المخابي جاهزة، هذه أرضنا ولن نستسلم، وأقول للروس أهلًا بكم في الجحيم.

بهذه الكلمات المتحدية خرجت البرلمانية الأوكرانية صوفيا فيدينا في كلمة سريعة انفعالية ردًّا على التوغل الروسي في الأراضي الأوكرانية.

تفيض هذه الكلمات بالحماس، لكن هل هي صادقة؟ هل أعدَّت أوكرانيا نفسها ليومٍ قاسٍ كهذا؟ وهل تمتلك مخابئ تكفي لحماية الأوكرانيين من القصف الروسي؟

ما بعد «القرم»

في «دولة حرب» كإسرائيل يعتبر بناء الملاجئ المحصنة جزءًا كبيرًا من ثقافتها الاجتماعية، فأنشأت نماذج عملاقة منها في البيوت والقواعد العسكرية وفي المستشفيات تتسع لآلاف المواطنين، ليس هذا وحسب وإنما نشرت عددًا من الغرف الخرسانية المحصنة لتكون ملاذًا آمنًا وطارئًا حال وقوع أي أزمة لمواطنيها خلال سيرهم في الشارع، حتى قدَّرت الجارديان أن إسرائيل باتت تمتلك قرابة مليون مخبأ.

بالمثل، فإن حالة التوتر المستمرة التي تعاني منها أوكرانيا منذ سنوات دفعت الكاتبة الأوكرانية إليزابيث بيلسكا للتصريح بأن على بلادها أن تعيش مثل إسرائيل لأنهم يتوقعون خوضهم حروبًا في أي وقت، فهل سارت أوكرانيا فعلًا على النهج الإسرائيلي؟

بالطبع، في ظروفٍ كهذه لا ينتظر الأوكرانيون دعوة من أحد للجوء إلى المخابئ الواقية من الدمار، ولهذا تناقلت أغلب وكالات الأنباء في العالم أنباءً عن تجمعات أوكرانية ضخمة احتمت تحت الأرض للوقاية من «نيران بوتين».

لكن كان لافتًا أن تلك المجموعات لم تلجأ فقط إلى المخابئ المعدَّة لهذا الغرض، وإنما افترشت أيضًا أرضيات محطات السكك الحديد ومترو الأنفاق بعدما جلبوا معهم ما يكفي من عتاد يعينهم على قضاء تلك الأيام الصعبة، فهل عجزت المخابئ الرسمية عن احتوائهم؟

هذا السلوك ليس غريبًا إن اطلعنا على محضر ذلك الاجتماع الذي عقده مجلس الوزراء الأوكراني في مارس 2017م، يتَّضح من مسودته أن المسئولين الأوكرانيين وضعوا خطة طموحة جدًّا لاستغلال أي تجاويف أرضية ذات سقفٍ صلب يُمكن إيواء الناس فيها، بدءًا من المخابئ الخرسانية الكلاسيكية وحتى مناجم التعدين وأنفاق القطارات.

كما كشف أرسين أفاكوف، الذي شغل منصب وزير الداخلية الأوكراني، أن بلاده طوَّرت خطط طوارئ قوية لم تقتصر على التوسُّع في استخدام الملاجئ وحسب، وإنما أسَّست هيئة حكومية عُرفت بِاسم «خدمة الطوارئ الحكومية»، التي ضمَّت 65 ألف موظف أشرفت على تأسيس مستشفيات متنقلة ومراكز لتوزيع الغذاء والماء وتوفير بديل للشبكات الخلوية حال تعطلها عبر استخدام نظامٍ مختلف للرسائل النصية وشاحنات مزوَّدة بمكبِّرات صوت.

المخابئ السوفييتية تنقذ الأوكرانيين من الروس

بعض المخابئ تمتلكها أوكرانيا منذ الحرب الباردة، حينما كانت ولاية ضمن الاتحاد السوفييتي، لذا ليس من المستبعد أن يكون مهندسون روس هم من بنوا تلك المخابئ، التي صُمِّمت بالأساس لمواجهة أي هجوم بريطاني أو أمريكي محتمل على الاتحاد السوفييتي.

أحد تلك المخابئ وأكثرها حصانة بناه السوفييت منذ عقود ويتَّسع لـ 300 شخص مُجهَّز بمولدات مستقلة للطاقة وعددٍ من التليفونات التي تعود لحقبة الثمانينيات.

وبشكلٍ عام فإن نسبة لا يُستهان بها من المخابئ السوفييتية، متهالكة التأسيس، خرجت من الخدمة، ولن توفِّر الأمان لأحد، بل ربما تقضي على حياة اللاجئين إليها بسبب افتقارها لأبسط الخدمات الأساسية بعد عقودٍ من الإهمال.

ومع قِدَم تلك المخابئ، سعت كييف لتنفيذ خطة طموحة لإقامة المزيد من المخابئ، عقب تنامي التهديد الروسي، وتحديدًا منذ عام 2014م الذي انتزعت فيه موسكو شبه جزيرة القرم من البدن الأوكراني.

ومع تزايد احتمالات الحرب في الأسابيع الماضية، صرَّح أكثر من مسئول أوكراني عن حجم البنية التحتية لهذه المخابئ بعد 8 سنوات من العمل على إنشائها، كما نشر مجلس مدينة كييف خريطة كاملة لـ 5 آلاف موقع لتلك المخابئ وأي أماكن أخرى محصَّنة بما يكفي ليجعلها وِجهة آمنة في الحرب، وتشمل حانات ومطاعم ومحلات تجارية وأقبية نوادي تعرٍّ!

مع استمرار هذه الجهود، صرَّح نيكولاي بودنيك، المسئول عن أنظمة المأوى في كييف، لوسائل الإعلام العالمية خلال زيارته لملجأ بُني عام 1986م في يناير الماضي، أن بلاده تهدف إلى توفير ملاجئ لـ100% من السكان.

وفي فبراير من هذا العام، رتَّبت كييف جولة لعشرات الصحفيين في حي سكني داخل كييف للاطلاع على عمليات التجديد التي طالت إلى ملجأ قديم منذ الحقبة السوفييتية.

وبحسب مسئولين أوكرانيين، فإن المخبأ الذي يستوعب قرابة 350 فردًا تعرَّض لعملية تجديد شاملة وجرى تزويده بخدمات الإنترنت، كما عُبِّدت جميع الطرق التي تقود إليه لضمان سهولة الوصول إليه.

هدفت كييف من هذه الجولة إلى التأكيد للرأي العام العالمي على مدى استعدادها لامتصاص آثار الحرب مع روسيا حال وقوعها.

المنشآت المدنية تشارك في المهمة

سابَق المسئولون الأوكرانيون الزمن من أجل توفير أكبر عدد ممكن من الملاجئ لشعبهم فلجئوا إلى ما أسموه «مرافق الاستخدام المزدوج»، وهي الاعتماد على كل الأماكن التي تمتلك أقبية خرسانية واقية يُمكن اللجوء إليها وقت الحرب، في الوقت الذي يُمارس فيه المكان نشاطًا تجاريًّا أو ترفيهيًّا وقت السِّلم.

ولهذا فتَّشوا 11 ألف مبنًى يمتلك طابقًا سفليًّا لتحديد مدى ملاءمته للتحول إلى مخبأ وقت اللزوم. في 2014م لم يكن صالحًا منها إلا 1500 فقط جرى عليها عمليات تطوير سريعة حتى تجاوز العدد 5 آلاف منشأة صالحة لاستقبال الأوكرانيين هذه اللحظات.

كما خصصت كييف ملاجئ خاصة – قرابة 500 موقع –  للعمال المسئولين عن المرافق الحيوية، لضمان استمرارهم في أداء مهامهم حال وقوع أي هجوم، أما الباقي فهو مفتوح الأبواب لاستقبال جميع الأوكرانيين، سواء كان المخبأ يقع في منشأة عسكرية أو جزء من مبنًى مدنى جرى تطويره وإعداده لتلك المهمة الصعبة.

وبحسب القانون الأوكراني، فإنه يتعيَّن على صاحب كل منشأة مدنية تأوي ملجأً أن يحافظ على سلامتها وصلاحيتها المعمارية ويعزلها عن أي تسريب مائي ويسمح لأي شخص باللجوء إليه في حالة الطوارئ.

لذا لم يكن غريبًا فور وقوع الغزو، أن تعلِّق منشآت مدنية بحتة كمطعم أو مكتب بريد أو حانة على واجهاتها لافتات تدعو المواطنين للجوء إليها حال وقوع أي خطر.

صاحب أحد الحانات التي تمتلك قبوًا واقيًا صرَّح قائلًا: «نحن جاهزون لاستقبال الناس، لدينا طابق سفلي، وسنوفِّر الطعام والشراب».

أيضًا، حثَّ فيتتالي كليتشكو عمدة كييف المواطنين على عدم الاعتماد فقط على المخابئ العسكرية، وإنما  أكد أنهم يُمكنهم  استخدام كل محطات المترو كمأوى مؤقت.

بعض هذه المخابئ لم تكتفِ بدورٍ سلبي كوسيلة للنجاة من الموت بل بعضها تم تجهيزه ليكون معسكر تدريب على القتال، منها قبو مدرسة في مدينة لفيف Lviv الأوكرانية، الذي اشتمل على ميدان رماية لتدريب الطلبة على إطلاق النار على صور الرئيس بوتين التي وُضعت جميعها هدفًا للتصويب!

الملاذات الآمنة خطرة!

يقول ناثان فاندركليب الصحفي في موقع «ذا جلوب آند ميل» The Globe and Mail، إن الملاجئ الأوكرانية لن توفِّر الحماية للسكان إذا اندلعت الحرب.

يقول ناثان إنه بعد عقود من عدم استخدام هذه الملاجئ فلقد أجرى بعض أصحابها – في المنشآت المدنية تحديدًا – عليها تعديلات تحدُّ من فعاليتها، حتى إن البعض افتتح فيها نوافذ ما يجعلها هدفًا سهلًا لاستقبال الرصاص.

وبحسب المقال، فإنه بالرغم من الجهود الأوكرانية في هذا المجال فإن 11% فقط من ملاجئ أوكرانيا تعمل كما ينبغي أما البقية فقد يكون اللجوء إليها أخطر من اتقاء شر إطلاق النيران في أحد الشوارع عبر الاختباء أسفل أقرب سيارة.

وفي فبراير الماضي، أجرت مدينة خيرسون الأوكرانية، التي تبعد 100 كيلومتر فقط عن شبه جزيرة القرم تدريبًا محتملًا عن وقوع حرب، لجأ خلاله عدد من المواطنين إلى الملاجئ.

وهناك فوجئوا بالفقر الواضح في تجهيز تلك الملاجئ لدرجة اعترف معها أحد مسئولي المدينة أن الإنسان لا يستطيع العيش فيها أكثر من 4 ساعات.

ولاحقًا كشف عدد من مواطني المدينة أن الأقبية الخرسانية التي تم اقتيادهم إليها كانت عبارة عن أماكن فارغة مغطاة بالغبار يضيء سقفها عدة لمبات، أما عدا ذلك فلا شيء؛ لا حمام، لا طعام، فقط 10 كراسٍ لم تكفِ عشرات المواطنين الذين جُلبوا إلى ذلك المكان.

هذا الملجأ – مثل مئات الملاجئ غيره – جرى استغلاله تجاريًّا لفترة طويلة، فتحوَّل إلى مطعم سوشي حتى قرر مجلس المدينة إعادة استخدامه كملجأ بعد تدهور العلاقة مع روسيا.

وهو ما يتقاطع مع التصريحات التي نُقلت عن بعض مواطني مدينة خاركيف الأوكرانية، الذين أكدوا أن الملاجئ التي يمتلكونها «نظرية» إلى حدٍّ كبير. ففي ظل عدم التفتيش عليها لمدة سنوات فإن بعض هذه الملاجئ عفى عليه الزمن بعدما غُمرت بمياه الصرف الصحي.