكية بينما أعلن الرئيس وقتها «رونالد ريجان» ما سماه «الحرب على الجريمة» باعتبارها مُشكلة أخلاقية لأفراد مُنحرفين يهددون مُجتمعًا مُزدهرًا، أفراد يحتاجون حلًا أخلاقيًا روحيًا لا أكثر.

تبعًا للدراسة، كُتب se7en في تلك الظروف كنقد قاس لتلك السردية، لأن القاتل ليس فردًا مُنحرفًا إنما انعكاس ونتاج لمُجتمعه كله، مُجتمع رأسمالي يتجه بشراسة لخلق مزيد من الرغبات وتشجيع الجشع الاقتصادي والاستهلاك وتفكيك الروابط بين أفراده، سيخلق بالتأكيد مخطئين مُشتهين يدافع عنهم مُحامون فاسدون ويحيط المشهد مُتفرجون بُدناء لفرط استهلاك الطعام وهم يشاهدون الفساد ينبت حولهم كعرض تلفزيوني مُسلً دون أن يفعلوا شيئًا لإيقافه، هؤلاء بأنواعهم هم ضحايا بطل se7en بالأساس.

مشهد من فيلم «se7en»

بينما ازدهرت الآيات الإنجيلية في خطابات الرئيس «ريجان» وقتها تعبيرًا عن خلفيته المُحافظة ودعوته ليقظة روحية تُبارك حماية الرب لأمريكا، جاء قاتل من عالم الآيات ذاتها ليُعلن حربه على المُجتمع الأمريكي الرأسمالي ويُدينه وفقًا للخطايا السبع. بالوقت تحول se7en إلى أيقونة ثقافية وتحول القتلة المُتسلسلين بأكملهم إلى مادة خصبة للأعمال التلفزيونية، تحولوا من عرض مهم لمرض في الثقافة الأمريكية إلى جزء من التسلية العامة.

يقول «فلاديمير لينين» ساخرًا:

لو أردنا شنق الرأسمالي، سيبيعنا أولًا الحبل الذي يلتف حول عُنقه.

في إشارة لقُدرة الرأسمالية على تفريغ أي فعل ثوري أو نقدي من معناه وهضمه واستيعابه في سرديتها، وهو ما يظهر بذكاء في فيلم the killer.

مشهد من فيلم «the killer»

البطل هنا تدور حياته أيضًا حول القتل، لكنه ليس فعلًا ثوريًا تلك المرة على المُجتمع اللامبالي الذي خلقته الرأسمالية، إنما مهنة رأسمالية مُربحة، وهي القاتل المأجور، وجوهر الربح فيها ليس أن يُبالي القاتل بالقضايا أو يقوم بتثوير العالم إنما أن يراه كمادة مُحايدة يُمكن أن تفيده دومًا كمصدر للربح. فالجميع قد يكونون عُملاء لديه أو ضحايا لعملائه. لا تهم القضايا التي يحملونها أو الظروف التي تسببت بوضعهم على قوائم قتل.

يُمكن تفسير الفارق بين بطل se7en وkiller بقانون «الأعداد الكبيرة» الاقتصادي الشهير، الذي يقول إن فردًا واحدًا يصعب التنبؤ بأفعاله وتدجينه في إحصائية أما الأعداد الكُبرى فيسهل التنبؤ بسلوكها وتدجينها في مصفوفة.

مشهد من فيلم «the killer»

بينما خلق قاتل se7en أسطورته لكونه رجلًا تصرف بشكل غير متوقع، يمتلك مُبالاة مُخيفة تصل لدرجة التأله الدموي في عالم من قطعان كبيرة العدد لا تبالي، يخلق بطل killer أسطورته العكسية بكونه مُنتميًا بذكاء لعالم الأعداد الكبرى اللامبالية، فيقول:

في عالم قوامه 7.8 مليار نسمة، يولد كل ثانية 1.8 إنسان، يموت كل ثانية 4.2 إنسان، ما أقوم به من قتل لا يُغير شيئًا في تلك المصفوفة.

يؤمن قاتل killer مثل قاتل se7en أن الكون بارد لا يُبالي، أن البقاء للأقوى والأصلح، فقط يرى قاتل se7en أن هذا يُخالف الخطة الإلهية ولا بد من التدخل لتغييره. بينما يؤمن قاتل killer أنه لا توجد خطة مسبقة بالأساس للعالم وعلينا تقبل الحرية التي تأتي مع هذا الإدراك.

يمتلك القاتلون رؤية تشاؤمية للعالم، ينفصل بها قاتل se7en عن المجموع ويُدينه، بينما يلتحم بها قاتل killer مع هذا المجموع بلذة مُتقبلة ويكتسب قوته من هذا الالتحام والاختباء في الجموع كإحدى قوى الطبيعة مثل صعقة برق أو سيارة مسرعة تقتل أحدهم لسوء حظه. لا حكم أخلاقيًا على أحداث كتلك في se7en يجتهد القاتل كل مرة لخلق مشهدية مؤثرة لفعل القتل، لأن الجريمة لا بد أن تكون آية بصرية لخطيئة إنجيلية، المشهدية هي كل شيء، لإيقاظ اللامُبالين.

مشهد من فيلم «se7en»

 بينما فعل القتل في the killer لا يُبالي بالمشهدية. إنما يكتسي بطابع الرأسمالية التي تؤمن بالكفاءة وحسب، القتل مهنة يومية مثل غيرها. لا تحتاج لديكور أو زخرفة.

يقول «أندرو ووكر» إنه كتب صفحتين كاملتين يُحاول فيهما تفسير كيف نجح القاتل في نسخ الكروت الذكية لأبواب غرف الفنادق، بينما أخبره «فينشر» أن يبحث ببساطة على الإنترنت عن ناسخة ذكية لتلك الكروت، أخبره «ووكر» ساخرًا أن مثل هذا الاختراع لن يوجد أبدًا وإلا لن يأمن أحد لاستلام كروت الفنادق. ولكن في 11 ثانية وجد «فينشر» في نتائج البحث طابعة للكروت على «أمازون» بسعر 29 دولارًا يُمكن توصيلها شرعيًا لأي مكان بالعالم.

مشهد من فيلم «the killer»

في تلك اللحظة تحول بطل the killer على الورق من قاتل مأجور على شاكلة جيمس بوند وأبطال هوليوود الذين يمتلكون قبوًا سريًا مُجهزًا بالأسلحة المحرمة إلى بطل رأسمالي يٌشبه عصره. كل أدوات القتل يُمكنه شراءها ببساطة لأن القتل نفسه صار فعلًا أكثر سهولة. ما دام يُمكن تفتيته إلى أنشطة مُنفصلة ومُربحة، مثلما عبر «لينين» ساخرًا على قدرة الرأسمالية على تسويق حبل المشنقة ذاته.

بينما يشكو  بطل killer من حداثة المُجتمع التي تجعل كاميرات المراقبة في كل مكان مما يُصعب أداءه لمهامه إلا أنه يمتن في اللحظة نفسها للحداثة التي خلقت شركات مثل «أمازون» و«fed x» لجلب احتياجات مهامه القاتلة بينما يتناول غذاءه من مطعم «ماكدونالدز» الذي يصفه:

هنا حيث يُمكنك شراء 10 جرامات من البروتين بيورو واحد.

مشهد من فيلم «the killer»

لا يُحب البطل «ماكدونالدز» لأنه لذيذ الطعم إنما لكونه يقدم وجبة عملية لا تحتاج ولوج مطعم حميمي وتفاعل مُثقل مع البشر إنما يحتاج كبسة زر أمام آلة باردة لتُسقط لك وجبتك بين يديك عبر فتحة في جدار، يقول «فينشر» إنه انبهر بمطعم «ماكدونالد» في «باريس» الذي يُقدم ربع مليون شطيرة يوميًا عبر فتحة في جدار.

في فيلم killer صار المُجتمع أكثر لا مُبالاة، أكثر انفصالًا، حد أن فعل القتل نفسه لم يعد ثوريًا لإيقاظه، إنما نشاط رأسمالي مثل غيره، يمتلك آليات تجعله سهلًا، ومُربحًا، ومُمتعًا، ما دام جزءًا من دورة رأس المال، ما دام يُمكنه إفادة عشرات الماركات العالمية في أدائه.

القاتل والمدينة

في تُحفة مايكل مان collateral لا يفزع القاتل المأجور من خطورة مهنته أو صعوبتها، إنما من برودة مدينته، يروي وهو ينزف وحيدًا في مقعد بارد أقصوصة عن رجل مات في مترو «لوس أنجلوس» قائلًا:

«في مدينة قوامها ملايين، رجل مات يومًا في مترو الأنفاق هنا، ولمدة ست ساعات لم يلحظه أحد، حتى الجالسون بجواره»

مشهد من فيلم «collateral»

بينما في فيلم لارس فون ترير The House That Jack Built تصرخ الضحية طلبًا للنجدة، بينما يسبقها القاتل المتسلسل للنافذة ويصرخ بصوت أكبر ثم يخبرها ساخرًا أنه في تلك المدينة المزدحمة لا أحد يعبأ، لن يحرك أحدًا ساكنًا لأجل صراخها.

تُجسد المدن المليونية العملاقة المُتفجرة سُكانيًا البيئة المثالية للقتلة المُتسلسلين، على مستوى الدراما والواقع، مُجتمع مُمزق ولاهث ومُلتهٍ، يستضيف قطيع حملان شاردة من البشر لذا يسهل الصيد فيه.

لذلك يدور فيلم se7en في مكان غير معلوم لكنه يُشبه إلى حد كبير «نيويورك» في إشارة لمدينة مليونية حداثية باردة القلب، يُمكن فيها أن يموت شخص نزفًا في زقاق دون أن يبالي به أحد.

مشهد من فيلم «se7en»

بينما ينقسم فيلم killer لستة فصول يدور كل واحد في مدينة مثل باريس وشيكاغو ونيو أورليانز، يؤمن القاتل أن كل مدينة لها إيقاع، طوكيو تهمهم، برلين توقظها أبواق السيارات بينما باريس تصحو بكسل تدريجي.

رغم تنوع إيقاعات المدن لا تختلف أساليب القاتل كثيرًا من مدينة لأخرى، يتحرك القاتل بالنعومة والخفة ذاتها، لأن المدن كلها تحولت إلى صورة من نيويورك. أعداد كبرى تتحرك بلا مبالاة، تطلب طعامها من كوة في جدار، تجلب مشترياتها عبر الإنترنت وشركات توصيل عملاقة. لا حاجة للتواصل الإنساني بكل صوره، في عالم بارد مثل ذاك لا يصير القتل مهنة مُربحة وحسب، إنما شديدة السهولة.

السقوط كخطيئة أخلاقية أو خطأ مهني

في عالم مليء بالذنوب يبدو أنني وجدت ذنبي.
se7en

بعدما نجح في تقديم بورتريه قاتم للمجتمع وشروطه التي أنتجت قاتلًا دمويًا، يؤطر «أندرو ووكر» الذروة في فيلمه se7en عندما نجد أن القاتل يُناقض رسالته الأخلاقية، ويقع أسيرًا لواحدة من الخطايا السبع وهي الحسد، فالقاتل مهما تمرد على مجتمعه هو صنيعته في النهاية ولا يملك مناعة تجاه أمراضه أن تتسرب إليه.

رغم ثورة القاتل على الحلم الأمريكي في صورته الرأسمالية، يحسد الضابط «ميلز» لأنه يجسد صورة الحلم الأمريكي لامتلاكه مهنة مستقرة وزوجة شقراء جميلة حبلى بطفل بريء. بورتريه سعيد من حياة تمناها ولم ينلها، لذلك يسلب الضابط تلك الأسرة في النهاية.

مشهد من فيلم «se7en»

يمتلك the killer ذروة مشابهة، على مدار الفيلم يُخبرنا القاتل بكود العيش أو المانترا خاصته مرارًا قائلًا:

«التزم بالخطة، لا ترتجل، لا تجعل الأمر شخصيًا، لا تقاتل في معركة غير التي دُفع لك من أجلها، لا تتعاطف»

يقدم «ووكر» بطله كقاتل نقطة قوته هي اللامبالاة، الإنتماء المخلص للجموع، والإخلاص الأعمى لقدسية التعاقد الرأسمالي بين النشاط والربح الذي يشيح النظر عن أي سياق أخلاقي يحيط بذلك التعاقد.

يتغير كل شيء عندما يُخطيء بطل killer في إحدى مهامه وتنجو ضحيته من رصاصته، عندها تتخذ جهة تعاقده قرارًا بتصفيته باعتباره شاهدًا على عملية فاشلة وخطرًا محتملًا على المتعاقد.

تبعًا لكوده البراجماتي يُفترض ببطل killer ألا يأخذ الأمر على محمل شخصي، أن يستغل مهاراته في الاختفاء السلس، على أن يظهر في بلد آخر بهوية أخرى ليقوم بمهنته من جديد، لكن يتحول الفيلم إلى رحلة انتقامية عبر القارات يبحث فيها البطل عن رؤسائه وعن القاتلة المأجورة التي أرسلوها في أثره لكنها عذبت صديقته خلال بحثها عنه.

مشهد من فيلم «the killer»

يُكرر البطل «المانترا» خاصته طوال الوقت لكنه يُناقضها في كل أفعاله، فهو يأخذ الأمور على محمل شخصي، يرتجل، يتورط في التعاطف والغضب، يقاتل في معركة لم يُدفع له لأجلها.

يتحول البطل إلى مقلوب الشعار الشهير في فيلم heat حيث يقول المجرم:

لا ترتبط بشيء لا يمكنك الفكاك منه في 30 ثانية

يخلق بطل killer فوضى عارمة لارتباطه بحبيبته التي لا يمكنه الفكاك منها وقت الخطر.

يقول «فينشر» إن بطله يُجسد التناقض بين الأفكار التي نؤمن بها في رؤوسنا وما يجبرنا عليه الوجدان، يكتفي «فينشر» بهذا التناقض ولا يحاول تفسيره، فقد اشترط على الكاتب «ووكر» ألا تتجاوز جمل البطل الحوارية 13 جملة، هذا الرجل يحيا داخل رأسه ولا يهتم بتفسير ذاته لأحد، لكننا نرى طيفًا يفسر حالته في أغاني smiths المتكررة والتي يصفها البطل باعتبارها موسيقى تحافظ على الأفكار بداخل رأسه.

مشهد من فيلم «the killer»

تتكرر أغنية بعينها وهي How Soon Is Now وتقول كلماتها:

أنا الابن أنا الوريث
للخجل الذي يراه الإجرام مُبتذلًا
اطبق فمك ولا تحكم عليّ
أنا إنسان أحتاج للحب
مثل أي إنسان آخر

يستسلم القاتل في se7en ويُسلم نفسه طواعية للشرطة، لأنه أيقن أنه لم يتأله بما يكفي، لأنه ارتكب خطيئة أخلاقية مثل ضحاياه، لذلك يتقبل بنشوة نهايته ويخلق مشهديتها بنفسه مثلما خلق مشهدية ضحاياه.

مشهد من فيلم «se7en»

بينما القاتل في the killer يستسلم لخطيئة من نوع مُختلف، فالخطيئة في المجتمع الرأسمالي لا يشترط أن تكون أخلاقية إنما مهنية. في الرأسمالية أن تحيد عن هدف مهمتك تلك خطيئة، حتى لو كان هدفك مُدانًا أخلاقيًا كجرائم القتل

عندما يُقابل البطل القاتلة المأجورة التي سعت خلفه، تُخبره أنه جعل الأمر شخصيًا ليجلس أمامها، ليُجرب فعل القتل من جديد بعد فشل مهمته السابقة، وليس تجاه ضحية عادية إنما تجاه مُعلم أكثر خبرة في مجاله، ليستعيد ثقته بنفسه بقتل قاتل مأجور يشبهه.

مشهد من فيلم «the killer»

 تؤطر القاتلة أزمة البطل لا بكونها أزمة روحية أو أخلاقية إنما أزمة ثقة بالنفس ورغبة في استعادة الكفاءة، أزمة تنتمي لثقافة العمل الرأسمالية لا أكثر.

بينما تخبرنا نغمات أغنية smiths عن كون البطل لم يصر موظفًا رأسماليًا فعالًا بنسبة 100% في مجاله، لا يزال يمتلك عيوبًا إنسانية مثل الحب والانتقام والعاطفة التي تصنف كمشاعر مبتذلة في طريق الكفاءة التامة، يخبرنا البطل أنه حتى في انتقامه وعاطفته يحاول أن يستعيد مهاراته السابقة، أنه من زاوية ينتقم لحبيبته ومن أخرى يستعيد زخم مهارته.

لا مكان للإيمان في المصفوفة

الإيمان بلاسيبو، دواء وهمي لمعضلة لا شفاء منها، المسار الوحيد لحياتك هو ما حدث لا ما سيحدث.
the killer

في نهاية se7en يؤكد القاتل أن ما فعله سيصنع قاعدة جديدة، سيصير مثالًا يستحق الدراسة والإعجاب وأخيرًا التقليد، يؤمن القاتل أنه رغم سقوطه في الخطيئة مثل ضحاياه فإنه عبد الطريق لآخرين سيأتون بعده ليُطهروا بالدم المجتمع من شروره. لذلك جاءت نهاية se7en أيقونية لأن إعدام القاتل بالرصاص لم يصر استعادة للعدالة والنظام المفقود إنما تحقيقًا لنبوءة القاتل نفسه. حيث قتله رجل القانون بمخالفة القانون ذاته. ليفتح المجال أمام آخرين لفعل الشيء نفسه

مشهد من فيلم «se7en»

بينما يؤمن قاتل se7en أنه جزء من أقلية يقع على عاتقها تطهير المجتمع من آثامه، يؤمن قاتل the killer أنه ينتمي للأعداد الكبرى، للمصفوفة المُزدحمة التي يذوب فيها فعل القتل ليصير مُعاملة مالية بين مفيد ومستفيد. لذلك في مشهد النهاية الختامي لرحلة انتقامه عندما يُقابل العميل الذي أمر بقتله بعدما فشل بمهمته يفاجئ أن العميل لا يتذكر اسمه بالأساس.

يُخبره العميل أنه قام باستئجاره للقتل وعندما فشل في مهمته أخبرته جهة التعاقد أن يدفع مبلغًا ماليًا لمحو آثار المعاملة المالية الخطأ، عبارة باردة تُشبه عبارات الصراف الآلي، يُخبره العميل ببساطة أنه لا يعرف أن الأمر يتطلب قتله أو قتل حبيبته، الأمر بالنسبة له كان ترتيبات مالية لا أكثر لتصحيح صفقة خطأ.

ينزع فينشر عن المشهد أي ذروة حارة أو دموية يفترض أن تتوج رحلة وصفها بالانتقامية، لذلك يتركه القاتل ببساطة دون قتله ويعود إلى حبيبته من جديد بعدما فكك منظومته الإجرامية كاملة، نُدرك أن شيئًا في رحلته لم يغيره، أنه سيعود لامتهان القتل من جديد مع جهة تعاقد جديدة.

يُخبرنا القاتل في النهاية أن الإيمان شعور وهمي، أننا لو تتبعناه في رحلته بحثًا عن انقلاب إيماني يُغير مفاهيمه لن نجد شيئًا، أن مسار حياته لا يُحدده ما يفعله إنما ما يحدث له، وهذا يجعله مفعولًا به بالكامل في مصفوفة عملاقة، وهذا يمنحه حريته ليركز على مهمته والقناصة بيده ولا يلتفت للعالم أو لفعل القتل وهوية ضحيته.

مشهد من فيلم «the killer»

يُخبرنا في النهاية أن العالم ينقسم لقلة غنية تقوم بتوظيف آخرين، وكثرة مثله تقوم بأداء وظائفها، وهو على فرادته التي جعلت حكايته تحتل الشاشة لساعتين، ينتمي للكثرة، تُخطئ لو ظننت أنه جاء لتعليمك شيئًا أو لتحرير مشاعرك بتحريره لذاته أو حتى منحك إيمان مخيف مثل قاتل se7en.

لا ينتمي the killer إلى التيمة الشهيرة التي يُحاول فيها مُجرم هجرة عالم سفلي وُجد فيه، إنما حكاية باردة عن مهنة عادية في نظام رأسمالي تُشبه غيرها، ينسى أحيانًا مُمتهنها موضعه في المنظومة وتؤثر مشاعره على فاعليته ثم لا تلبث أن تستعيد الأمور إيقاعها.

في فيلم se7en يستعير البطل كود تعليماته وتعريف ذاته من الإنجيل أو الكتاب المقدس الذي أرسله الرب لإصلاح العالم، بينما في the killer يستعير البطل تعريفه لذاته حسب وصفه من مسلسل «باباي» الكارتوني الشهير وشعاره:

أنا هو أنا.

يضيف البطل:

أنا هو أنا لست استثنائيًا أنا فقط مُنعزل.
مشهد من فيلم «the killer»

يقدم «أندرو ووكر» و«ديفيد فينشر»، قاتلًا مخيفًا، لا يكمن رعبه في قسوته أو تطرف القضية التي يحملها على عاتقيه إنما في خوائه التام من أي معنى أو قضية، قاتل يشتري أدواته من «أمازون»، ويأكل من مطاعم الوجبات السريعة، ويختار أسماءه المستعارة من مسلسلات السيت كوم الأمريكية الشهيرة، ويروض مشاعره على أنغام موسيقى البوب الشعبية. رجل مُستوعب بالكامل في الثقافة الشعبية الرأسمالية التي ولد فيها وصنعته. يلعب بقوانينها، يفوز ويخسر بها، رجل تبدو قصته استثنائية لكنها عادية وروعها في عاديتها، قصة رجل ينتمي لقانون الأعداد الكبيرة حتى لو كان ما يفعله هو القتل ذاته.

مشهد من فيلم «the killer»

يقدم ووكر وفينشر تنويع جديد حداثي عن se7en فيه يفقد القتل، الفعل الأكثر درامية وزلزلة لحالة المعتاد status quo سطوته وطزاجته وقدرته على إدانة مجتمع أو تثويره ويُهضم بالكامل كفعل رأسمالي شديد العادية مثل كافة المهن، يخلو من المعنى ومن القدرة على التأثير.

لا يحمل the killer ملحمية وتأثير se7en أو fight club المزلزل للثقافة السائدة إنما يسلب العنف زخمه كأداة قادرة أحيانًا على مساءلة المجتمع ومكاشفته ليظهر في جانب منه كجزء من الثقافة السائدة لا أداة لخلخلتها.

مشهد من فيلم «se7en»

ينتهي فيلم se7en بعبارة المحقق سومرست أن العالم ليس مكانًا جميلًا لكنه يستحق القتال لأجله، بينما ينتهي فيلم the killer بعبارة القاتل أن الإيمان بذلك أو بأي فكرة لا يعدو أن يكون وهمًا، العالم مصفوفة عليك أن تتحرر من محاولة تغييرها بقبول مكانك فيها. لأن القتل نفسه أشد صور التغيير تطرفًا صار نشاطًا رأسماليًا مربحًا.

عبر الفيلم يُقدم «ووكر» و«فينشر» تنويع جديد عن سينما الإزعاج التي يُخبرنا فيها قاتل هادئ لا يهزمه الملل عبر عدسة سلاحه ولمعة نصله. كيف بات المجتمع أكثر برودة وقسوة في لا مبالاته من حكاية se7en القديمة.