في الوقت الذي لا تكفُّ فيه الدول المعادية للولايات المتحدة عن انتقاد نزعاتها الاستعمارية في دولٍ كالعراق وأفغانستان وغيرهما، وتأييدها دولة استيطانية كإسرائيل، لا تتوقف مشاريعها عن اقتطاع الأراضي الفلسطينية. يغفل الجميع أن هذه الولايات المتحدة خاضت تاريخاً بغيضاً من الاستعمار والاستيطان ضمن لأمريكا، التي بدأت دولتها بـ13 مستعمرة فقط، أن ينتهي بها الحال إلى 50 ولاية كاملة، وكان وراء تحقيق هذا الهدف، قصة طويلة مليئة بالتفاصيل.

ولايات النبتة الأولى

بدأ الحكاية الوافدون الأوروبيون على الضفاف الشرقية لقارة أمريكا الشمالية.. ثلاث عشرة ولاية سُجِّلت كنسيج أول بدأه البريطانيون على الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي، فاستوطنوا الأراضي وأنشأوا ولايات «نيوهامشير، ماساتشوستس، كونتيكيت، رود أيلاند، نيويورك، نيوجيرسي، بنسلفانيا، ديلاوير، ميرلاند، فيرجينيا، نورث كارولينا، ساوث كارولينا، جورجيا»، في عام 1607م لتكون تلك هي أول نواة لنشأة ما نعرفه الآن بالولايات المتحدة.

لم تكن السنوات التالية مختلفة كثيراً، فبعد ولايات النبتة الأولى بدأت المستعمرات تنتشر في أجزاء مختلفة من البر الأمريكي كمستعمرات نيوإنجلاند (والتي تمثلت في خليج ماساتشوستس ونيوهامشير ومستعمرة كونيكتيكت ومستعمرة رود أيلاند) ومستعمرات التبغ الواقعة على خط الساحل البحري (والتي تضم ولايات دلواير جنوباً وتمتد عبر شريط يمر من ولايات ميرلاند وفيرجينيا وكارولاينا الشمالية) والمستعمرات الجنوبية والتي تضم (ميرلاند وشمال كارولاينا وجنوب كارولاينا وفيرجينيا وجورجيا)، وكانت هذه التوسعات، إضافة إلى اكتساب القوة المالية والعسكرية، بوابة نحو ثورة أمريكا على التاج البريطاني فيما بعد ذلك بعقود.

الولايات التأسيسية الأولى للولايات المتحدة الأمريكية
الولايات التأسيسية الأولى لـ «الولايات المتحدة الأمريكية»

في حال صادفك الحظ وشاهدت أفلاماً تربط ما بين تاريخ الولايات المتحدة وبريطانيا، فستصادفك جملة اعتاد الأمريكيون قولها دائماً «هذه بلد حر» بمجرد أن تسمعها ستعرف أن صاحبها يتحدث عن البلد الذي ثار على التاج البريطاني ليخلق أرضاً جديدة تحيا بالأحلام وتريد الحرية، لكن أزمة واضحة لن يذكرها صاحب الجملة وهي أن البلد الحر نفسها وهي تبني مستعمراتها الأولى كانت تستعبد السكان الأصليين، وأن أصحاب البشرة السمراء لم يحصلوا على صوت حقيقي لهم إلا بعد نشأة أرض الأحلام بقرنين تقريباً، أي في منتصف خمسينيات القرن الماضي.

لنعد بالتاريخ إلى الخلف مرة أخرى، بداية القرن الثامن عشر كان عدد المستوطنين الأوروبيين في أمريكا الشمالية 250 ألفاً، تضاعفوا بصورة مهولة في الخمس وسبعين عاماً التالية ليصبحوا 2.5 مليون شخص في عام 1775م، وهي النقطة التي عندها قررت الولايات المتحدة حديثة التشكل السعي للثورة على التاج البريطاني، وهو الأمر الذي تكلَّل في الثالث من سبتمبر/ أيلول عام 1783م بإعلان استقلال الثلاث عشرة ولاية عن الحكم البريطاني في لندن، لتظهر إلى الوجود دولة الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في حدودها الأولى.

نظرة بسيطة على خريطة الولايات المتحدة وقت إعلانها دولة رسمية بإمكانها أن تخبرنا الكثير عن حجم التوسع الأمريكي الذي ستشهده تلك المساحات من الأراضي في الأزمنة اللاحقة.

التجارة مع الصين وطريق التوسع

تخبرنا المراجع التاريخية أن مرحلة ما بعد الاستقلال الأمريكي الجديد عن بريطانيا، سعت الولايات المتحدة إلى فتح قنوات تجارية بمعزلٍ عن أوروبا، قوامها الأساسي أن تكون التجارة الأساسية بين الولايات المتحدة والأسواق الآسيوية ذات الكثافة السكانية الضخمة كالصين واليابان مفتاح استقلال اقتصادي خاص بالولايات المتحدة بعيداً عن أوروبا.

الاستقلال الاقتصادي لم يكن وسيلة لاستقرار الولايات المستقلة وحسب، بل كان مفتاحاً للتوسع وفرض حالة جديدة من الهيمنة تبزغ فيها الولايات المتحدة كقوة ناشئة لها آباؤها المؤسسون ونظرياتها التي تستمد منها فكرها التوسعي، بل إن عمليات التوسع تلك صارت فيما بعد وسيلة للبروباجندا السياسية الأمريكية عبر ترويج الإنجازات الأمريكية الناتجة عن التوسع كتلك الصورة التي قارنت بين ما فعلته أمريكا بعد الحرب الأمريكية الإسبانية التي قاتلت فيها القوات الأمريكية إلى جانب ثوار كوبا لتحصل على الاستقلال من الحكم الإسباني، وهكذا جرى تبرير هذه الحروب على أنها أداة لتحرير الشعوب وليس احتلالهم.

جرت الحرب الأمريكية الإسبانية على مدار عدة أشهر بداية من 21 أبريل 1898 وانتهت بعدها في ديسمبر من العام نفسه، وقد كان يظهر للعيان وقتها أن الولايات المتحدة تسعى لاستقلال كوبا ونيلها حريتها، لكن الحقيقة أن الولايات المتحدة كانت ترفض الوجود الإسباني على حدودها باعتباره خطراً يهدد دولتها الناشئة وحركتها التوسعية، حتى أنه أصبح في النهاية وسيلة الولايات المتحدة لإحلال السيطرة الأمريكية على كوبا بدلاً من السيطرة الإسبانية.

بدأت الأنظار الأمريكية تتجه نحو مسارين واضحين للتوسع؛ أولهما، الجيران القريبون مثل هاواي وبورتو ريكو، واللتين كانتا ضمن خطة أمريكا لإخضاعهما، إما بالتوسع والسيطرة العسكرية أو الإخضاع بالتبعية.

شكلت تلك الجزر لوقت طويل وضعاً شائكاً بالنسبة للولايات المتحدة، فجزيرة بورتوريكو على سبيل المثال وقعت تحت السيطرة الإسبانية بداية من عام 1493، وظلت تحت حكمها أربعة قرون حتى خرجت منها بعد الهزيمة وسلمتها لحكومة الولايات المتحدة في عام 1898 واكتسبت صفة التبعية الأمريكية في عام 1917.

لكن بورتوريكو بعد ذلك التغير اكتسبت وضعاً مختلفاً، فهي ليست ولاية أمريكية، لكن مواطنيها أمريكيون فيما يُعرف بالكومنولث، يتبعون السيطرة الأمريكية لكنهم ليسوا جزءاً منها، فلا يحق لهم التصويت في الانتخابات أو دخول الكونجرس على الرغم من تبعيتهم للقوانين الأمريكية وامتثالهم للدولار الأمريكي.

في عام 1952 حصلت الجزيرة على حكم ذاتي مع تبعية أمريكية، ثم عقدت استفتاء في عام 2017 لتصبح المدينة ولاية أمريكية وبعد الموافقة لم يتعد الأمر كونها ولاية حرة شريكة، أي أنها تابعة للولايات المتحدة اسماً، من دون أن يكون لها امتيازات واضحة كرفع الديون عنها أو دعمها اقتصاديا أو ما شابه.

أما عن جزيرة هاواي، فكان الأمر خاضعاً للاختيار الذاتي بعد الوقوع في أزمة السيطرة الأمريكية على القارة، فجزيرة هاواي كانت مملكة مستقلة حتى عام 1893 ثم تحولت إلى جمهورية في عام 1894 إلى أن قررت الانضمام إلى الولايات المتحدة في عام 1959 لتصبح الولاية رقم خمسين.

القدر المتجلي

هكذا عرفت النظرية في الأوساط السياسية الأمريكية وانتقلت فيما بعد إلى العامة، أن مصير الولايات المتحدة مرتبط بقدر متجلٍ للعيان، أو ما يعرف بـ Manifest Destiney وهي نظرية ترى أن الولايات المتحدة مقدر لها أن تحكم كافة أراضي القارة الأمريكية.

ثمة أزمة تواجهنا في نظرية القدر المتجلي، فتطبيق النظرية الفعلي بدأ قبل أن تكتسب النظرية اسمها الفعلي، فعمليات التوسع التي قامت بها الولايات المتحدة بعد إعلان قيام الدولة سواء بعمليات الشراء أو بالتوسعات العسكرية، يندرج تحت تلك النظرية.

كان الظهور الأول لها في عام 1845 على يد الصحافي جون أو سوليفان (John o’ sulivan) عنها في مقال يصف حق أمريكا في التوسعات تحت مسمى القدر المتجلي، وأن هذا المصير هو مصير مكتوب عند الرب، فرضه الإله على الولايات المتحدة لتنفذه ليمتد الأمر بعدها بسنوات قلائل وتشتري الولايات المتحدة 30 ألف ميل مربع من المكسيك، فيما عُرف لاحقاً بصفقة جادسن.

لو عُدنا إلى الخلف قليلاً، فالنظرية يمكن أن تكتسب بعداً تاريخياً، فهي تستمد جذورها من الولايات الثلاث عشر التي بدأت بها الولايات المتحدة نشأتها، متضمنة بذلك بُعدها العنصري في احتلال الأوروبيين لمناطق السكان الأصليين وإخراجهم من الفقر والضياع الذي يعيشون فيه حتى يلقوا مصيرهم المحتوم تحت السيطرة الأمريكية التي تنشر الرأسمالية والمساواة والديمقراطية.

لكن هذا لم يكن كافياً، فالنظرية استمدت قوتها من الجانب الديني بوضوح، فالقول إن الولايات المتحدة مقدر لها السيطرة على كل تلك المساحات الجغرافية، قُدم للعالم على أنه قدر إلهي محتوم على الولايات المتحدة، وعليها أن تنصاع له دون تباطؤ.

لم تكن الولايات المتحدة في الحقيقة بحاجة لكثير من الوقت بعد الاستقلال لتبدأ توسعاتها، فبحلول عام 1803 أبرمت الولايات المتحدة صفقة مع فرنسا لشراء لويزيانا بقيمة 15 مليون دولار، لتتضاعف مساحة الولايات المتحدة بشكل كبير وتُسيطرعلى نهر المسيسبي ممتدة حتى الجبال الصخرية في كندا وإلى مقاطعة نيوأورليانز والحقيقة أن قيمة الصفقة مقارنة بالمساحة لم تكلف الولايات المتحدة أكثر من 3 سنتات مقابل الفدان الواحد.

كما حضرت استراتيجية الهجرة نحو الغرب كوسيلة من وسائل التوسع الأمريكي لضم المزيد من المناطق والولايات، فالولايات التي انطلقت من الشمال بدأت تطلق وفوداً إلى ميسوري وأريجون وكاليفورنيا ونيوميكسيكو وتكساس، كان دورها تبشيرياً بالدرجة الأولى، حيث إن الطابع الديني الذي غلب على هذه الرحلات التي استطاعت أن تحقق انتشاراً واضحاً في تلك المقاطعات كان لها أثر واضح في خلق حالة من الانتماء للولايات المتحدة والرغبة في انضمام المدينة لها لتصبح ولاية جديدة وتدخل في سياق الدولة حديثة النشأ، في السياق نفسه كان الحراك الاقتصادي الجديد الناتج عن السيطرة على الموارد في الداخل الأمريكي الجديد بوابة تحفيزية نحو ذلك المسار.

 ثم جاء موعد الاقتراب من المكسيك وانتزاع الأراضي التدريجي منها، فالمنتقلون إلى تكساس اندمجوا مع قبائل التيجانو (مكسيكيون من أصول إسبانية)، حتى أصبحت تكساس مدينة مكسيكية داخل السيطرة الأمريكية، وبقيت تكساس تابعة، نظرياً، للمكسيك حتى 1836 حينما أعلنت نفسها جمهورية ذات حكم ذاتي تابعة لإسبانيا، لكن الهزائم التي نالتها إسبانيا على يد الولايات المتحدة كانت من بين غنائمها تكساس التي قررت الانتقال لتبعية الولايات المتحدة في 29 ديسمبر من عام 1845 لتصبح الولاية رقم 28 في الولايات المتحدة.

ولوقت طويل ظلت المكسيك الطرف الأضعف في المعادلة الأمريكية، وقتها، ففي خضم تسارع حمى الأراضي المضمومة للسيطرة الأمريكية، اقتحمت القوات الأمريكية بجحافلها الضخمة الأراضي المكسيكية ووصلت إلى العاصمة نفسها في عام 1846 وظلت مسيطرة على الأوضاع حتى عام 1848 حتى أجبروا المكسيك على توقيع معاهدة كتبتها الولايات المتحدة بنفسها حملت اسم جوادالوب هيدالجو في 2 فبراير 1848، والتي فقدت المكسيك بموجبها قسرا 55% من مساحتها الكاملة، لتصبح مدينة مكسيكية ضخمة ولاية أمريكية تحمل اسم نيومكسيكو.

بعدها، تسارعت الوتيرة بشكل كبير، ففي عام 1850 انضمت توالياً وخلال العقود التالية، الولايات التالية: كاليفورنيا- مينسوتا- أوريجون- كانساس- فيرجينيا- نيفادا- نبراسكا- كولورادو- داكوتا- مونتانا- إداهو- وايومنج- أوتاه.

كان ذلك التسارع منطقياً وقتها لعدة أسباب، أولها، تزايد الحركة الصناعية في الداخل الأمريكي الجديد في تلك الفترة والتي كانت عامل جذب مهماً للمدن المجاورة التي وجدت نفسها في نقطة عزل غير محددة، فانهيار النفوذ الإسباني في ذلك النطاق الجغرافي خلق مناطق مستقلة نوعاً ما غير مرتبطة بالتبعية الإسبانية، وفي الوقت نفسه بصدد تزايد النفوذ الأمريكي بعد انتصاراته المتعددة على إسبانيا، والتي خلقت عاملاً واضحاً جعل من الانضمام للولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً أمراً شبه محسوم.

يتحرك بنا التاريخ نحو الأمام قليلاً حتى عام 1867 حينما قررت الولايات المتحدة أن تبرم أكبر صفقة شراء مدينة في التاريخ، حيث اشترت ألاسكا من روسيا بمساحة تبلغ أكثر من 375 مليون فدان وبأرض تطفو فوق بحيرة ضخمة من النفط الخام، بصفقة وصلت قيمتها إلى 7.2 مليون دولار بما يعادل 2 سنت للفدان الواحد.

وبدخولنا إلى القرن العشرين أصبحت الوتيرة أقل تسارعا من ذي قبل، فدخلت أوكلاهوما والتي اختارت عقد استفتاء على الانضمام للولايات المتحدة في 17 سبتمبر من عام 1907 والذي حظى بالموافقة، ووقع الرئيس ثيودور روزفلت مرسوم انضمام أوكلاهوما للولايات المتحدة في 16 نوفمبر من نفس العام.

أما عن ولاية أريزونا فلم تختلف كثيراَ عن سابقاتها التي سقطت بسقوط النفوذ الإسباني والتضاؤل المكسيكي إلى الخلف، والذي جعل المدينة في وضع الانعزال المستوجب للدخول في تبعية قوى اقتصادية وسياسية مستقرة، فصدر قرار إعلانها ولاية أمريكية رسمياَ في 14 فبراير 1912، وأخيراَ هاواي التي أصبحت آخر ولاية يصدق الكونجرس الأمريكي على ضمها الأراضي الأمريكية في 21 أغسطس/ آب عام 1959.