ستراتفور، 3 نوفمبر 2015

ريجي طومسون

مع المرور بعدة سنوات من التباطؤ الاقتصادي الصيني، تشعر اقتصادات أمريكا اللاتينية، التي تعتمد على الصين في شراء صادراتها الرئيسة، بالعناء، وهو ما يترافق مع وجودٍ أقل للعملة الصعبة، وحكوماتٍ – في جميع أنحاء المنطقة – تُكيّف بسرعة خططًا للإنفاق، وتستعد للحكم في بيئة سيمتلكون فيها عددًا أقل من الموارد لتأمين ولاءاتهم السياسية الرئيسة.


دور الجغرافيا

منذ أن بدأت أسعار السلع الأساسية في الانخفاض منذ عدة سنوات، كُتِب الكثير حول الكيفية التي سيزعج بها بطء النمو الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي المحتمل، أمريكا اللاتينية في السنوات المقبلة. لكن ما الذي ستكون عليه أمريكا اللاتينية خلال عقدٍ كنتيجةٍ للانكماش الاقتصادي الصيني؟ ما الأيديولوجيات التي ستهيمن في قارةٍ انحرفت على مدى العقد الماضي نحو الشعبوية اليسارية؟ وما هي القضايا التي ستحدد علاقتها مع الولايات المتحدة، الهيمنة غير المتنازع عليها في نصف الكُرَة؟

تقدِّم لنا الجغرافيا السياسية في المنطقة الخيوط الأولى للجواب. الخطوة الأولى تتمثل في رؤية جغرافيا مناطق وبلدان أمريكا اللاتينية على شكل سلسلةٍ من الجزر المنقسمة وليس باعتبارها كيانًا موحدًا.

على عكس أوروبا الغربية، حيث أدَّى الغياب النسبي للعوائق الطبيعية في نهاية المطاف إلى نشوء كياناتٍ سياسيةٍ مترابطة، شُطِرت أمريكا الجنوبية من قِبَل غابات الأمازون المطيرة الكثيفة وقُسِّمت طوليًّا بسلسلة جبال الأنديز التي لا يمكن التغلب عليها تقريبًا، وتم تقسيم المستعمرات الأمريكية اللاتينية حتى قبل انهيار الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين قبل أكثر من قرنين من الزمان. وبعد الاستقلال، خلق هذا المشهد الجغرافي المتقطّع عشراتٍ من الاقتصادات ذات الأحجام المتفاوتة بصورةٍ عشوائية في كثيرٍ من الأحيان، أو المرتبطة أكثر عن طريق التجارة مع شركاء من خارج المنطقة، مما هو الحال بين بعضها البعض.
ومع وجود قليلٍ من المساحات المتصلة من الأراضي الصالحة للزراعة وارتفاع تكاليف النقل البريّ عبر الغابات والجبال؛ فإن أمريكا اللاتينية ببساطة ليست في وضعٍ يُمكّنها من خلق رأس مالٍ على مقياس الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية؛ نتيجةًً لذلك، حتى الدول الكبرى في أمريكا اللاتينية مثل البرازيل أو المكسيك لا تزال تعتمد إلى حدّ كبيرٍ على التدفقّات النقدية من الخارج للحفاظ على اقتصادها واقفًا على قدميه، وتعتمد على الصادرات إلى الصين أو الولايات المتحدة كجزءٍ كبيرٍ من تجارتها الخارجية.

مما لا يثير الدهشة، دائمًا ما كان هدف تشكيل المؤسسات التي يمكن أن توفّر وحدةً سياسية واقتصادية عصيًّا على رجال دول أمريكا اللاتينية. لقد بُذِلت محاولاتٌ عديدةٌ لتوحيد المنطقة المنقسمة؛ محاولة سيمون بوليفار في القرن التاسع عشر المشؤومة لتوحيد أمريكا الجنوبية، ومحاولة أخرى مماثلة في توحيد دول أمريكا الوسطى إلى فيدرالية، والتشكيل الأحدث لتكتّلاتٍ اقتصاديةٍ منفصلة في أمريكا اللاتينية. بعد العزلة التي أنشأتها الحواجز الجغرافية، أُحبطت محاولات القادة لتوحيد دول المنطقة إلى اتحادٍ اقتصاديّ أو سياسيّ حقيقي على مقياس الاتحاد الأوروبي أو حتى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وفي التاريخ الحديث، اقتربت دول أمريكا اللاتينية بشكل أكبر نحو نوعٍ من الوحدة – إلى جانب تكتلاتٍ تجاريةٍ إقليمية من قبيل السوق المشتركة للجنوب وتحالف المحيط الهادئ – التي ترافقت مع موجة الحكومات الشعبوية اليسارية التي أخذت تجتاح القارة في وقتٍ مبكّرٍ من الألفية الجديدة. لكن بعد عقدٍ من الميزانيات والسياسة المدعومة بارتفاع أسعار السلع الأساسية، فإن الحقائق الخام للجغرافيا السياسية ترتدُّ منتقمة.

شكل الحكومات القادمة

لا يمكننا تحديد الطبيعة الدقيقة للحكومات الوطنية التي ستنشأ خلال العقد المقبل؛ الإجراءات قصيرة الأجل أقل قابليةً للتنبؤ من الاتجاهات طويلة الأجل، ومحاولة توقع الأشخاص أو الأحزاب التي ستقود دولًا مثل البرازيل بعد انتخابات 2018، أو فنزويلا بعد الانتخابات الرئاسية في 2019، أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر لأبعد مدى.
. مع ذلك، لدينا فكرةٌ تقريبية عن الشكل الذي ستأخذه هذه الحكومات. مع وجودٍ أقل للإيرادات المتاحة لتهدئة السكان المضطربين، فإن الحكومات الجديدة من المرجّح أن تكون أكثر واقعيةً من الناحية الاقتصادية من أسلافها. هذا لا يعني أن الشعوبية كوسيلةٍ للحكم في أمريكا اللاتينية ستهدأ، بدلًا من ذلك، من المرجّح أن يأخذ الحكام مزيدًا من العناية فيما يتعلق بكيفية ارتباطهم بناخبيهم والعالم الخارجي.

ولأن المنطقة تعتمد بشدة على رأس المال الأجنبي لاستمرار النمو الاقتصادي، ولأن عائدات تصدير الدول متستنفدة (في بوليفيا، على سبيل المثال، عائدات الصادرات انخفضت بنسبة الثلث تقريبًا مقارنةً مع العام الماضي)؛ فإن القادة أكثر عرضةً للامتناع عن التأميم الشامل أو العداء للشركات الأجنبية. خلال العقد الماضي، صادرت الحكومات اليسارية العديد من الممتلكات الخاصة في نزاعاتٍ مع شركاتٍ خاصة. وباستثناء حالاتٍ قصوى مثل فنزويلا – التي، بسبب مغامرات التخلف عن السداد، والمشاكل الاقتصادية، ومصادرة الملكية فيما مضى، الإجراءات التي قطعت بالفعل معظم الاستثمارات والقروض الخارجية -، فإن معظم الدول من المرجّح أن تحاول الآن تشجيع الاستثمارات بدلًا من ترويعها. ونتيجةً لذلك، من المرجّح لأمريكا اللاتينية أن تدخل إلى عصرٍ لن تسفر فيه الشعبوية الكبرى للعقد الماضي عن نفس النتائج التي كانت من قبل، ويمكن، في الواقع، أن تؤدي إلى نتائج عكسيةٍ من قِبل القادة في محاولةٍ لإعادة تأهيل الاقتصادات المتعثرة الخاصة بهم.

ضعف اليسار في أمريكا اللاتينية هو عاملٌ آخر من شأنه أن يشكّل العقد القادم. في السنوات العشرة المقبلة، ستصل الحكومات التي جاءت إلى السلطة خلال فترات الازدهار إلى نهاية مدة عضويتها، وقائمة الدول التي ستتطور عن الإدارات اليسارية إلى نوع آخر من الحكم طويلة، وفنزويلا ستصل إلى نقطةٍ مؤلمة سيتفكك عندها الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم. وبالنظر إلى الانقسامات الموجودة داخل الحزب، ستخضع فنزويلا لإعادة هيكلةٍ اقتصاديةٍ مؤلمة، وإلى تحوّلٍ سياسيّ بعيدٍ عن الشعبوية المتطرفة. في الإكوادور، الرئيس اليساري رفائيل كوريا قد لا يضمن فترةً رئاسيةً ثانية مدتها أربع سنوات. وفي بوليفيا، أسعار التصدير المنخفضة للغاز الطبيعيّ قد وضعت قدرة الرئيس ايفو موراليس، على تأمين عقدٍ آخر في المكتب، على المحك.

لعل الاستثناء الوحيد سيكون كولومبيا، حيث قد يجلب اتفاق السلام المحتمل مع الجماعات المتمردة اليسار إلى الحظيرة الوطنية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى استمالة الأطراف الأخرى للمزيد من الأفكار اليسارية.
. لكن حتى كوبا، التي يُنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها معقل اليسار في أمريكا اللاتينية ووسطه الأيديولوجي، ستنتقل في نهاية المطاف إلى مدارٍ سياسيّ في اتجاه الولايات المتحدة، على الأرجح في مقابل رفع الحظر التجاري الذي له خمسة عقود.

إن تراجع اليسار يعطي الولايات المتحدة مناخًا حميدًا استثنائيًا لإدارة علاقاتها وأولوياتها في الجنوب، ومن المؤكد أن المخاوف القائمة منذ فترةٍ طويلة – من قبيل تجارة وتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية -، التي توجّه تصرفات الولايات المتحدة في العديد من بلدان أميركا اللاتينية، لا تزال قائمة. لكن الدول اليسارية التي لعبت في كثيرٍ من الأحيان كعوائق طفيفةٍ أمام الولايات المتحدة وتحركاتها السياسية في المنطقة ستصبح أقلّ تأثيرًا في العقد المقبل. أولويات واشنطن الجديدة في المنطقة، من قبيل تخفيف الانهيار الاقتصادي في فنزويلا وجلب نوعٍ من التحسن في العلاقات التجارية مع كوبا، ستشغل وقت الولايات المتحدة.

ومن بين الدول التي تمر حاليًا بركودٍ اقتصاديّ عميق، يبدو أن العديد منها على استعدادٍ للظهور مجددًا. المكسيك ناشزة، بالنظر إلى ما يربطها بالولايات المتحدة من علاقاتٍ تجارية؛ لكن هذه الروابط ستضمن أنه على الرغم من إشكالية المالية العامة، ستظلّ المكسيك قوةً رئيسة في النمو الاقتصادي في أمريكا اللاتينية. بالنسة إلى بيرو وكولومبيا، ستنخفض التجارة الدولية على مدى السنوات القليلة القادمة، ولكن المالية العامة ستظلّ مستقرةً بما من شأنه أن يضمن قدرًا من الاستقرار الاجتماعي، وحتى البرازيل، حتى مع فضيحة الفساد الضخمة في شركة بتروبراس، ستتجاوز الأزمة بسبب قاعدتها القوية (ولو المتوترة حاليًا) الصناعية المحلية والحجم الاقتصادي الكبير.

إعادة الاختلافات الصاعدة

الشعبوية التي تفشّت في السنوات الخمس عشرة الماضية – والتي عزّزت من خلال الزيادة السريعة في الصادرات إلى الأسواق المتعطشة في الخارج – فرضت مظهرًا زائفًا من الوحدة بين الدول اليسارية في أمريكا اللاتينية. ظاهريًّا، تبدو أرجنتين نيستور كيرشنر وكأن لديها الكثير من القواسم المشتركة مع فنزويلا هوجو شافيز، على الرغم من أن الخصائص الجغرافية والسياسية لكلّ بلدٍ منهما تفرض في نهاية المطاف قرارات الحكومات. ومع عدم رجوح وجود صعودٍ آخر للكتلة اليسارية في العقد المقبل؛ فإن طبيعة تقسيم أمريكا اللاتينية ستصبح مرةً أخرى واضحة.

الطبيعة المقسّمة للقارة تعني أن أوجه القصور في الهيئات الدولية هناك، من قبيل السوق المشتركة للجنوب (ميركوسور) واتحاد دول أمريكا الجنوبية (يوناسور)، ستصبح أكثر وضوحًا. على سبيل المثال، ستستخدم برازيليا ميركوسور للقيام بما هو في صالح الفائدة الخاصة بها: زيادة الروابط التجارية مع دول أمريكا اللاتينية خارج جوارها المباشر، مثل المكسيك. لكن صفقاتٍ مربحةً حقًّا، مثل اتفاقية تجارة الاتحاد الأوروبي – ميركوسور، ستبقى بعيدة المنال؛ لأنها تتطلب موافقةً كاملة لجميع أعضاء المجموعة. عضو رئيس آخر في ميركوسور، الأرجنتين، يعارض مثل هذه الصفقات لئلا تضر بصناعته المحلية، نتيجةً لذلك.

ستواصل البرازيل البحث عن صفقاتٍ ثنائيةٍ صغيرة، لكنها ستظل متعثرةً في ميركوسور. اتحاد دول أمريكا الجنوبية، من ناحية أخرى، الذي ولد في الأصل كنوعٍ من الأمم المتحدة لأمريكا الجنوبية، من المستبعد جدًّا أن يتخطّى دوره كهيئةٍ إقليميةٍ تجتمع بضعَ مراتٍ في السنة.
. هذا لا يعني عدم وجود إرادةٍ سياسيةٍ في أمريكا اللاتينية تدفع نحو المزيد من الوحدة، لكن على عكس الاتحاد الأوروبي، هذه الهيئات لا يمكن فرضها على منطقةٍ تتركّز فيها العلاقات السياسية الرئيسة والتجارية نحو قاراتٍ أخرى بدلًا من دول المنطقة.

سيجلب العقد القادم معه بعض الاستمرارية السياسية والاقتصادية، ستحافظ المنطقة على علاقاتها الأساسية مع بقية العالم؛ حيث تميل تجارتها الخارجية بشكلٍ كبيرٍ نحو تصدير المواد الخام ووجود اقتصاداتٍ تعتمد اعتمادًا كبيرًا على أسواق رأس المال الأجنبي. لكن التغييرات الداخلية العميقة تغيّر بالفعل، وستتغير دول المنطقة وفقًا لذلك. إن الأطراف التي تقف على رأس هذه الدول ستكون مختلفة، والطريقة التي تتعلق بها هذه الأطراف مع العالم الخارجي على المستوى السياسي والاقتصادي ستكون مختلفة بما لا يمكن إنكاره. على مدى السنوات العشرة المقبلة، أوجه القصور في الاعتماد الشديد على الاقتصاد الصيني ستحفز خفض التكاليف والتنويع الاقتصادي المحلي، ومظاهر الحرب الباردة ستتلاشى في أمريكا اللاتينية حيث يتم استبدال القادة، بينما تتطور المؤسسات السياسية، ولكن أمريكا اللاتينية الجديدة ستستمر في أن تكون أكثر تحديدًا وتعريفًا عن طريق انقساماتها أكثر من أي فكرةٍ وحدوية.

المراجع
  1. ستراتفور