على الرغم من احتفاء المسلمين بالكثير من الأيام والليالي طوال العام، فإن ليلة القدر -على وجه التحديد- قد حظيت بالقدر الأكبر من الاهتمام والتبجيل، وذلك لما ورد في فضلها من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ولما قيل عن كونها الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

المُتخيل الشيعي الإمامي الاثنا عشري، ربط ليلة القدر بمجموعة من الرمزيات العميقة التي تتسق مع أصول ومبادئ التشيع من جهة، كما خصها بعدد من الطقوس والشعائر من جهة أخرى.

ليالي القدر الثلاث

على النقيض من النظرة التقليدية الشائعة في الأوساط السنية، والتي تؤكد أن ليلة القدر هي ليلة واحدة، فإن الاعتقاد الشيعي الإمامي الاثنا عشري يذهب إلى أن هناك ثلاث ليالٍ للقدر، وأنها جميعًا تقع في النصف الثاني من شهر رمضان المعظم.

في الحقيقة، هناك الكثير من الروايات المنسوبة إلى الأئمة من آل البيت، والتي تتضافر على إثبات ذلك المعتقد، من ذلك أن الإمام السادس، جعفر الصادق، لما سُئل عن ليلة القدر، فإنه قد أجاب السائل، بقوله: «اطْلُبْهَا فِي تِسْعَ عَشْرَةَ- وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»، وذلك بحسب ما يذكر محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى 1104هـ في كتابه «وسائل الشيعة».

يمكن القول إن الليلتين الأوليين المذكورتين في الرواية السابقة قد ارتبطتا بمجموعة من الأحداث والوقائع التاريخية المهمة في الذاكرة الشيعية الجمعية، ذلك أن ليلة التاسع عشر من رمضان في سنة 40هـ قد شهدت إصابة الإمام الأول علي بن أبي طالب على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي، أما ليلة الحادي والعشرين فقد شهدت وفاة ابن عم الرسول متأثرًا بإصابته.

فيما يخص ليلة الثالث والعشرين من رمضان، فقد  احتلت هي الأخرى منزلة كبيرة في الوجدان الشيعي، وهي الليلة التي تُسمى بليلة الجهني، ويتحدث الكثير من المصادر الشيعية عن سبب تسميتها بهذا الاسم، ومن ذلك ما ذكره محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460هـ في كتابه «تهذيب الأحكام»، من أن أحد صحابة الرسول -ويدعى عبد الله بن أنيس الأنصاري الجهني- كان يسكن بعيدًا عن المدينة المنورة، وكان من الصعب عليه الحضور يوميًّا لإقامة الصلاة مع المسلمين، فطلب من الرسول أن يحدد له يومًا ليحضر فيه إلى المدينة، فأسر له الرسول بشيء ما، وبعدها كان عبد الله بن أنيس حريصًا على القدوم للمدينة في ليلة الثالث والعشرين من رمضان في كل عام، ومن هنا أدرك الصحابة أهمية تلك الليلة، فرجحوا أنها ليلة القدر، وسموها بليلة الجهني.

تأسيسًا على ما سبق رجحت الأغلبية الغالبة من علماء الشيعة أن ليلة الجهني هي نفسها ليلة القدر المذكورة في القرآن الكريم، والتي قيل إن الأرزاق توزع فيها على أهل الأرض، وفي ذلك قال محمد بن علي بن بابويه القمي، المعروف بالشيخ الصدوق والمتوفى 381هـ، في كتابه الخصال: «اتفق مشايخنا على أنها -أي ليلة القدر- ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان»، وكمحاولة للتوفيق بين الروايات المختلفة، ساد الاعتقاد بين الشيعة بأن ليلتي التاسع عشر والحادي والعشرين، هما ليلتان ممهدتان لليلة ثلاث وعشرين، وفي ذلك نقل محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ في كتابه «الكافي»، عن جعفر الصادق، موضحًا العلاقة بين الليالي الثلاث: «التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين».

رمزية ليلة القدر في المُتخيل الشيعي

ارتبطت ليلة القدر بالعديد من الرموز والدلالات ذات التأثير العميق في العقل الشيعي الجمعي، والتي تمحورت -بالأساس- حول مسألة الإمامة، وما تفرع عنها من إشكاليات عن مكانة فاطمة الزهراء، ووجود الإمام الثاني عشر، المهدي الغائب محمد بن الحسن العسكري.

المصادر الشيعية الاثنا عشرية تحدثت كثيرًا عن ليلة القدر باعتبارها أحد الأدلة الدامغة على إمامة الأئمة المعصومين من آل البيت، فذكرت أن في هذه الليلة تم تقدير ولاية علي بن أبي طالب وباقي الأئمة، وفي هذا السياق نقل بهاء الدين الإربلي المتوفى 692هـ في كتابه «كشف الغمة في معرفة الأئمة»، عن النبي قوله: «آمنوا بليلة القدر فإنه ينزل فيها أمر السنة، وإن لذلك الأمر ولاة من بعدي، علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده».

المعنى نفسه ورد في رواية أخرى، جاء فيها أن عليًّا قد قال لعبد الله بن عباس إن ليلة القدر موجودة في كل سنة، وأنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة محددين بعد رسول الله، ولما سأله ابن عباس: من هم؟ قال علي: «أنا وأحد عشر من صلبي، أئمة محدثون».

الكثير من الروايات الشيعية ذكرت أن الملائكة في ليلة القدر من كل عام تتنزل على المهدي المنتظر الغائب، وأنه -أي المهدي- يقوم في هذه الليلة بما قام به الأنبياء والرسل والأئمة من قبله على مر الزمان، من قبول الفيوضات الإلهية والمنح الربانية وتوزيعها على الخلائق، وذلك باعتباره حجة الله على الخلق، وحلقة الوصل بين السماء والأرض.

من هنا، نستطيع أن نتفهَّم الأهمية الكبرى التي تحتلها سورة القدر في المتخيل الشيعي، وهي الأهمية التي ظهرت فيما قاله الإمام الخامس، محمد الباقر، لأتباعه: «يا معشر الشيعة خاصموا بسورة إنا أنزلناه -أي سورة القدر- تفلحوا، فوالله إنها لحجة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنها لسيدة دينكم، وإنها لغاية علمنا …» وقوله في موضع آخر: «فضل إيمان المؤمن بحمله «إنا أنزلناه» وبتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها، كفضل الإنسان على البهائم …».

في سياقٍ آخر، عقدت الروايات الشيعية مقاربة بين مكانة ليلة القدر وسط الليالي ومنزلة السيدة فاطمة الزهراء بين البشر، وفي ذلك المعنى ورد في تفسير فرات الكوفي، عن الإمام جعفر الصادق: «اللَّيْلَةُ فَاطِمَةُ وَالْقَدْرُ اللَّهُ فَمَنْ عَرَفَ فَاطِمَةَ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ». كما قيل إن ليلة القدر التي «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»، تتشابه مع الزهراء التي فرق بها الله بين الحق والباطل.

من جهة أخرى، ربطت بعض التأويلات الشيعية بين فاطمة وليلة القدر فيما يخص البركة ومعنى الاسم، فقالت إنه: إذا كانت ليلة القدر ظرف زماني للبركة والخير، فإن الزهراء ظرف مكاني للإمامة، لكونها المستودع الذي خرج من رحمه الحسن والحسين؛ كما قيل إنه إذا كانت ليلة القدر مجهولة وغير معينة، فإن الزهراء إنما سُميت بفاطمة لأن الخلق قد فُطموا عن معرفتها.

أيضًا، استعانت السردية الشيعية بسورة القدر، لدفع الاتهامات الموجهة لبعض الأئمة، ومن ذلك ما أورده محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه «بحار الأنوار» من أن أحد الشيعة قد لام الحسن بن علي بعدما سلم الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في 41هـ وقال له: سودت وجوه المؤمنين! فرد عليه الحسن بأن رسول الله رأى في منامه بني أُمية يطئُون منبره واحدًا بعد واحد، فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ» إلى قوله: «خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْر»، يعني أن مُلك بني أمية سيمتد لألف شهر، بدءًا من وصولهم للسلطة في 41هـ وحتى سقوط دولتهم في 132هـ.

الطقوس الشيعية في ليالي القدر

رغم اشتراك الشيعة مع باقي المسلمين في بعض الطقوس والشعائر التي تتم ممارستها في ليلة/ ليالي القدر، ومن بينها كل من الغُسل، والاجتهاد في العبادة، وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم، فضلًا عن ذكر الله وإخراج الصدقات والدعاء. فإن الثقافة الشيعية قد حددت مجموعة أخرى من الطقوس التي يحرص الشيعة على تأديتها في تلك الليالي تحديدًا، والتي لا وجود لها في الأوساط السنية.

من أشهر تلك الطقوس الشيعية فتح المصحف ووضعه على الرأس أثناء الدعاء، وهو الطقس الذي شرحه الإمام الصادق لأحد الشيعة، فقال له: «خُذِ الْمُصْحَفَ فَدَعْهُ عَلَى رَأْسِكَ وَقُلِ: اللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذَا الْقُرْآنِ، وَبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلْتَهُ بِهِ، وَبِحَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ، وَبِحَقِّكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنْكَ»، وبعدها يتوسل الشيعي بالله وبالنبي وبفاطمة الزهراء، وبالأئمة الاثني عشر، الواحد بعد الآخر،  وذلك بحسب ما يذكر رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاوس المتوفى 664هـ، في كتابه «إقبال الأعمال».

من تلك الطقوس أيضًا زيارة مرقد الإمام الحسين في كربلاء المقدسة، وكذلك مرقد أخيه أبي الفضل العباس، وتلاوة بعض الأدعية الخاصة بهذه المناسبة، وقد وردت مجموعة من الروايات التي تبشر من يفعل ذلك بالثواب العظيم، ومنها ما ذكره ابن قولويه القمي المتوفى 367هـ في «كامل الزيارات»، أن مناديًا ينادي من السماء في ليلة القدر فيقول: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِمَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ».

من بين الطقوس الشيعية المعروفة في ليالي القدر، قراءة دعاء الجوشن الكبير المروي عن الإمام علي السجاد عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب عن النبي، وقد قيل إن هذا الدعاء قد نزل به جبريل على الرسول في إحدى غزواته، وكان النبي وقتها يرتدي جوشن -درع حديدية تغطي الصدر- ثقيلًا يؤلمه، فقال له جبريل: «يَا مُحَمَّدُ رَبُّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: اخْلَعْ هَذَا الْجَوْشَنَ، واقْرَأْ هَذَا الدُّعَاءَ، فَهُوَ أَمَانٌ لَكَ ولِأُمَّتِكَ».

فضلًا عما سبق توجد بعض الطقوس التي تتم ممارستها في ليلة بعينها من الليالي الثلاث، منها على سبيل المثال أنه في ليلة التاسع عشر من رمضان يُكثَر من لعن قتلة علي بن أبي طالب؛ وفي ليلة الحادي والعشرين، يتم ترديد دعاء الإذن بفرج المهدي المنتظر، والذي ورد فيه «… أَسْأَلُكَ بِجَمِيعِ مَا سَأَلْتُكَ وَمَا لَمْ أَسْأَلْكَ مِنْ عَظِيمِ جَلَالِكَ مَا لَوْ عَلِمْتُهُ لَسَأَلْتُكَ بِهِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَنْ تَأْذَنَ لِفَرَجِ مَنْ بِفَرَجِهِ فَرَجُ أَوْلِيَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَبِهِ تُبِيدُ الظَّالِمِينَ وَتُهْلِكُهُمْ، عَجِّلْ ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ»، بحسب ما ورد في «بحار الأنوار». أما في ليلة الثالث والعشرين من رمضان فمن الشائع قراءة سورة العنكبوت وسورة الروم وسورة الدخان، فضلًا عن قراءة سورة القدر ألف مرة.