لا تكاد تخلو مكتبة إسلامية من كتاب يحمل عنوانًا مألوفًا «جامع البيان في تفسير القرآن» من كثرة ترداده على مسامعنا بشكلٍ يومي، وهو العنوان الذي اختُصر لعنوان أكثر ألفة وهو «تفسير الطبري».

يقول الفقيه أحمد الأدنروي، صاحب كتاب «طبقات المفسرين»، متحدثًا عنه: «هو من أجلِّ التفاسير، لم يؤَّل مثله كما ذكره العلماء قاطبة، منهم النووي في تهذيبه، لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية، ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده».

عندما صنّف الإمام السيوطي طبقات المفسرين، وضع الطبري في مقدمة المفسرين على الإطلاق. فما حكاية هذا الكتاب، ولماذا حقّق كل هذا النجاح، ولماذا مات صاحبه ملعونًا مغضوبًا عليه؟

علمٌ يهرب الناس منه

يقول دكتور مساعد مسلم في بحثه «وقفة مع الطبري والتفسير»، إن الصحابة لم يُجمعوا على اتّخاذ موقفٍ مُحدَّد إزاء تفسير القرآن، فبينما كان  الصحابي الجليل عبدالله بن عُمر يتحرّج من تفسير القرآن الكريم، لم يلتزم بذات الموقف صحابي آخر هو عبدالله بن عبّاس الذي كان أكثر تساهلاً وإفراطًا في التفسير مُعتمدًا على استخدام اللغة ودلالاتها لتوضيح النص القرآني.

وبعد انتهاء عصر الصحابة، ظلّت الضبابية تسود عصر التابعين فظهرت «محاولات تفسيرية» قام بها مجاهد بن جبر وسعيد بن جرير، بينما أحجم آخرون مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الخوض في علوم التفسير.

وبشكلٍ عام، لم يشهد عصر التابعين نشاطًا تفسيريًا واضحًا، وإن ظهرت فيه بعض المحاولات الفردية التي أسفرت عن أطروحات فقهية لا يُستهان بها، مثل: تفسير مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ)، وتفسير «الطريق إلى الله» للحارث المحاسبي (165هـ – 254هـ)، كما ظهر تفسير سفيان الثوري المتوفى سنة 161هـ، والذي كان تفسيرًا بالأثر، وبعده تفسير يحيى بن سلام المتوفى سنة 224هـ.

إضافة إلى جهود علماء اللغة في وضع كُتب «معاني القرآن»، والتي سخَّروا فيها مفردات اللغة لفهم القرآن، وإيضاح القوانين التي يُمكن بها فهم القرآن من خلال اللغة وعلومها.

وبنهاية عصر التابعين، بلغ الفقه الإسلامي أوج نُضجه كعلمٍ له مدرسته ومناهجه وأصوله، حتى اعتقد الفقهاء أن وضعوا حُكمًا معتبرًا لكافة قضايا المجتمع، كما تشعّب علم الحديث ونمت روايته، وزاد نشاط العلماء في تحرّي النصوص التي ورثوها عن الرسول والصحابة حتى استقرت دواوين السُنة الكبرى، وبات علم الحديث فرعًا معترفًا به في الدراسة الفقهية.

وحتى هذه اللحظة لم يكن علم التفسير قد نجح في إبراز نفسه كعلمٍ مستقل عن غيره في المنظومة المعرفية الإسلامية، فكان التفسير يُدرَّس ضمن الحديث، لأن الحديث فيه (علم التفسير) اقتصر على ما نُقل عن الرسول والصحابة في تفسير الآيات، وبناءً على ما استقرَّ الرأي عليه خلال هذه الفتة، أن تفسير القرآن لا يجب أن يكون بالرأي، وأن يعتمد بشكلٍ مُطلق على الأثر ويقتصر على ما نُقل عن الرسول، وأما الآيات التي لم يُنقل لنا عنها شيء يُستحسن السكوت عنها!

يقول الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون»: «بعد هذه الفترة (يقصد بداية القرن الثالث الهجري) خطا التفسير خطوة ثالثة انفصل بها عن الحديث، فأصبح علمًا قائمًا بنفسه، وضع التفسير لكل آية من القرآن الكريم، ورتّب لك على حسب ترتب المصحف».

وهو ما يُفسِّر خلو دواوين السًنة الكُبرى (وُضعت خلال القرن الهجري الثالث) من باب للتفسير كالبخاري (المتوفى سنة 256هـ)، ومسلم (المتوفى سنة 261هـ)، والترمذي (المتوفى سنة 275هـ) والنسائي المتوفى سنة 202هـ.

وكان الفضل الأكبر لهذه الخطوة الانفصالية التي أقدم عليها علم التفسير لعالمٍ من طبرستان (تقع جنوب غرب دولة تركمانستان اليوم) يُدعى محمد بن جرير الطبري.

أعلم أهل الأرض

يُعرِّفنا بـ«صاحب التفسير» سعد الأحمد في بحثه «المنهجية النقدية في تفسير الطبري وأثرها على المفسرين»، قائلاً إنه أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد، وُلد في طبرستان سنة 224هـ، بدأ في طلب العلم وهو في الـ16 من عمره.

يصفه دكتور صباح الفتلاوي في بحثه «الطبري مؤرخًا وعالمًا»، بأنه «كان أسمر إلى الأدمة، نحيف الجسم، مديد القامة، فصيحًا، السواد في شعر رأسه ولحيته كثير»، فيما مدحه المُؤرِّخ محمد بن إسحق قائلاً «ما أعلم على أديم الأرض أعلم منه».

سافر ابن جرير إلى الشام ومصر لطلب العلم، وفي النهاية استقرَّ به المقام في بغداد التي استقرَّ فيها، وابتنى لنفسه دارًا رحبة في شرق بغداد، قضى فيها جُل وقته بين العبادة والقراءة والتصنيف، وعاش في بحبوحة من العيش بفضل مال يأتيه من ريع بستانٍ له طبرستان، حتى مات.

يقول دكتور عقيل الشمري في أطروحته «التخصيص اللفظي في تفسير الطبري»، إن الطبري أدرك عصر الدولة العباسية الذهبي، الذي بلغت فيه الحياة العلمية أوجها، بعد ما أصبحت حافلة بالتصنيف والرواية والتأليف، وفيه دُوِّنت أهم أقوال المذاهب الأربعة.

ويضيف الأحمد: كان شافعيًا في أول أمره، ثم أصبح مجتهدًا وأصبح له مُقلِّدون عُرفوا بـ«الجريرية».

في بغداد وضع الطبري تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، المشهور بِاسم «تفسير الطبري»، أودع فيه خلاصة علمه وفهمه وثمرة خبراته الدينية، وهو أول تفسير كامل وصل إلينا للقرآن.

والذي قال عنه دكتور مساعد مسلم: تفسيره هو معجم لجمع الآثار التي تتعلق بموضوعات القرآن الكريم وآياته وسوره، فلا تبحث عن حديثٍ للرسول أو أثر عن صحابي أو قول لتابعي في تفسير نص قرآني إلا وتجده في تفسير الطبري.

يقول بسّام الجمل في بحثه «أهم مصادر تفسير الطبري بين الشفوي والمكتوب»، إن جامع البيان يمثّل نقطة مهمة في تاريخ التفسير القرآني باعتباره أول تفسير كامل مدوّن وصلنا، ومن ثم فهو يُلخّص جهودًا تفسيرية سابقة عليه امتدّت على ما يربو قرنين من الزمان.

ويضيف: يُعدُّ الطبري أول من نظّم علم التفسير بشكلٍ مختلف عن كل مَن سبقوه، في ضوء ما توفّر لديه من مادة تفسيرية غزيرة، وهو اختيار منه أصبح بعده سُنة متّبعة عند غيره من المفسرين.

وكانت مرحلة «ما قبل الطبري» في علوم التفسير قد اقتصرت على مقابلة الكلمات بالكلمات، والنصوص بنظائرها في الأحاديث وما رُوي عن الصحابة، أما الطبري فقد منح علم التفسير نقلة نوعية ومنهجية، وساق النصوص لتفسير القرآن إلى حالة جديدة وهي اعتبار موضوع الآية والنص القرآني في التفسير وليس الاقتصار على منطوقها ومفرداتها، وأحيانًا كان يُدعّم الآية الواحدة بأكثر من 20 حديثًا تُناقش موضوع الآية من كافة الأبعاد.

يقول كلاود جيليوت (Gilliot Claude)، أستاذ الإلهيات في جامعة أنقرة، والمختص في حياة الإمام الطبري، «إننا لا نعلم تاريخًا يقينيًا لوضع الطبري مُؤلَّفه، لكنه لا بد وأن يكون انتهى من وضع تفسيره عام 283هـ بحدٍ أقصى، لأننا نعلم أن أحد تلاميذه أخذ منه التفسير كاملاً عن طريق الإملاء ما بين عامي 283هـ و290ه»ـ.

كما يؤكد جيليوت، أن الإمام الطبري تناول آيات القرآن بوجهة نظر سنية، وحارب بشدة المعتزلة والشيعة والخوارج، وتكثر في كتابه العبارات التي تدلُّ على انحيازاته الفقهية، فمثلاً عند تفسيره للآية 16 من سورة الأعراف «فبما أغويتني…»، يرى الطبرى أن الشيطان يعرف أن الضلالة ليست من نفسه بل من الله، ولكن المعتزلة قالوا إن الإنسان يتمتّع بحرية من ناحية الهداية والضلالة، وهو هنا يرى أن المعتزلة أجهل من الشيطان!

معجم جامع للقرآن الكريم

ونحن في شرح تأويله وبيان ما فيه من معانيه منشئون إن شاء الله ذلك، كتابًا مستوعبًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا
ابن جرير الطبري في مُقدِّمة تفسيره

يحكي محسن على حسين في أطروحته «تأويل النص القرآني وعلاقته بالثقافة الإسلامية»، أن الطبري حدّد في مقدمة تفسيره الخطوط العريضة للمنهج الذي سار عليه في تفسيره، فبيّن أنه سيعتمد على 3 أركان رئيسية، هي: أولاً بيان رسول الله، ويرتبط بكل ما قاله النبي لتوضيح ما في القرآن من الحلال والحرام والأوامر والنواهي وحدود الفرائض وغير ذلك من أحكام القرآن.

ثانيًا: ما لا يعلم تأويه إلا الله، وتشمل الأخبار عن الأحداث التي لا يعلم أحد توقيتها من البشر كقيام الساعة والنفخ في الصور.

ثالثًا وأخيرًا: ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان العربي كإقامة الإعراب ومعرفة المسميات بأسمائها والموصوفات بصفاتها الخاصة.

وعقب فراغ الطبري من الاعتماد على هذه الأركان الثلاثة الرئيسية يبقى هناك ركنٌ رابعٌ اعتمد عليه دون تسميته وهو الاستناد إلى كل أثر صحيح عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمة الثقات، معتبرًا أن أقوالهم في التفسير حجة لا يجوز تجاوزها، ولهذا كان يُكثر من جمع الروايات ملتزمًا فيها بذِكر سلسلة السند.

التزم الطبري بهذا النهج في مؤلِّفه بشكلٍ صارم، فإذا أراد أن يشرح آيةً من القرآن، كان يذكرها ثم يُفسِّر كلماتها مستشهدًا بما جمعه في هذا الشأن من أقوال الصحابة والتابعين، وفي هذه الجزئية تحديدًا لم يلعب الطبري دور الناقل للأخبار دون تمحيص، بل في بعض الأحيان نجد أن الطبري ينحو لتوجيه الأقوال ويرجح بعضها على بعضٍ، وهو الدور النقدي الذي لم يقم به الطبري دائمًا، لذا لم تسلم روايات كتابه من الإسرائيليات، فنقل أخبار القصص الإسرائيلي بأسانيده التي تنتهي إلى كعب الأحبار (كعب بن ماتع الحميري) ووهب بن منبه.

كما كان الطبري يتعرّض لناحية الإعراب إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وفي النهاية يستنبط الأحكام التي يمكن أن تُؤخذ من هذه الآية، وخلال هذه العملية التفسيرية، راعَى الطبري بشكلٍ دائم تمسّكه المعروف بالظاهر من معنى اللفظ، فلم يقل بباطنية معاني القرآن، ولم يتحوّل عن المعنى المباشر لكلمات الآيات إلا إذا كان السياق العام للكلمات وتفسيرها يقتضي ذلك.

وأيضًا، اعتمد الطبري على القراءات المتعددة للقرآن لفهم النص بشكلٍ أعمق، كما احتكم إلى المعروف من لسان العرب إلى جانب الشعر القديم الذي كان ينتقي أحسنه ويستعين به في مسائل النحوية.

ويضيف الأحمد في بحثه «المنهجية النقدية في تفسير الطبري وأثرها على المفسرين»، أن أهم ما يتعلّق بطريقة الطبري في التفسير هي استخدام طريقة تأويل القرآن بالقرآن، وهذه أحد أعلى أنواع التفسير، وفيها يقوم بتفسير معاني الآيات بمعاني آيات أخرى فيجعلها مُكمِّلة لبعضها.

بعدها كان يسير في تفسيره على نحوٍ مُتدرِّج، فإن لم يجد من آيات الكتاب ما يُعينه على التفسير كان يلجأ إلى التفسير بالسُنة النبوية، فإن لم يجد يستعين بما صحَّ عن الصحابة، وحال تعدُّد الروايات المختلفة لا يكتفي بذِكر الروايات المختلفة والترجيح فيما بينها، وإنما يحاول التوفيق بينها قدْر استطاعته.

وبسبب إفراط الطبري في ذِكره للروايات في كتابه، وصفه المفكر الإسلامي التونسي عبدالمجيد الشرفي في أطروحته «المسيحية في تفسير الطبري» بأنه «تفسير بالمأثور» حشد مختلف الروايات والأخبار والأحاديث المتلعقة بالآيات بغضِّ النظ عن صحتها، ومدى استقامتها من حيث المتن ومن حيث السند على السواء.

ولهذا اعتبر العلماء كتاب الطبري تفسيرًا بالأثر وليس بالرأي، وذلك بالرغم من وجود بعض المواضع التي أعمل فيها الطبري عقله واجتهد لبيان أحكام الآيات وفقًا لرؤيته الخاصة، وفي مقدمة كتابه، دافع الطبري عن التفسير بالرأي في كل ما لم يرد به أثر.

يقول محمد عاكف كوج الباحث في كلية الإلهيات بجامعة أنقرة في أطروحته «حول فهم تفسير الإمام الطبري»، إن الذين يرغبون في الاستفادة من تفسير الإمام الطبري عليهم أن يعلموا أنه عند جمعه للمرويات لم يكن انتقائيًا بنسبة كبيرة، فقط قام بتدوين الروايات التي توصل إليها، ولذا يجب عدم التفكير بأن جميع الروايات الموجودة في مصنفه هي روايات موثوقة، وهو النهج الذي عبّر عنه الطبري بوضوح في مُقدمة كتابٍ آخر له هو «تاريخ الأمم والملوك»، قال فيها:

ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادنا في كل ما أحضرنا ذكره أو شرطنا واسمينا فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي ذكرناها فيه، والآثار التي أسندناها إلى رواتها فيه، دون ما أدركنا بحجج العقول واستنبطنا بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصلٍ إلى مَن لم يُشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس.

ووفقًا لهذا النهج، جمع الطبري في تفسيره قرابة 35 ألف رواية مسندة مصنفة منسوبة للرسول والصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وكأن الطبري بذل كل جهد ممكن ليحاول نقل صورة كاملة للناس الذين عاشوا في العصور الهجرية الأولى تشمل آراءهم وحكايات وملابسهم وأدق تفاصيل حياتهم، وفي سبيل هذا القصد وقع في فخ نقل الروايات الأسطورية والتاريخية

ويؤكد «كوج»، أن الطبري اتّبع هذا الأسلوب الشاق، لأنه لم يضع مُؤلَّفه للعوام أو حتى لطلاب العلم، وإنما وضعه للعلماء والمتخصصين، ولهذا حرص أن يرد الرواية بسندها كاملاً، وبهذا فهو، وفقًا لعلوم الحديث، أعفى مسؤوليته عن احتمال ضعفها أو وقوع أخطاء فيها، وقدّم نفسه كمجرد ناقلٍ ليها.

حدثتني نفسي به وأنا صبي، واستخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنوات قبل أن أعمله فأعانني
الطبري متحدثًا عن تفسيره

يقول بسّام الجمل في بحثه «أهم مصادر تفسير الطبري بين الشفوي والمكتوب»، إنه من المعلوم أن الطور الأول من تاريخ الثقافة الإسلامية هو طور المشافهة في نقل المعارف والعلوم، وفي هذا السياق الثقافي راجت منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري آراء في التفسير القرآني منسوبة إلى عددٍ من الصحابة والتابعين، لم تشمل آيات المصحف بأكمله.

ويوضّح، أن الطبرى بنَى تفسيره على تقنية الإسناد، وهي تقنية مستمدة أساسًا من أدبيات الحديث النبوي، وعندما أحصى المستشرق الألماني هاريبار هورست أسانيد «جامع البيان»، أكد أنها تبلغ 13060 سلسلة إسناد مختلفة الحلقات، ظهرت في 35400 موضع، ولا شك أن هذا العدد الكبير من الأسانيد من الدواعي الرئيسية التي ضخّمت حجم تفسير الطبري (أغلبت طبعاته في حدود الـ30 جزءًا).

روى ابن عباس ثُلث أخبار أسباب النزول الواردة في «جامع البيان»، ومجموع ما رواه غيره من الصحابة من أسباب النزول أقلّ مما رواه هو بمفرده، وفي الغالب فإن مرويات ان عباس التفسيرية بلغت الطبري من خلال خمسة رواة، وهو ما يعني أنها احتاجت إلى قرابة 200 سنة (بدءًا من سنة 68هـ تاريخ وفاة ابن عباس وحتى سنة 270هـ تاريخ إملاء التفسير في بعض الروايات) حتى تصل إلى الطبري ويضعها في كتابه.

وعلى الرغم من تتلمذ الطبري على العديد من الشيوخ، فإنه ذكر في كتابه تحديدًا عددًا قليلاً منهم، هم: محمد بن حميد الرازي (توفي 248هـ)، أبو كريب، محمد بن الأعلى الهمذانيّ (توفي 247هـ)، يونس بن عبد الأعلى (تُوفي 264هـ)، وسفيان بن كويع بن الجرّاح (تٌوفي 247هـ)، هؤلاء الشيوخ مكّنوا الطبري من الاطّلاع على روايات جيلي الصحابة والتابعين والتي نهل منها الرجل قدْر وسعه في المُؤلَّف.

ويعتقد الجمل، أن أهم نتيجة مترتبة على الانتقال من الشفوي إلى المكتوب في أقوال بعض الصحابة والتابعين في مصدر تفسيري كالطبري، هو تثبيت الرواية الشفوية في  هيئتها الأخيرة، وهو ما ينهي سلسلة من الطبقات المتراكمة من الصيغ التي تشكلت منذ لحظة لفظ الأقوال من أفواه الصحابة وتداولها بين الناس بأكثر من شكل وحتى كتابتها.

فيما يعتبر الشرفي، أن تفسير الطبري يُمثل حدًّا فاصلاً بين عهدين؛ هما: عهد الرواية الشفوية المنفتح على كافة الآفاق، وعهد التدوين الذي يعتبر أن بداية انغلاق علوم السنّة التفسيرية على نفسها وثبات الفكر الإسلامي بصفة عامة بعد انتهاء فترة النشوء والتكوين.

لا تدفنوا الطبري المُلحد

على الرغم من تأليف الطبري لهذا السِفر الجليل، فإن الرجل مُنِع من الدفن في مقابر المسلمين في بغداد بدعوى أنه مُلحد!

يحكي ابن الأثير في معرض حديثه عن حوادث سنة 310هـ: «في هذه السنة توفي محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ ببغداد، ودُفن ليلاً بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت دفنه نهارًا، وادّعوا عليه الإلحاد».

وقعت هذه المتاعب للطبري، بسبب الخلاف الشهير الذي جمعه بالحنابلة، بعد ما لم يعتبر أحمد بن حنبل فقيهًا في كتابٍ له وإنما مُجرد مُحدِث، فشنّع عليه أنصار ابن حنبل وقذفوا داره بالحجارة، وظلوا على عداوته حتى مات.

لتكون هذه الخاتمة الكالحة نتيجة لعيش الرجل في «عصر جدال»، شهد نشوء المدارس الكلاميّة الكبرى وتطورات الجدل العقائدية، وحينها كان الحنابلة يعيشون قمة مجدهم الشعبي بعد انتصارهم فيما عُرف بـ«محنة أهل الحديث»، والتي انتهت بتتويج الإمام أحمد رمزًا فقهيًا وبطلاً ملحميًا لا يجوز أبدًا تجاهله، وعندما تجاسر الطبري على التقليل من عِلمه اتُّهم في دينه حتى مات.